جميع الفساد في الجو والأمراض بما كسبت أيدي الناس -الخطبة الأولى من ك ابن القيم-
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله أنعم بالنعم الوافرة فلا يحصيها عادّ، وأوجب شكرَه فترك ذلك ذووا الجحود والعناد، وأهلك أمما كفروا وجحدوا كقوم نوح وفرعون ذي الأوتاد، ومنهم المهلَكون بالريح كقوم عاد، أشهد ألا إله إلا الله ُوحده سبحانه، فالإشراك به أعظم الفساد، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله خير داعٍ لربه وهاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم التناد، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه {اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فما حُفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه؛ فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس، فإنها ألم الروح بالهموم والغموم والأحزان والحسرات، ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد في الهرب، ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمرا كان مفعولا، فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله، وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم والإشراف والإطلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} {يا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}.
عباد الله.. إن مَن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه –كما يقول ابن القيم رحمه الله- يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفاتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحوط والجدوب وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها أو نقصان أمور متتابعة منها يتلو بعضها بعضاً، فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتفِ بقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربهم -تبارك وتعالى- من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم وأهويتهم ومياههم وأبدانهم وخلقهم وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم؛ ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكبر مما هي اليوم، كما كانت البركة فيها أعظم، وقد روى الإمام أحمد بإسناده أنه وجد في خزائن بعض بني أمية سرة فيها حنطة كأمثال النوى".
"وأكثر هذه الأمراض والآفات التي تعم إنما هي بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم حكماً قسطاً وجزاءً عدلاً وقضاءً نافذاً، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله في الطاعون: "إنه بقية رجزٍ أو عذابٍ أُرسل على بني إسرائيل".
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وعلى من بسنته اهتدى، أما بعد: فإن الله سبحانه يقول في محكم كتابه: { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} هذا الجحود كما هو في الكافر، فإنه يتناول ما دونه من أجزاء الجحود بحسبه، فيُرسل الله ريحا مُحمّلة بالأغبرة فيسب ذلك وهو في الحقيقة سبٌ لرب الريح ومدبرِها وصرِّفِها تبارك وتعالى مع ما له سبحانه من الحكمة في ذلك وحسن التقدير فذلك القيل منه هو من جحود نعمة الله عز وجل، وتسمع من يتذمر ويتأفف مما نالنا قبل يومين وذلك من جحود نعمة الله المتفضل بتسليمنا منه أكثر أيام السنة بل كلها إلا قليلا فذلك القيل منه هو من جحود نعمة الله عز وجل، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "الفكرة في نعم الله أفضل العبادة "، فتَأمل عبدَ الله الْحِكْمَةَ البديعة فِي تيسيره سُبْحَانَهُ على عباده مَا هم أحوج اليه وتوسيعِه، وَبِذَلِك بذَلَه فكلما كَانُوا أحوج اليه كَانَ اكثر وأوسع وَكلما استغنوا عَنهُ كَانَ أقل وَإِذا توسطت الْحَاجة توَسط، واعْتبر هَذَا بالهواء فَتَأمل سَعَة الْهَوَاء وعمومه ووجوده بِكُل مَكَان لِأَن الْحَيَوَان مَخْلُوق فِي الْبر لا يمكنه الْحَيَاة إِلَّا بِهِ فَهُوَ مَعَه أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُ كَانَ لأنه لَا يسْتَغْنى عَنهُ لحظه وَاحِدَة وَلَوْلَا كثرته وسعته وامتداده فِي اقطار الْعَالم لاختنق الْعَالم، فَتَأمل حِكْمَة رَبك فِي ان سخر لَهُ الرِّيَاح فَإِذا تصاعد الى الجو أحالته سحابا اَوْ ضبابا فأذهبت عَن الْعَالم شَره وأذاه.
فمن آيَات الله الباهرة هَذَا الْهَوَاء اللَّطِيف الْمَحْبُوس بَين السَّمَاء والارض يجرى بَينهما، وَالطير سابحة بأجنحتها فِي أمواجه كَمَا تسبح حيوانات الْبَحْر فِي المَاء، فَإِذا شَاءَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حركه بحركة الرَّحْمَة فَجعله رخاء وَرَحْمَة وبشرى بَين يَدي رَحمته ولاقحا للسحاب، وَإِن شَاءَ حركه بحركة الْعَذَاب فَجعله عقيما وأودعه عذَابا أليما وَجعله نقمة على من يَشَاء من عباده فَيَجْعَلهُ صَرْصَرًا ونحسا وعاتيا ومفسدا لما يمر عَلَيْهِ، وَهِي مُخْتَلفَة فِي مهابها.
فاللهم ارزقنا شكر نعمتك، وحسن عبادك، وعياذا بك اللهم من جحود النعمة وكفرها، ونستغفرك ونتوب إليك، ألهمنا رشدنا وبصّرنا بالنعم التي بين أيدينا.