جزاء الشكر وعاقبة الجحود – قصتان قصيرة
راكان المغربي
الخطبة الأولى
أما بعد:
كانوا مستضعفين في الأرض، يضطهدُهم الجبابرةُ، ويقهرُهم المتكبرون.
ثم بعد أن نجّاهمُ الله، تاهوا في صحراءِ الأرضِ أربعين سنة، لا تقومُ لهم دولةٌ، ولا يَقِرُّ لهم قَرَار.
وشيئاً فشيئاً مرت السنين، حتى خرجوا من تيههم، وقويتْ شوكتُهم، ونشأتْ مملكةُ بني إسرائيلَ.
وكان ذُرْوَةُ عزِّ هذه المملكةِ في زمنِ داودَ ثم ابنِه سليمانَ عليهما السلام..
يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى في سورة سبأ:
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
فأنعمَ اللهُ على عبدِه داودَ بأنه حين كان يُسبّحُ، فإنّ الجبالَ تُرجِّعُ بالتسبيحِ معه فيسمعونَ تسبيحَها وتمجيدَها لربها، مما يُهَيّجُهم على ذكرِ اللهِ سبحانه.
ومن نعمِه على داودَ -عليه السلام- أنه ألانَ له الحديدَ، ليعملَ به الدروعَ السابغاتِ التي يستعملُها في الحروبِ والبأسِ. ثم قال سبحانه: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
فجزاءُ النِّعمِ هو الشُّكرُ، بأن تُسخرَ تلك النعمُ في الأعمالِ الصالحة.
ثم قال سبحانه: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ)
وحين خلَفَ سليمانُ داودَ، زاده اللهُ من فضلِه، ووهبَ له ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدِه، ومن مظاهرِ ذلك الملك، أنه كان يسيرُ مسيرةَ شهرٍ في نصفِ نهارٍ، ويرجعُ في نصفِ نهارٍ.
ومن ذلك أن الله سيّلَ له عينَ النُّحَاسِ ليصنعَ منها ما يشاءُ، وكان عُمَّالُه من الجنِّ الذين سخرهمُ اللهُ لخدمتِه كما قال سبحانه: (وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ)
فـ" يعملُ هؤلاء الجنُّ لسليمانَ ما أرادَ من مساجدَ للصلاةِ ومن قصورٍ، وما يشاء من صُوَرٍ، وما يشاءُ من قِصَاعٍ مثل حياضِ الماءِ الكبيرةِ، وقدورِ الطبخِ الثابتاتِ فلا يُحرَّكْنَ لعِظَمِهِن". المختصر في التفسير
ثم قال سبحانه: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)
ومرةً أخرى يؤكّدُ اللهُ سبحانَه وتعالى أن هذه النِّعم لا ينبغي أن يكونَ جزاؤُها من العبدِ إلا الشكرَ له سبحانَه، وتسخيرَها فيما يحبُّه اللهُ ويرضاه.
ولما طبقَ داودُ وسليمانُ هذه الأوامرَ، وعملوا بشكرِ اللهِ سبحانه، فأقاموا شرعَ الله، وأظهروا عبادتَه، ودَعَوا إلى توحيدِه، ثبت اللهُ ملكَهم، وقوّى دولتَهم، وأذعنَ لهم أعداؤُهم.
وكان من ثمرات العملِ بهذه النعم، أن دخلت ملكةُ سبأٍ في الإسلام، بعد أن دعاها سليمانُ عليه السلام إلى التوحيدِ، فآمنتْ وأذعنتٍ، وقالت: ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
وبذلك صارت مملكةُ سبأٍ مملكةً مذعنةً للإسلامِ، مقيمةً على توحيدِ اللهِ سبحانه، وظلّوا كذلك ما شاء الله حتى غيّرُوا وبدّلُوا.
وفي سورةِ سبأٍ بعدَ أن ذكرَ اللهُ نموذجَ آل داودَ الذين عملوا بالشّكرِ، ذكرَ نموذجَ قومِ سبأٍ الذين كفروا النِّعَمَ، وغيّروا ما بأنفسِهم، فغيّرَ اللهُ عليهم حالَهم، وتلكَ هي سنَّةُ اللهِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)
يقولُ سبحانه وتعالى يحكي لنا قصةَ قومِ سبأ:
(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)
أسبغَ اللهُ عليهم من النِّعمِ والجنانِ ورغدِ العيشِ، ثم أمرَهم بالشكرِ كما أمر به داودُ وسليمانُ، لكنَّ الاستجابةَ كانت مختلفة.
قال سبحانه: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ)
"أعرضوا عن شكرِ اللهِ، فعوقبوا بتبديلِ نعمِهم نِقَمًا، وأرسل اللهُ عليهم سيلًا جارفًا خرّبَ سدّهم وأغرقَ مزارعَهم، وبُدِّلَتْ جنتيهم ببُسْتانَين مُثْمرَين بالثمرِ المرِّ، وفيهما شجرُ الأثلِ غيرُ المثمرِ، وشيءٌ قليلٌ من السِّدْر" المختصر في التفسير
ثم قال سبحانه مبيناً سنتَه الماضيةَ في عباده: (ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)
ثم ذكر سبحانه مظهراً آخرَ من مظاهرِ النِّعمِ، وصورةً من صورِ كفرانِها وعدم تقديرِها فقال سبحانه: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)
"فجعل اللهُ بين أهلِ سبأٍ في اليمنِ وبين قرى الشام ِالتي بارك اللهُ فيها قرىً متقاربةً، وقدَّر فيها السيرَ بحيث يسيرون من قريةٍ إلى قريةٍ دونَ مشقةٍ حتى يصلوا الشام، ولكنَّهم بطروا نعمةَ اللهِ عليهم بتقريبِ المسافاتِ، وقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا بإزالةِ تلك القرى حتى نذوقَ تعبَ الأسفار، وتظهرَ مزيّةَ ركائبِنا، وظلموا أنفسَهم ببطرِهم نعمةَ اللهِ وإعراضِهم عن شكرِه، فصيّرهم اللهُ أحاديثَ يتحدثُ بها مَن بَعدَهم، وفرقَهم في البلادِ كلَّ تفريقٍ، بحيث لا يتواصلون فيما بينهم" المختصر في التفسير
ثم قال سبحانه: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)
ففي هذه القصصِ آياتٌ يَنتفعُ بها، ويستفيدُ منها كلُّ "صبّارٍ على المكارهِ والشدائدِ، يتحملُها لوجهِ اللّه، ولا يتسخطُها بل يصبرُ عليها. شكورٍ لنعمةِ اللّهِ تعالى يُقِرُّ بها، ويعترفُ، ويثني على من أولاها، ويصرِفُها في طاعته. فهذا إذا سمع بقصتِهم، وما جرى منهم وعليهم، عرفَ بذلك أن تلك العقوبةَ، جزاءٌ لكفرِهم نعمةِ اللّهِ، وأن من فعل مثلهم، فُعِلَ به كما فُعِلَ بهم، وأن شكرَ اللّه تعالى، حافظٌ للنعمةِ، دافعٌ للنقمةِ، وأن رسلَ اللّهِ، صادقون فيما أخبروا به، وأن الجزاءَ حقٌ، كما رأى أنموذجَه في دارِ الدنيا". السعدي
فاللهم إنا نسألك أن تعيننا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
أما بعد:
فلقدْ أنعمَ اللهُ علينا في هذه البلاد بنعمٍ كثيرةٍ، ومننٍ جليلةٍ، من الواجبِ علينا تحقيقُ شكرِها، والحذرُ من جحودِها..
فكم نرفلُ في نعمِ الأمنِ والأمانِ، والوحدةِ والاجتماعِ، والغنى ورغدِ العيشِ، فالواجبُ أن نشكرَ هذه النعم ولا نكفرَها، قال جل وعلا: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)
ومن أعظم الشكرِ للنعم أن نعملَ بهذه النعمِ في طاعةِ اللهِ كما عملَ بها آل داودَ. والويلُ الويلُ إن عملنا بها في المعاصي، وبدَّلنا نعمةَ الله ِكفراً ونكراناً، كما فعلَ قومُ سبأ.
فالاستقامةُ على شرعِ اللهِ هو الذي يحفظُ النعم، بأن نقيمَ شعائرَ الإسلامِ في ظواهرنا وبواطننا، ونتمسكَ بها، ونثبتَ عليها، وندعوَ إليها، ونتعاضدَ لتحقيقِ وحدتِنا، وطاعةِ ولاةِ أمورنا، ونحذرَ ممن يريد أن يحرفَنا عن شريعة ربِّنا، أو يفرقَ شملَنا، ويشقَّ صفَّنَا.
ومن شكرِ النعمِ أيضاً ألا ننسى إخوانَنَا المسلمين المنكوبين في كلِّ مكان، فبيننا وبينهم أعظمُ الروابطِ، وأوثقُ الحبالِ التي تتمثلُ في رابطةِ الأخوةِ الإسلاميةِ، فنقدمُ العون، ونحسنُ إليهم كما أحسن اللهُ إلينا، ولنحذرِ التخلي عن واجبِنا تجاههم، فإنَّ الخِذْلانَ يستجلبُ العقوبةَ، ويُزيلُ النِّعمَ.
اللهم إنا نعوذ بك من زوالِ نعمتك، وتحولِ عافيتك، وفُجاءَةِ نقمتِك، وجميعِ سخطِك.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأبرم لنا أمرا رشدا، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم كن لإخوننا المسلمين في كلِّ مكان، اللهم ارزقنا وإياهم الأمنَ والطُّمأنينةَ، والعفافَ والغنىَ، واجعل بلادَ المسلمينَ بلاداً آمنةً مستقرةً رغيدةً.
اللهم وفقنا لاتباع أمرك، والعمل بشرعك، والشكر لنعمتك.
المرفقات
1713942204_جزاء الشكر وعاقبة الجحود – قصتان قصيرة.docx
1713942204_جزاء الشكر وعاقبة الجحود – قصتان قصيرة.pdf