جزاء الإحسان

هلال الهاجري
1444/08/09 - 2023/03/01 07:48AM

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

(يَاأَيُّهاَ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:

فسألَ رسولُ السَّماءِ رسولَ الأرضِ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الإحسانِ، فأجابَه بقولِه: (الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)، فأخبرَ صلى اللهُ عليه وسلمَ أن مَرتبةَ الإحسانِ على درجتينِ، وأن للمُحسنينَ في الإحسانِ مَقامينِ مُتفاوتينِ: مقامُ المشاهدةِ: أن تَعبدَ اللهَ كأنك تراه، ومقامُ الإخلاصِ والمراقبةِ: وهو استحضارِ مُشاهدةِ اللهِ لَكَ.

فإذا حَقَّقتَ أَحدَ المَقامينِ، فأنتَ مُحسنٌ، وَمِمن قَالَ اللهُ تَعالى فِيهم: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، فما هو أثرُ الآيةِ على قلبِكَ وجوارحِكَ وعملِكَ أيُّها المُحسنُ، عِندَما تَعلمُ أَنَّ اللهَ تَعالى مَعكَ؟، إنها واللهِ مما (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ).

فَإذا كَانَ اللهُ سُبحانَه مَعكَ، فَمَعكَ العزيزُ الذي لا يُغالبُ، ومَعكَ الحيُّ الذي لا يَموتُ، ومَعكَ القيومُ الذي لا ينامُ، ومَعكَ القُوَّةُ التي لا تُهزمُ، ومَعَكَ الكَريمُ الذي لا تَنقصُ خَزائنُه، فَإِنْ كَانَ اللَّهُ مَعَكَ فَمَنْ تَخَافُ؟، مَنْ تخافُ وأنتَ مَعكَ الذي لا مَانعَ لما أَعطى ولا مُعطيَ لما منعَ، ولا رادَ لأمرِه.

رافقَ وصفُ الإحسانِ يوسفَ عليه السَّلامُ في كلِّ أحوالِه، وهو شابٌ: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، وحينَ كانَ في السِّجنِ: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، ولمَّا أصبحَ وزيراً للدَّولةِ: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، ولذلكَ كانَ اللهُ معه في كلِّ الأوقاتِ، وأعانَه على اجتيازِ المصاعبِ والأَزماتِ، فألقاهُ إخوانُه في غَيَابَةِ الْجُبِّ مقهوراً، فأخرجَه اللهُ إلى قصرِ العزيزِ منصوراً، (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ)، فأنجاهُ ربُّه: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)، وأدخلوهُ ظُلماً في السِّجنِ أسيراً، فأخرجَه اللهُ تعالى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ وزيراً، وبعدَ أن قالوا: (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا)، ها هم بعدَ سنينَ: (قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)، لقد كانَ يوسفُ مُحسناً صابراً، فكانَ اللهُ معَهُ حافظاً ناصراً، (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

من كانَ اللهُ معه هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَشَاقُّ، وَانْقَلَبَتِ الْمَخَاوِفُ فِي حَقِّهِ أَمْنَاً، فَبِاللَّهِ يَهُونُ كُلُّ صَعْبٍ، وَيَسْهُلُ كُلُّ عَسِيرٍ، وَيَقْرُبُ كُلُّ بَعِيدٍ، بِاللَّهِ .. تَزُولُ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ، فَلَا حَزَنَ مَعَ اللَّهِ وَلَا هَمَّ، وَلَا شَقَاءَ مَعَ اللَّهِ وَلَا غَمَّ، هيَ مَعِيَّةُ الحِفْظِ للْعَبْدِ وَالحِيَاطَةِ وَالنُصْرِةِ، فما أجملَها من آيةٍ: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

كلُّ شيءٍ خاشعٌ لهُ، وكلُّ شيءٍ قائمٌ به، من تكلَّم سمعَ نُطقَه، ومنْ سكتَ عَلمَ سِرَّه، ومن عاشَ فعليه رزقُه، ومن ماتَ فإليه مُنقلبُه، لا ينقصُ سلطانُه بالمعصيَّةِ، ولا يزيدُ ملكُه بالطَّاعةِ، ولا يستغني عنهُ من تولى عن أمرِه، السِّرُ عندَهُ علانيةٌ، والغَيبُ عندَه شهادةٌ، فسبحانَه من ربٍّ ما أعظمَ شَأنُه.

(سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، كانتْ عائلةُ موسى عليه السَّلامُ عائلةَ الإحسانِ، ولذلكَ قالَ اللهُ تعالى لأمِّه لمَّا خافتْ من جُنودِ فرعونَ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)، وسبحانَ اللهِ .. هل تكونُ النجاةُ في إلقاءِ هذا الطِّفلِ الرَّضيعِ في البحرِ؟، الجوابُ: نعم، فإذا كانَ اللهُ تعالى هو الحافظُ، فَالمَخاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمانُ، يَقولُ اللهُ تَعالى لَها: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي)، بل تأتي بُشارتانِ مُتتابعتانِ: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ .. وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

ثُمَّ يأتي الأمرُ إلى البحرِ: (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ)، فهذا الطَّاغيةُ التي تخافينَ منه على الصَّغيرِ، هو الذي من سيُربِّيه في قصرِه الكبيرِ، وسيحميه وجنودُه بإرادةِ العزيزِ القديرِ، ثمَّ يتحقَّقُ الوعدُ بالرُّجوعِ، (فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ)، فلا إلهَ إلا اللهُ .. تُلقيه في اليَمِّ خوفاً عليه من فرعونَ ذي الفَسادِ، فيرجعُ إليها بأمرِه وتحتَ حِراسةِ الأجنادِ، ثُمَّ تدورُ الأيامُ ويخرجُ فرعونُ وجنودُه في أَثَرِه ليقتلَه ومن معه من بني إسرائيلَ، (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، فأجابَهم الذينَ يعلمُ عاقبةَ الإحسانِ: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، فجاءَ الفرجُ: (فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)، وكانتْ النَّتيجةُ الحتميَّةُ: (وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)، فأيُّ تفسيرٍ يحتاجُ بعدَ ذلكَ لقولِه عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

إنه الإحسانُ .. وما أدراكَ ما الإحسانُ .. (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ).

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَنَفَعَنِي وَإِيَاكُم بِمَا فِيهِ مِن الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ .. أَقُولُ قَولِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِكَافَةِ المُسْلَمَين مَن كُلِ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ تمَّ نورُك فهديتَ فلكَ الحمدُ، وعَظمَ حلمُك فعفوتَ فلكَ الحمدُ، وبسطتَ يدَكَ فأعطيتَ فلكَ الحمد، وجهُك أكرمُ الوجوهِ، وجاهُك أعظمُ الجاهِ، تُطاعُ فتشكرُ، وتُعصى فتغفرُ، وتُجيبُ المضطرَ، وتَكشفُ الضُّرَ، وتَغفرُ الذَّنبَ، وتُجيبُ دعوةَ الدَّاعِينَ، أحقُّ من ذُكرَ، وأحقُّ من عُبدَ، وأرأفُ من مَلَكَ، وأجودُ من سُئلَ، وأوسعَ مَن أعطى، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّ الإحسانِ، عَبِدَ اللهَ كأنَه يراهُ رأيَ عِيانٍ، وعلى آلِه وصحبِه والأتباعِ بإحسانٍ، أما بعد:

خرجَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ مُهاجراً، فخرجتْ قريشٌ خلفَه تُريدُ قتلَه، فاختبأَ هو وصاحبُه في الغارِ، يقولُ أَبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا، قَالَ: (اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا)، وصدقَ بأبي هو وأمي، فهو الذي تلا علينا قولَه تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

اللهُ أَكبرُ .. مَن كَانَ اللهُ معهُ، فمعهُ المَلِكُ الذي لا شريكَ له، والفَردُ الذي لا نِدَّ له، كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَه، أخذَ بالنَّواصي، وكتبَ الآثارَ، ونَسخَ الآجالَ، القلوبُ له مُفضيةٌ، والسِّرُ عندَه علانيةٌ، مالكُ الأملاكِ، ومُدبِّرُ الأفلاكِ، علاَّمُ الغيوبِ، وغفَّارُ الذنوبِ، وستَّارُ العيوبِ، ومُقلبُ القلوبِ، ربُّ الأربابِ، ومُنزِلُ الكِتابِ، ومُجري السَّحابِ، وهازمُ الأحزابِ، سَريعُ الحسابِ.

فَيَا منْ أَرادَ الوصولَ إلى مَرتبةِ الإحسانِ، فانظرْ إلى التَّرتيبِ الذي في حَديثِ جِبريلَ عَليهِ السَّلامُ، فمَن أَقَأمَ أركانَ الإسلامِ، ثُمَّ حَقَّقَ أركانَ الإيمانِ، فإنَّهُ الآنَ قَريبٌ مِن الإحسانِ، وما أَدراكَ ما الإحسانُ.

اللهمَّ أنتَ الذي تَغفرُ الخطيئاتِ وتفرِّجُ الكُرباتِ، وتَقضي الحاجاتِ، وتَستجيبُ الدَّعواتِ وتَدفعُ البليَّاتِ، وترفعُ الدَّرجاتِ وتَسترُ العَوراتِ، وتَمحو الزَّلاتِ، إلهُ الأرضِ والسَّمواتِ، اللهمَّ لكَ أسلمنا وبكَ آمنا وعليكَ توكلنا وإليك أنبنا وبك خاصمنا وإليك تحاكمنا، أصلحْ لنا شأنَنا كلَّه ولا تكلنا إلى أنفسِنا ولا إلى أحدٍ من خلقِك طَرفةَ عينٍ، اللهمَّ كُنَّ للمسلمينَ المُستضعفينَ في كلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمينَ.

المرفقات

1677646136_جزاء الإحسان.docx

1677646147_جزاء الإحسان.pdf

المشاهدات 1538 | التعليقات 0