جريمة الرشوة 29-10-1444 *حسب التعميم*
محمد آل مداوي
إنَّ الحَمْدَ لله، نحمدُه ونَستَعِينُه ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفُسِنا ومِنْ سَيئاتِ أعمَالِنا، مَنْ يَهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.. أما بعدُ عِبادَ الله:
فأُوْصِي نَفْسِي وإيَّاكُم بتقوَى الله، اتَّقوا اللهَ عِبَادَ الله، لا يَعْظُمُ في أعيُنِكُمْ كَبيرٌ مِنَ المَعرُوفِ تَفْعَلُونَه، ولا تَحتَقِروا صَغِيرًا مِنَ المُنكَرِ تَقْتَرِفُونَه، ولا تَخُونوا اللهَ والرَّسُولَ وتَخُونوا أمَانَاتِكُم وأنتُمْ تَعلَمُون.
أيُّها المُسلِمُون: تَحَرِّي مَا أَحَلَّ الله؛ مِنْ أعظَمِ ما أمَرَ بهِ الله، قالَ جَلَّ شَأْنُه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). وقالَ سُبحَانَه: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ). وهُوَ مِنْ أعظَمِ الخِصَالِ التي تَحَلَّى بها النبيُّ r وأصحَابُه، وكانَ أَهْلُ السُّنَّةِ والصَّالحون: يَتَوَاصَونَ بالتعَفُّفِ في المَآكِلِ والمَشَارِبِ والمَكَاسِب.. وَرَدَ في الأثر: (مَنْ أكلَ طَيِّبًا، وعَمِلَ في سُنَّة، وأمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ؛ دخَلَ الجنَّة).
والمُؤْمِنُ باللهِ ولِقَائِه؛ يَتَحَرَّى ما أحَلَّ اللهُ له، ويَجْتَنِبُ ما حَرَّمَ اللهُ عَلَيه؛ فالمَالُ مَالُ الله، والرِّزْقُ بِيَدِ الله، والمَصِيرُ إلى الله، ومَا عِنْدَ اللهِ لا يُنَالُ بِمَعْصِيَتِه، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).
وكلُّ يَدٍ امْتَدَّتْ إلى مَا حَرَّمَ الله؛ إشْبَاعًا لِشَهَوَاتِها، وزِيَادَةً في أَمْوَالِهَا؛ فصَاحِبُها مُتَوَعَّدٌ بِعَذَابِ اللهِ وغَضَبِه، قالَ r : (كلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ السُحْتِ؛ فالنَّارُ أَوْلَى بِه) رواه الترمذي.
إنَّ مِنْ شَرِّ مَا تُصَابُ بهِ الأُمَمُ في أَهْلِهَا وبَنِيهَا؛ أنْ تَمتَدَّ أَيْدِي فِئَاتٍ مِنْ عُمَّالِهَا وأَصْحَابِ المَسْؤولِيَّاتِ فِيها؛ إلى تَنَاوُلِ مَا ليسَ لَهُمْ بِحَقّ، فَصَاحِبُ الحَقِّ عِندَهُمْ لا يَنَالُ حَقَّهُ إلَّا إذَا قَدَّمَ مَالاً، وذُو المَظْلَمَةِ لا تُرْفَعُ مَظْلَمَتُهُ إلَّا إذَا دَفَعَ رِشْوَة.
ولَمَّا ذَمَّ اللهُ سُبحَانَهُ: كَفَرَةَ بَنِي إسرَائِيل، وبَيَّنَ أنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه، وتَوَعَّدَهُمْ بالخِزْيِ في الدُّنيا، والعَذَابِ الأَلِيمِ في الآخِرَة؛ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَه: (وَتَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَـارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* لَوْلاَ يَنْهَـاهُمُ الرَّبَّـانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)، قالَ ابنُ مَسْعُودٍ t: السُّحْت: الرِّشْوَة.
الرِّشْوَةُ عِبَادَ الله: خُلُقٌ ذَمِيم، وإثْمٌ مُبِين، يَحْذَرُهَا الشُّرَفَاءُ الكُرَمَاء، ولَا يَرْتَضِيهَا لِنَفْسِهِ إلَّا الأَرَاذِلُ مِنَ النَّاس.. هِيَ خِيَانَةٌ عِندَ جَمِيعِ أَهْلِ الأَرض، وهِيَ في دِينِ اللهِ أَعْظَمُ إثمًا، وأَشَدُّ مَقْتًا.. الرَّاشِي والمُرْتَشِي والرَّائِش؛ مَلْعُونُونَ عِندَ اللهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ r، مَطْرُودُونَ مِنْ رَحْمَةِ الله، مَمْحُوقٌ كَسْبُهُم، زَائِلَةٌ بَرَكَتُهُم، خَسِرُوا دِينَهُم، وأَضَاعُوا أمَانَتَهُم، اِسْتَسْلَمُوا لِلْمَطَامِع، واسْتَعْبَدَتْهُمُ الأَهْوَاء، وأَغْضَبُوا الرَّبَّ سُبحَانَه، وخَانُوا المُسلِمِين، وغَشُّوا الأُمَّة.. عَنْ عَبدِاللهِ بنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عنهمَا قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ r الرَّاشِي والمُرْتَشِي) رواهُ أبو داودَ والترمذيُّ وقالَ: حَسَنٌ صحيح. وفي رِوَايةٍ للإمَامِ أحمد مِنْ حَديثِ ثَوْبَانَ t قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ r الرَّاشِي والمُرْتَشِي والرَّائِش) يَعْنِي الذي يَمْشِي بَيْنَهُمَا.
ومَهْمَا تَعَدَّدَتْ أَسَالِيبُ الرِّشْوَة، وسُمِّيَتْ بِغَيرِ اِسْمِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ مِنْ حَقِيقَتِهَا شَيْئًا؛ فَهِيَ سُحْتٌ يَبْنِي بِهَا صَاحِبُهَا جَسَدَهُ وأَجْسَادَ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيهِ مِنْ أَهْلِهِ وأَوْلَادِه، وكُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنَّارُ أَوْلَى به.
(ألَا كُلُّكُم رَاعٍ، وكلُّكُم مَسْؤولٌ عن رَعِيَّتِه..)، فاتَّقوا اللهَ رَحِمَكُمُ الله، واعْمَلُوا صَالِحا: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).. باركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، فيا فوزَ المستغفرين!
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسَانِه، والشُّكرُ له على تَوفِيقِه وامتنَانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تَعظِيمًا لشأنه، وأشهدُ أنَّ نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آله وأصحَابِه وسَلَّمَ تسليمًا مزيدًا.
أمَّا بعد: فإنَّ مِنَ الظُّلْمِ العَظِيم، الذي يَجُرُّ المُجتَمَعَ إلى فَسَادٍ عَرِيضٍ، وصَاحِبُهُ مُتَوَعَّدٌ بالعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ في الدُّنيا والآخِرَة؛ أنْ يَأخُذَ الإنسَانُ مِنَ أموَالِ عِبَادِ اللهِ مَا ليسَ له، أو يُسَخِّرَ أدوَاتِ وَظِيفَتِه، أو نُفُوذَهُ لِنَفْعِ نَفْسِه، لا لِخِدْمَةِ الناس.. عن خَولَةَ الأنصَارِيَّةِ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ r قال: (إنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ بغَيرِ حَقٍّ، فلَهُمُ النَّارُ يومَ القِيَامَة) رواه البخاري.
والرِّشْوَةُ تَشْمَلُ كُلَّ مَالٍ أو مَنْفَعَةٍ، مَشْمُولَةٍ بِمِعْيَارٍ دَقِيق؛ حَدَّهُ النبيُّ r بِقَوْلِه: (فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ). ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ). قالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَاوِي الحَدِيث: بَصْرَ عَيْنِي، وَسَمْعَ أُذُنِي. متفقٌ عليه.
والوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ الرِّشْوَةَ ويُحَذِّرَ مِنهَا، ويَسْعَى في إِنْكَارِهَا، بِنَصِيحَةِ المُتَعَامِلِينَ بها، والتَّبْلِيغِ عَنْهُم؛ حِمَايَةً لَهُمْ مِنَ الحَرَام، ورَدْعًا لِغَيْرِهِمْ عَنِ الفَسَاد، وحِفَاظًا عَلَى مَصَالِحِ البِلَادِ والعِبَادِ مِنَ الضَّيَاع.
ألَا فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله، واعْلَمُوا أنَّهُ لا سَبِيلَ للنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ إلَّا بمُرَاقَبَتِهِ سُبحَانَهُ في السرِّ والعَلَن، وأنْ يُقيمَ المُسلِمُ العَدلَ في نَفْسِهِ ومَالِهِ ومَنْ تحتَ يدِه.. وإنَّكُمْ لَمَسْؤُولونَ عَنْ أموَالِكُم: مِنْ أينَ اكْتَسَبْتُمُوهَا؟! وأينَ أنْفَقْتُمُوها؟! فأَعِدُّوا لِمَا تُسْألُونَ عنهُ جَوَابًا، ولا تَنْظُروا إلى مَنْ تَخَوَّضُوا في أموَالِ المُسلِمينَ كَمْ جَمَعُوا؟! فإنَّهُم زَائِلُونَ عَنْ جَمْعِهِم: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا* أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ).
اللهُمَّ يا حيُّ يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام؛ اكْفِنا بحَلالِكَ عن حَرَامِك، وأغْنِنَا بفَضْلِكَ عمَّنْ سِوَاك، واسْتَعْمِلْنَا اللهُمَّ في طَاعَتِك، واجعلنا مفَاتِيحَ للخير، مَغَالِيقَ للشَّر، واجعلنا شَاكِرينَ لِنِعَمِك، مُثْنِينَ بها عليك، قَابِلِيها، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطاهرين، وأزواجِهِ أمهاتِ المؤمنين، وخُلفائِه الأربعةِ الراشدين، وسائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارضَ اللهمَّ عنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا سَخَاءً رَخَاءً وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيقِ إمامَنا وولي أمرنا، اللهم وفّق خادمَ الحرمينِ الشريفين ووليَّ عهده لهداك، واجعلْ أعمالهما في رضاك، اللهم أعزَّ بهم دينَك، وأعل بهم كلمتك، وألبسهم لباسَ الصحة والعافية، واجمع بهم كلمة المسلمينَ يا رب العالمين.
اللهم أصلح قلوبنا، واشرح صدورنا، ويسر أمورنا، واحفظِ اللهمَّ جنودَنا، اللهم انْصُرْهُمْ، وقوِّ عزائمهم، وسدِّدْ رميَهُمْ، واكبِتْ عدوَّهُمْ، وانصرهم على القومِ الظالمين، يا قوي يا عزيز.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحَمْ موتانا، وانصُرنا على مَنْ عادانا.
(ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار).
سبحان ربّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسَلين، والحمد لله رب العالمين
المرفقات
1684403796_جريمة الرشوة 29-10-1444.docx
1684403798_جريمة الرشوة -نسخة للجوال.pdf
1684403798_جريمة الرشوة 29-10-1444.docx.pdf