جرعة أمل لكل مريض

شعيب العلمي
1442/11/02 - 2021/06/12 21:18PM
الخطبة الأولى : الحمد والثناء على الله والصلاة والسلام على رسول الله..  
عباد الله: المرض في حياة الإنسان عرض متكرر الحدوث، متنوع الآلام، متعدد الأشكال، لا تكاد تخلو منه نفسٌ، فمن شفي من مرض عينه شعر بصداع رأسه، فإن سكن الصداعُ أخذته الحمى، فإن بردت ارتفعت ضغطه، فإن خفَتَ هجم عليه عصب ضرسه، وهكذا لا يكاد يخلو يومٌ من ألم، فإن عمّت العافية جسده، نظر .. فإذا بأمّه تتأوه، أو بأخيه يتهوّع، أو ابنه يأنّ أو زوجه تتألّم، هي الحياة حقل أمراض وآلام، وأوجاع وأسقام، (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) .  
والشّأنُ عباد الله أننا خلقٌ ضعاف، يقدّر الله علينا المرض، فنستقبله مرة بالجزع، أن يكون نصيبنا منه الألم والوجع، ومرّة بالحيرة أن لا نجد دواءه، أولا نفهم تشخيصه، أو بالقلق أن حال المرض في تحصيل رزق أو قضاء شغل، أو بالخوف أن يكون المرض سببا للموت : وجديرٌ بالمؤمن أن لا يخاف ولا يجزع، فإنّ المرضَ لا يقرب من موت، كما أنّ الصحة لا تباعد من أجلٍ :    كَمْ مِن صحيحٍ ماتَ مِن غيرِ عِلَّةٍ ** وكَمْ مِن عَليلٍ عَاشَ حِينَاً مِن الدَهرِ  
حريٌ بالمؤمن أن لا يقلق ولا يهلع، وهو يعلم أنّه إنّما أصابه بالمرض ربُّ العالمين، الذي هو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وتأمل كيف أنّ الله قال: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، ولم يقل كتب الله علينا،  لتعلمَ أنّ ما يبتليك الله به من مرض إنّما هو محضُ رحمة، وما يصيبك به من علة إنما هو عين الحكمة، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، وقال رسول الله ﷺ :« عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له »[رواه مسلم]،
ومن الخير الذي يريده الله لك بالمرض، أن يمحوَ سيئاتك ويكفّر عنك خطيئاتك، قال رسول الله ﷺ: « ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به من سيئاته كما تحط الشجرة من ورقها »[رواه مسلم]، وكلّما طال المرضُ كان حظّك من محو السّيئات أكبر، قال ﷺ: « ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة »[رواه الترمذي]، ومع محو الخطيئات وتكفير السيئات ثوابٌ بالحسنات ورفعٌ للدرجات، قال رسول الله ﷺ : «لَا يُصِيبُ مُؤْمِنًا نَكْبَةٌ مِنْ شَوْكَةٍ، فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، إِلَّا حُطَّتْ بِهِ عَنْهُ خَطِيئَةٌ، وَرُفِعَ بِهَا دَرَجَةً»، وكلّما عظم البلاء عظم الجزاء، كما قال المصطفى ﷺ: « إنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء» [رواه الترمذي] ، ويعظم الثواب ويعظم حتّى يصل إلى درجةٍ « يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ » [رواه الترمذي] فأبشر أيها المريض، لعلّ لك عند الله منزلةً لم تبلغها بعملك، يأبى الله إلا أن يوصلك إليها بما يُصيبك من المرض والسقم، فلا تحزن ولا تعجزن . كيف تحزن والمرض عنوان محبة الله لعبده المؤمن، قال رسول ﷺ: (إنّ الله إذا أحبّ قوما ابتلاهم) [رواه الترمذي] ، ولذلك ابتلى الأنبياء والرّسل، فأصيب يعقوب في عينيه، وأصيب أيوب في بدنه، ونبذ يونس بالعراء وهو سقيم، ودخل بن مسعود0على الرّسول الله ﷺ وهو يوعك، فقال: يا رسول الله إنّك توعك وعكا شديدا، قال ﷺ: « أجل، إنّي أوعك كما يوعك الرّجلان منكم»[متفق عليه]، ولمّا سأله سعد بن أبي وقاص0 أيّ النّاس أشدّ بلاء؟، قال ﷺ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ » [رواه الترمذي] .                                                   
ألا فلا يجزعنّ مريضٌ لما حلّ به من سقم، فإنّ في السّماء ربٌّ وصف نفسه بأنّه الشّافي، لن تحتاج معه سبحانه إلى موعدٍ مسبق إذا أردت الدخول عليه، لن تحتاج إلى معارف يسهّلون عليك الوصول إليه، لن تحتاج إلى أموال لتُتِم معالجتك، ولا حجز تذكرة أو سفرٍ لمتابعةِ حالتِك، فقط قل: (يا الله)، قل: (إني مسّني الضّر وأنت أرحم الراحمين)، فإذا بأعظم مستشفى تفتح أبوابها إليك .
فيا عبد الله مهما كان جسدك مريضا عليلا فلا يضرّ ذلك إن كنت ذا قلب سليم، كسلامة قلب أبي الأنبياء إبراهيم، قلبٍ سليمٍ من أي ذرّة شركٍ، سليمٍ من أي تعلّق بغيره: (وإذا مرضت فهو يشفيني) هو وحده لا أحد سواه يشفيك، لا طبيباً فضلا عن ممرض، ولا كاهناً ولا ساحراً،  ولا صاحبَ قبر، ولا تميمة ولا شيء، لن تحتاج إلى غيره إذا أراد شفاءَك، ولن يُفيدك غيره إذا لم يرد برءك، فقط تحتاج قلبا سليما من أي ذرّة شكّ في قدرة الله على زوال مرضك، مهما يكن خطره، ومهما يكن ضرره، لقد مرضتَ كثيرا ومرض غيرك؟ ولقد شفاك وشفاهم؟ فلمَ تظنّ أنّ مرضك هذا لن يشفيك منه؟ لم؟ فكم هو مخجلٌ أن تؤمن بالله ربّا، وأنّه على كلّ شيء قدير، وأنّ كل شيء عليه هيّن، وأنه بالإجابة جدير، وهو مع ذلك كريم لا حدّ لكرمه، غني لا حد لغناه، رحيم أرحم بك من نفسك ومن أمّك التي ولدتك، ثّم يدبّ في قلبك الجزع؟ أو ينخر فؤادك الهلع؟ فتظنّ أنّ الله لا يشفيك؟  ألا وإنّ من أولى خطوات العلاج أن يعالج العبد قلبه من هذا الاعتقاد المريض، بأن يستعيد ثقته في قدرة الله، ويجدد توكله وحسن ظنّه في الله، قال الله تعالى في الحديث القُدسي: «أنا عند ظنّ عبدي بي، إنّ ظنّ بي خيرا فله، وإن ظنّه شرا فله» [رواه أحمد ] ، اللهم اشف منّا كلّ مريض ..
الخطبة الثانية: اعلموا عباد الله: أنّ من رحمة الله تعالى أنّ المرض مهما بلغ من الشدة والعناء، فإنّ الله قدر له العلاج والدّواء، فعن أبي هريرة0قال: قال رسول الله ﷺ: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاءً» [متفق عليه]، وهذا يفتحُ باب الأمل لكلّ مريض فلا ييأسُ من تحصيل شفاء مرضه .                                                 
ومن الأشفية عباد الله وهي أنفعها  وأعظمها القرآن الكريم، فقد قال ربّنا الرّحيم: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)، فالقرآن كلّه من أوله إلى آخره شفاء، فاحرص على استعماله في دفع كل الأدواء، وإن أردت تخصيص آيات فسورة البقرة نافعة، وآية الكرسي منها جدّ ناجعة، وسورة الإخلاص والمعوذتين لكلّ شرّ دافعة، وإن تركت فلا تترك الفاتحة  فهي الكافية الشافية، قال ابن القيم رحمه الله: (ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة، لرأى لها تأثيرًا عجيبا في الشفاء، ومكثت بمكة مدة يعتريني أدواءٌ ولا أجد طبيبًا ولا دواءً، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيرًا عجيبًا، فكنتُ أصف ذلك لمن يشتكي ألمًا، وكان كثير منهم يبرأ سريعًا) [الجواب الكافي] .   
وإذا قرأت القرآن وجدت فيه قصة نبي الله أيوب عليه السلام الذي صار مضربا للمثل في الصبر، لتدلك قصته على نوع آخر من الأشفية وهو التضرع لله تعالى بالدعاء، والتوجه له سبحانه بالالتجاء، قال جل وعلا : (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ )، فاجتهد في الدعاء لتنال الشفاء: (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)، تحرّ أوقات الإجابة وأحوالها، وادع بقلب حاضر واثق، وفؤاد خاشع صادق، وما أدراك فلعل الله ما أصابك بمرضك إلا ليسمع صوتك، ويرى تضرعك، ويبصر دمعتك، قال جل وعلا: (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون).  
وإذا قرأت القرآن مرّ بك قول الله جل وعلا: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)، ليدلّك ذلك على نوعٍ ثالثٍ من الأشفية يغفل عنه كثير من المرضى، ألا وهو التوبة والاستغفار، فإنهّ ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة، ولكم في قصة يونس عليه السلام خير عبرة .   عباد الله: إنه الشّافي سبحانه، يشفيك بسبب، ويشفيك بلا سبب، ويشفيك بأقوى سبب، ويشفيك بأضعف سبب، ويشفيك بأغرب سبب، ويشفيك بما يُرى أنه ليس بسبب، يشفي بالدواء ويشفي بالغذاء، يشفي بالماء ويشفي بالدعاء، يشفي بالصبر ويشفي بالرضا، ويشفي بالتوبة ويشفي بالصدقة، قال
رسول الله ﷺ : « داووا مرضاكم بالصدقة » [صحيح الجامع] . وقصص شفاء المرضى، بسبب الصدقة لا تعد ولا تحصى.                                
عباد الله: هذه خطبة اليوم جرعة أمل زففناها إلى قلب كل مريض يسمعنا الآن لعلها تبعث روح الرجاء، في نيل الشفاء، خطبة اليوم هي ترياق وقايةٍ لكل معافى، حتى إذا ما قدّر الله عليه المرض وجد نفسه مستعدا لاستقباله بقوة المؤمن، خطبة اليوم أمانةٌ نستأمنكم أن توصلوها لمرضى لم يحضروا مجلسنا، ولمبتلين لم يسمعوا حديثنا من أقاربكم وأحبابكم، على حسب وسعكم، أسمعوهم إياها لعلها تكون بردا على قلوبهم، وسلاما على أجسادهم، فإنّ من خير ما يَستدفع العبدُ به مرضه أن تُغرس شجرة التفاؤل في قلبه، وتُسقى بذرة الأمل في فؤاده، فاللهم يا حي يا قيوم اشفنا واشف مرضانا واشف كل مريض، اشف آباءنا وأمهاتنا، وأحبابنا وأقاربنا، اللهم لا تدع في مقامنا هذا مريضا إلا شفيته ولا مبتلى إلا عافيته، اللهم اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاءك شفاء لا يغادر سقما، الله اشف قلوبنا من الأدران، واشف أجسادنا من أسقام . اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، الله أعن أبناءنا وطلبتنا في امتحاناتهم، وارزقهم نجاحا مباركا لأنفسهم وأهليهم وأمتهم أمة الإسلام، والصلاة والسلام على خير الأنام .
المشاهدات 958 | التعليقات 0