جراح غزة .. وجريمة التحريش

عبدالله حمود الحبيشي
1445/04/25 - 2023/11/09 13:30PM

جراح غزة .. وجريمة التحريش


خطبة الجمعة 26 ربيع الآخر 1445هـ

الخطبة الأولى

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ،..

أما بعد .. عباد الله .. في ظل جراحات الأمة العظيمة، وأزماتها الكبيرة، وفي حوادث المسلمين التي تستوجب النصرة والعون والمؤازرة.. يظهر سلاح الشيطان المدمر، وتبرز قوته الضاربة.. وينشط نشاطا حثيثا، فيجيش جيوشه، ويحشد جنوده.. لِيَغير على جموع أهل الإسلام بالتحريش.. التحريش الذي لم ييأس منه إبليس كما قال عليه الصلاة والسلام "إنَّ الشَّيطانَ قد يئسَ أن يعبدَهُ المصلُّونَ ولَكن في التَّحريشِ بينَهم" .

يأس من أن يعبده أهل الإسلام، ولكن لم ييأس ولن يمل ولن يكل عن التحريش بينهم .. لتمزيق الأمة وتفريقها وهو يعلم علم اليقين أن هذه الفرقة والاختلاف من أعظم أسباب الخسارة والهزيمة لذلك حذرنا الله عز وجل منها ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾، في الأوقات العصيبة والكروب الشديدة والبلايا العظيمة للأمة يبث المحرشون تحريشهم ليضعفوا الأمة ويثبطوا الهمم، ويشتت أهل الإسلام عما ينفعهم ويصلح شأنهم ويقوي عزيمتهم .

التحريش من أقذر الأسلحة فما دخل في بلاد إلا فرَّقها، ولا قومٍ إلا مزقهم، يوغر الصدور ويذكي نيران التنازع والتدابر، لا رابح فيه من جميع أطرافه، يضر ولا ينفع ، ويُفسد ولا يُصلح .

التحريش في أمة الإسلام اليوم والذي عمل من أجله شياطين الإنس والجن، يظهر في أكثر من جانب، السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي والديني، ومن أكبر مظاهر التحريش التي ابتُليت بها هذه الأمة وفتكت في سواعد قواها، وأطاحت برايات مجدها، الاختلاف والتفرق، والعصبية المقيتة والتنازع على توافه الأمور والفجور في الخصومة، وفساد ذات البين على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول.

التحريش كلمة لا تحمل إلا معنى الشر؛ ولا خير فيها؛ إذ لم يُحمد التحريشُ لا في شرع ولا عقل ولا فطرة؛ فالتحريش هو الشر من أي الدروب سلكته، فأوله التشويش، وآخره حربٌ كلامية وسِبابٌ وطعنٌ في الأعراض .. فلا يبعد أن تُسفك بسببه الدماء وتَذهب الأرواح .

المحرِّش عدو كُلِ خير، يسعى في الأرض فسادا، يهدم العلاقات، ويشوه النوايا، ويعكر النفوس، ويفرق الجماعات.. يَظهر بثوب الناصح، ويلبس لباس المبين للحق، ويتزيا بزي الفاضح لما لا تعلمون.. وفي حقيقته جمرة في رماد المجتمع، ونافخ كير بين الناس، المحرِّش بذل نفسه ووقته وباع ذمتَه ودينَه ليصبح جنديًّا من جنود إبليس المتطوعين.

ولقد حسم الإسلام سوأة التحريش فنهى عنه وذمه وجعله ضربا من ضروب الخيانة قال الله في كتابه عن المنافقين ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ وهذا والله مما يؤسف له أن يكون بين الناس ﴿سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ جهلا وغفلة وسذاجة .

ذكر مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ مَرَّ بِمَلَأٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَسَاءَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاتِّفَاقِ وَالْأُلْفَةِ، فَبَعَثَ رَجُلًا مَعَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ مَا كَانَ مِنْ حُرُوبِهِمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَتِلْكَ الْحُرُوبِ، فَفَعَلَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ، حَتَّى حَمِيَتْ نُفُوسُ الْقَوْمِ، وَغَضِبَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتَثَاوَرُوا وَنَادَوْا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم، وَتَوَاعَدُوا إِلَى الْحَرَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُمْ فَجَعَلَ يُسَكِّنُهُمْ وَيَقُولُ «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» وَتَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ فَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ وَاصْطَلَحُوا وَتَعَانَقُوا وَأَلْقَوُا السِّلَاحَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

ولكم أن تتصورا أن نفس الأمر يحدث الآن .. تحريش تقوده منظمات ومؤسسات .. حملات موجهة وهجمات مستأجرة، تنشر بين الناس عبر الرسائل ووسائل التواصل تشويها لهذا أو نبزا بهذا فيرد هؤلاء ويعارضهم أولئك.. يشتم محرش دولة فيشتمون الشاتم وبلده والبشر جميعا.. ينتقد محرش الأحداث فينقسم الناس إلى فريقين مؤيد ومعارض في نزاع وشقاق وشتم وسب وفرقة تصل إلى عنان السماء.. حسابات على منصات التواصل الاجتماعي تتدعي أنها من هذا البلد تشتم في ذاك البلد وحسابات من ذاك البلد تشتم في هذا البلد.. وقد فضح الله بعضها وتبين أنها حسابات يديرها الصهاينة وحسابات وهمية وحسابات لا تمت لهذا البلاد ولا لذاك .

ولو فرضنا أن بعض ما ينشر حق فهل هذا وقته أو من المصلحة إظهاره .. في غزوة أحد وهي المعركة التي وقع فيها ما وقع من ألم وجراح وقتل ومصاب جلل .. وكان سببه مخالفة أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع ذلك لم ينكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يعاتب ولم ينبش ويشوش، بل حتى الآيات التي عاتبت المؤمنين نزلت بعد أن وضعت الحرب أوزارها ورجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فلا مصلحة في نبشٍ وتشويشٍ وتشويهٍ ..

فعلى المستمع ألا يثق في القول أو المنقول قبل التبصُّر بصحته، وألا يحكم عليه قبل إدراك حقيقته، فإن من الاغترار تلقِّي الركبان، ومن الغفلة اعتماد القيل لأول وهلة،وقد قيل: فلا تقنع بأول ما تراه؛ فأولُّ طالعٍ فجرٌ كذوبٌ..

نسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين ويوحد صفهم ويكفيهم شر أعدائهم..


الخطبة الثانية ..

الحمد لله رب العالمين ..

أما بعد .. عباد الله .. لا سلامة للفرد والجماعة إلا أن يسدوا باب التحريش قبل أن يقع، ويردموا نقبه بعد الوقوع.

التحريش لا ينتشر في قوم عم القولُ الحسنُ مجالسَهم وأحاديثَهم؛ يتأدبون بأدب القرآن ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾

ويستنون بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القائل "مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ" .. فلا يكون التحريش بين عقلاء يعلمون أن الوقت وقت علاج وإنقاذ ونصرة لا وقت عتاب وشقاق ونقاش .

ومن أعظم العلاجات لهذا الداء الخبيث وأقوى المضادات لهذا السلاح القاتل الترفع عن مجاراة السفهاء والحاسدين، وإكرام النفس وحفظها مما لا يليق بها، فالانشغال بالرد على السفهاء والجاهلين، ومجاراتهم ليس فقط من مساوئ الأخلاق والمخل بالآداب، بل هو إضعاف للعزيمة وفتور للهمة، وانشغال عن المقاصد العليا، وإساءة للنفوس الكريمة الأبية التي تترفع بطبعها عن مجاراة السفهاء والجاهلين والبطالين.

ورُبّ كلام جوابه السكوت، ورب سكوت أبلغ من كلام وهذا توجيه القرآن لنا، قال تعالى ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾

نسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين ويوحد صفهم

المرفقات

1699525842_جراح غزة .. وجريمة التحريش.docx

1699525842_جراح غزة .. وجريمة التحريش.pdf

المشاهدات 681 | التعليقات 0