جذوةٌ مِن رمضان 5 / 10 / 1443هـ
عبدالعزيز بن محمد
أيها المسلمون: مُتوقدُ العَزَماتِ أَسْرَجَ خَيْلَهُ، يَطْوِيْ طريقاً للسعادةِ موصِلُ. مُرابِطٌ على ثغرِ الحياةِ يحمي دِينَه. لا ينثني للهو والغفلاتِ.
عاقِلٌ.. أَبْصَرَ بِبَصِيْرَتِه نهايةَ الأَمرِ الذي ينتهي إليه كُلُّ عبدٍ، وأدركَ خاتمةَ المطافِ الذي ينتهي إليه كُلُ إنسان، وأَن العبدَ يَتَقَلَّبُ في مَرَاحِلِ العُمُرِ سَرِيعاً.. فما يَلْبَثُ أَن ينتهي إلى الساعةِ المحتومةِ ـ ساعةِ الأَجل ــ ثم يَصِيْرُ إلى رَبِه ليجازِيْهِ على أعمالِه التي كانَ قد اقترفها. {إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ} {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ}
فَكُلُّ يومٍ يُمَتَّعُ فيه العبدُ بالحياةِ.. فإنَّهُ قَدْ بُسِطَ لَهُ من العُمُرِ ما بِهِ يَسْتَزِيدُ ويَسْتَعْتِبُ ويَسْتَدرِك. وليأتِيَنَّ عليهِ يومٌ هو آخِرُ يومٍ لَه في هذه الحياة، وليأتينَ عليه ساعةٌ هي آخرُ ساعةٍ له في هذه الحياةِ، ولَيَأَتِيَنَّ عليه صَلاةٌ هي آخِرُ صَلاةٍ له في هَذِهِ الحياةِ، وَلَيَأَتِيَنَّ عليه أَكْلَةٌ هي آخرُ أَكْلَةٍ لَهُ في هذه الحياةِ، وليأتين عليه شربةٌ هي آخرُ شَرْبةٍ له في هذه الحياةِ، وليأتين عليه كلمةٌ هي آخر كلمةِ يَتَفَوَّهُ بِها في هذهِ الحياة.
واللهُ أَعْلَمُ بخاتِمَةِ كُلِّ عبدٍ كيفَ تكونْ. فَكُنْ مُتيقظاً أبداً، جدد توبَتَكَ في كُلِّ حين، صحح مَسِيْرَكَ في كُلِّ آَن. أَدِّ الحقوقَ لأصحابِها، لا تَرْكَنَنَّ إلى طولِ أَملٍ يُقْعِدُكَ عَن حُسنِ عَمَل. تَمَتَّع في الحياةِ بالطيباتِ. وحاذر أَن تَزِلَّ بِكَ قدمٌ إلى شيءٍ من الموبقات. فما يَسُرُّك من الأعمالِ أَن تراهُ مَعْرُوْضاً في صَحِيْفَتِكَ غَداً فبادِرْ إليه. وما يَسُوؤكَ أَنْ تَرَاهُ فِيْهَا.. فَعَجِّلْ بالتوبةِ مِنْهُ النأَيِ عَنْهُ. {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}
عباد الله: أَرَأَيتم كيفَ هي الأعمارُ تَمضي سَرِيعاً.. بيمنا المسلمونَ يَنتظرونَ شَهْرَ الصيامِ يَفِد. إذ غشيهم بنسائمِه الكريمةِ، فما لَبِثَ أَن قيلَ انقضى. فالحمدُ للهِ على نعمةِ الإسلامِ، والحمدُ لله على نعمةِ التمام.
كمْ شَيَّدَ المسلمُ في شهرِهِ للطاعةِ بنياناً، وكم قَرَّبَ لِرَبِّهِ قُرباناً.. صامَ وصَلَّى، وأحسَنَ وتصدق، أطعمَ الطعامَ وقرأ القرآن. وقدَّمَ من القُرُباتِ ما يُسِّرَ لَه.
أعمالٌ يرجو المسلمُ أن يراها يومَ القيامةِ في كِفَّة الحسنات. تَقَبَّلَ اللهُ مِن عِبادِهِ صالحَ العَمَل، وتجاوزَ عَنْهُمْ التَّقْصِيْرَ والخطأَ والزلل، إن ربنا لغفورٌ شكور.
ولئن انطوى الشهرُ وانصرم.. فإن عملَ المسلمِ.. لا ينطوي بانطواء شهرٍ، ولا يتوقفُ برحيل مرحلة. عَمَلُ المسلمِ لا ينقطعُ ولا يتوقفُ من مرحلة التكليفِ إلى أن يأتيه اليقين. قال عيسى عليه السلام حين تكلم في المهد: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} ما دَامَتِ الحياةُ تَدُبُّ في الجسدِ.. فَالوَصِيَّةُ بِالثباتِ على عَمَلِ الصالحاتِ قائمةٌ، وصيةٌ من الله رب العالمين. وبها جاء التوجيه لنبينا صلى الله عليه وسلم {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فلا انقطاع عن عمل الصالحات دون الممات، وإنْ كانَ لِمَوَاسِم الخيراتِ فَضْلٌ.. يجدُرُ مَعَهُ مضاعَفَة الجُهدِ في نيل الحسنات.
ولَقَدْ أَوقَدَ شهرُ رمضانَ في نفوسِ المسلمينَ على الطاعةِ عَزْماً، وجدد لهم طاقةً، وأيقظ لَهم هِمم، وإِن استثمارَ ذلك في تربيةِ النفسِ على ملازَمةِ هذا المسيرِ.. لهو من أَنفعِ الغنائمِ وأَكرمِها.
اعتادَ المسلمُ على الصيامِ شهراً كاملاً، فَلْيَجْعَلُ له إلى صيامِ النافِلَةِ سبيل. واعتاد على القيامِ شهراً كاملاً.. فَلْيَجْعَلُ له من صلاة الليل نصيب، واعتاد على قراءة القرآنِ فلا يَهجُرَنَّه، واعتاد على أنواعٍ من القُرُباتِ فلا يقطَعَنّه. قال أبو هريرةَ رضي الله عنه "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: (صيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهرٍ، وركعتي الضحى، وأن أُوتر قبل أن أنام" متفق عليه
وفي شهرِ رمضان.. قَوِيَ المسلمُ على إِحياءِ رُوْحِ المراقبةِ في قلبِه لله، فامْتَنَعَ عن الشرابِ والطعامِ وسائرِ المُفَطِّراتِ أثناءَ الصيامِ فَلَم يقترف شيئاً من ذلك في السِّرِّ ولا في العلن. لأنه يعلمُ أنه صائمٌ لله، وأَنَّ اللهَ يَعْلَمْ حالَه ويراه. وتلك حقيقةُ التقوى التي مِن أجلها شُرِعَ الصيام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
هذه المراقبةُ لله.. ما أكرَمها أن تكون قرينةً للمسلمِ في جميع أحوالِه، يقفُ عند حدودِ الله لا يتجاوزُها، فيُغضي عن كلِّ نظرةٍ حرام، ويمتنعُ عن كلِّ الذنوب والآثام. لأنه يعلمُ أن الله حرَّمها عليه، وأن الله مُطَّلِعٌ عالمٌ بحالِه ناظرٌ إليه، فكلما دَعَتْه النفسُ الأَمارةُ للهوى.. أشاحَ عنها بِقَلْبِ الذّلِّ إني لخائِفُ {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} بارك الله لي ولكم ..
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
أيها المسلمون: وصيامُ ستةِ أيامٍ من شوالٍ بعدَ رمضان.. فضيلةٌ جاء النصُّ فيها. فعن أَبي أيوبَ الأَنصاري رضي الله عنه : أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» رواه مسلم تلك غنيمةٌ لا تُغْبَنُوها.
عباد الله: ومن تمام العقلِ وصحة الإدراك.. أن يحفظَ المسلمُ كُلَّ حسنةٍ يقترفُها.. فَمَن اجْتَهَدَ في جمعِ الحسنات.. فَلْيُضاعِفِ الجُهدَ في الحفاظ عليها. فإن خزينةً لا تَحْمِي مَالَ صَاحِبِها لهي نقصٌ ووبال. وإنَّ سيئةً يتعدى أثرُها إلى نقصان الحسنات لهي غبنٌ خُسران. فَمِنَ السيئاتِ ما شؤمُها أَخْطَر، وضررُها أَكبَر.. يتعدى أثرُها فيقضي على الحسناتِ فيمحقُها. قال ابن القيم رحمه الله : (ومحبطاتُ الأعمالِ ومفسداتُها أكثرُ من أن تحصر، وليس الشأن في العمل إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه) ا.هـ
وفي الحديثِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابِه يوماً : (أتدرونَ مَنِ المُفْلِسُ؟» قالوا: المفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرهَمَ لَهُ ولا مَتَاع، فَقَالَ: «إنَّ المُفْلسَ مِنْ أُمَّتي مَنْ يأتي يَومَ القيامَةِ بِصَلاَةٍ وصِيامٍ وَزَكاةٍ، ويأتي وقَدْ شَتَمَ هَذَا، وقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وهَذَا مِنْ حَسناتهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه قَبْل أَنْ يُقضى مَا عَلَيهِ، أُخِذَ منْ خَطَاياهُم فَطُرِحَتْ عَلَيهِ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ». رواه مُسلم
اللهم احفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا..