جدية الدعاة بين الإفراط والتفريط أ.شريف عبد العزيز- عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
لو أردنا أن نضع وصفاً جامعاً لدين الإسلام نترجم به قيمه ومبادئه ومنهجه وعقيدته وشريعته؛ فلن نجد أفضل من وصفه بدين الأخلاق؛ فرسالة الإسلام هي رسالة مكارم الأخلاق، وبعثته -صلى الله عليه وسلم-كانت لإتمامها؛ فالأخلاق هي ترجمة الإنسان، وصورة ما يؤمن به، ومعيار صدق انتسابه لمعتقداته؛ لأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذى منحه الله طاقات متميزة من الإدراك والتفكير وحرية الإرادة، لذا جاء سلوكه مرتبطاً بفكره، ومتوافقاً مع ما يدين به من اعتقاد، وعلى هذا جاءت كلمة أهل العلم في وصف الأخلاق في الإسلام.
قال ابن منظور -رحمه الله- في لسان العرب: "وفي التنزيل؛ (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4] والجمع: أخلاقٌ، ولا يكسَّر على غير ذلك، والخُلْق: السَّجية، والخُلُق: هو الدِّين والطَّبع والسَّجية، وحقيقته أنَّه لصورة الإنسان الباطنة -وهي نفسه- وأوصافها ومعانيها المختصة بها؛ بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة".
وقال ابن حجر -رحمه الله- في شرح كتاب الأدب من صحيح البخاري قال الرَّاغب: "الخَلق والخُلق في الأصل بمعنى واحد، كالشرب والشرب، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالتقوى والسجايا المدركة بالبصيرة؛ فالشكل والصورة التي تدرك بالبصر هذا خلق، والسجايا والطبائع التي تدرك بالبصيرة تسمى خلقاً".
وقال القرطبي -رحمه الله-: "الأخلاق: أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة؛ فالمحمودة على الإجمال: أن تكون مع غيرك على نفسك؛ فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، والشفقة، والتودد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك كله".
ولذلك؛ فإن من أهم خصائص منظومة الأخلاق في الإسلام؛ الشمولية، فهي تشمل كافة جوانب حياة الإنسان، فصاحب الخلق ينسجم في عبادته مع ربه، وفي تعامله مع نفسه ومع غيره؛ فلا يظلم نفسه، ولا يجور أو يتعدى على غيره، بل يعامل الناس جميعاً بالصدق والإنصاف، منطلقاً من القيم والمبادئ التي أمره الله بها، ولا فرق في ذلك بين تعامله مع من يحب، أو مع من يكره، قال -تعالى-: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة:8].
فثمرة الأخلاق الحسنة تظهر في القيم والمبادئ التي تقود الإنسان إلى السلوك الحسن والأهداف العالية، التي يتحرك بها الإنسان في تعاملاته مع أبناء مجتمعه، نحو تحقيق أسمى المعاني، وأكمل الأهداف العامة والخاصة، والتي تتمثل في جميع شؤون حياته.
والأخلاق منها المحمود، ومنها المذموم، والمحمودة هي التي أمرنا الشارع بها، ولها صور كثيرة يصعب حصرها، منها على سبيل المثال: الرحمة، والكرم، والعفة، والصبر، ومساعدة الآخرين في قضاء حوائجهم، وغيرها، والأخلاق المذمومة هي التي نهانا الإسلام عنها، وهي تكاد تكون عكس المحمودة، ويندرج تحت كل خلق من الأخلاق بشقيها (المحمودة والمذمومة) العديد من الفروع والصفات. وكل خلق من الأخلاق المحمودة هو في حقيقته توسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وهما مذمومان، فكل شيء زاد عن حده ينقلب إلى ضده.
واليوم سوف نتكلم عن خلق هام لا يستغني عنه داعية أو خطيب يقع فيه كثير من الخلط والاضطراب بسبب عدم الفهم لطبيعة وآلية تطبيق هذا الخلق الهام ليؤتي أكله في ميدان الدعوة والخطابة وطلب العلم، ألا وهو خلق الجدية.
تعريف الجدية
الجد ضد الهزل، وهو أخذ الأمور بقوة واجتهاد، دون تهاون أو تراخي أو استسهال، والاهتمام والاتقان والمضي قدماً دون تردد أو تراجع؛ فالجدية روح العديد من أخلاق القوة والمثابرة والإقدام، وهي كلمة السر في نجاح الدعوات والرسالات، قال -تعالى-: (يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[ مريم 12]، وقال -تعالى-: (كَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[ آل عمران 146] ووصف الله -عز وجل- القرآن الكريم بقوله: (إنه لقول فصل وما هو بالهزل)؛ فالجدية روح القرآن وسمته السارية بين آياته وسوره.
أهمية الجدية في الدعوة
الجدية صفة أساسية وخلق لازم للمؤمنين الذين اصطفاهم الله واختارهم لخلافة رسله وخدمة دعوته، فعاشوا من أجلها، وماتوا على دربها وفي سبيلها، حيث تطبع بصماتها وتتحلى مظاهرها في جل المواقف والأحوال، ونلمس هذا المعنى من ذلك النداء الرباني في قوله -تعالى-: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)[مريم 12].
يقول ابن كثير -رحمه الله-: أي تعلم الكتاب بقوة، أي بجد وحرص واجتهاد، وقوله: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[مريم:12]، أي؛ الفهم والعلم، والجد والعزم، والإقبال على الخير والإنكباب عليه، والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث.
وقال بعض أهل العلم: يبدأ الله -تعالى- بهذا النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة ، لأن مشهد النداء مشهد رائع عظيم، يدل على مكانة يحيى، وعلى استجابة الله لزكريا في أن يجعل له من ذريته وليًّا، يحسن الخلافة بعده في العقيدة وفي العشيرة؛ فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف انتدابه ليحمل الأمانة الكبرى؛ (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)[مريم: 12]، والكتاب هو التوراة، وقد ورث يحيى أبوه زكريا، ونودي ليحمل العبءَ، وينهض بالأمانة في قوة وعزم، ولا يضعف ولا يتهاون، ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة".
فالجدية ضرورية للمؤمنين عموماً والدعاة خصوصاً، فبها تؤدَّى الأوامر والواجبات، وتبلَّغ الرسالات، وتنتشر الدعوات، ويُتغلب بها على العقبات، وتواجه بها الصعاب والمشقات، وتتحقق بها الأهداف والغايات، وبدون الجدية تضيع الجهود المبذولة، وتذبل شجرة الدعوة، وتخبو رايتها، وتضيع أمانتها.
والجدية مفتاح النجاح وتحقيق الذات، والنبي -عليه الصلاة والسلام- حثنا على الجد بقوله: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز "، والمؤمن القوي الجاد لا يعجز ويترك العمل، بل يغتنم ساعات عمره في طاعة الله -تعالى- وخدمة دينه.
علامات الجدية
الجدية سمة من سمات الصالحين والسالكين على الدرب، لذلك تجدها ماثلة في كل أنشطتهم وسعيهم، فتجد الجدية في العبادة، والجدية في طلب العلم، والجدية في طلب الرزق، والجدية في مواجهة الأزمات، والجدية في التربية، والجدية في الدعوة، وحتى الجدية في الدعابة والفكاهة؛ فالشخص الجاد، جاد في كل شيء، حتى في تطلعاته وطموحاته؛ فهو جاد في أفكاره وأمانيه والخواطر التي تتولد في صدره، بمعنى أنه يفكر دائمًا كيف يعمل على رفعة شأن الدين؟ وهذه الأماني قد تكون كاذبة، وقد تكون أماني صحيحة، فإذا كانت الأماني مقرونة بالأعمال، متبوعة بالعمل، فهذه أماني جادة.
ومن أبرز علامات الجدية: الحفاظ على الأوقات واغتنامها في أنفع السبل، والشح بأوقاته أن تضيع فيما ينفع، فضلاً عن إضاعتها في السفاسف والتوافه، بل إن سلوك الجدية يقود أصحابها إلى تنظيم الأوقات لتعظيم المحصول منها؛ فالواجبات كثيرة، وتميز الفاضل عن المفضول وتحديد الأولويات يحتاج إلى بصيرة وجدية.
ومن علامات الجدية -أيضا-: الإحساس بالمسئولية، وعظم التبعة الواقعة على كاهل الدعاة والخطباء في هداية الناس وتعليمهم أمور دينهم؛ فالجدية تدفع أصحابها للمواصلة رغم الصعاب، والمثابرة رغم التعب، والتفاؤل رغم الإعراض، والعمل بلا ملل أو كلل، وتسخير كل ما في الحوزة من مال وجهد ونفس ووقت للوصول إلى الغايات وتحقيق الأمنيات.
ومن علامات الجدية: التطور؛ فالداعية الجاد تجده كل يوم في شأن خير ونفع لنفسه ولدعوته، في علو وارتقاء، فالجدية دواء التذبذب والتردد، ذلك لأن الجدية شعار المؤمنين، والتذبذب شعار الضعفاء والمنافقين، قال الحسن البصري: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت فيه شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي"، وهذا التطور نابع من كون الداعية الجاد صاحب مشروع وهدف يسعى من أجله، لذلك فهو في عمل مستمر، مهما صار عليه من الضغوط، والأزمات والمصائب، عنده دائمًا باب عمل، يتغلب به على الصعاب والمشاق والعوائق.
من علامات الجدية: الهمة العالية، فالداعية الجاد ليس له سقف لطموحاته وأهدافه، فأقصى أمانيه رضا ربه وتبليغ دعوته، وكلاهما غايتان لا تدركان إلا بالهمة العالية والعزيمة القوية، والسير الحثيث؛ فهذا الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله- -تعالى- يقول عن نفسه: "حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة".
ومما يدل على علو همته وقوة تحصيله ما أخبر به عن نفسه قال: " جاءني يوماً رجل فسألني عن شيء في علم العروض، ولم أكن نشطت له قبل ذلك، فقلت له: إذا كان غداً فتعال إلىَّ"، وطلب سفر العروض للخليل بن أحمد، فجاءوا له به فاستوعبه وأحاط بقواعده وكلياته في ليلة واحدة، يقول: "فأمسيت غير عروضي، وأصبحت عروضياً.
الجدية بين العبوس والهزل
كما أن الأخلاق الحميدة والصفات العليا وسط بين طرفين، واعتدال بين إفراط وتفريط، وكذلك الجدية؛ فهي وسط بين إفراط يقود صاحبه من الجدية إلى العبوس والتقطيب والكآبة المصطنعة، وتفريط يقود صاحبه إلى الهزل والخفة وسوء الهيبة وتجرؤ الآخرين.
والإشكال الحقيقي الذي يتعرض لها كثير من الدعاة والخطباء أن تحقيق الاعتدال في مسألة الجدية تحديداً تحتاج إلى جهد ودربة وتمرس ومثابرة، ذلك أن الداعية والخطيب يحتاج إلى غلالة من الوقار يكسو بها هيئته ودعوته، لأن ذلك أوقع في نفوس المستمعين والمخاطبين، وأبلغ في نفوسهم وقلوبهم، والصحابة رضوان اله عليهم كان الواحد منهم لا يقدر أن يملأ عينيه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-من شدة وقاره وهبيته، وكان بعضهم يترجف من شدة هيبته -صلى الله عليه وسلم-؛ فيهون عليهم ويداعبهم ويتواضع لهم.
وأثناء محاولة الاقتداء بهديه وسمته ودلّه -صلى الله عليه وسلم-ينجرف بعض الدعاة والخطباء على العبوس والكآبة والغلظة والتجهم وربما التكبر من حيث لا يشعرون، وكلها أمور منفرة تفر منها النفوس والقلوب، وتبغضها الطباع والعقول.
والعبوس مذموم شرعاً وعقلاً، قال ابن منظور: يقال: عبس يعبس عبسا وعبس: قطب ما بين عينيه، ورجل عابس من قوم عبوس. ويوم عابس وعبوس: شديد، وعبس تعبيسا، فهو معبس وعباس إذا كره وجهه؛ فإن كشر عن أسنانه فهو كالح، وقيل: عبس: كلح. وفي صفته -صلى الله عليه وسلم-: لا عابس ولا مفند؛ العابس: الكريه الملقى، الجهم المحيا والتعبس: التجهم.
وقال الجاحظ: "العبوس هو التقطيب عند اللقاء بقلة التبسم وإظهار الكراهية، وهذا الخلق مركب من الكبر وغلظ الطبع؛ فإن قلة البشاشة هي استهانة بالناس، والاستهانة بالناس تكون من الإعجاب والكبر".
والحق أن نقيض العبوس وهي البشاشة من أهم أسلحة الداعية والخطيب في تبليغ دعوته، وفتح مغاليق القلوب النافرة، فعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق " وعنه أيضا قوله -صلى الله عليه وسلم-: " تبسمك في وجه أخيك صدقة ". وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " كلُّ معروف صدقة، وإنَّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق "أي بوجه ضاحك مستبشر، وذلك لما فيه من إيناس المؤمن، ودفع الإيحاش عنه، وجبر خاطره، وبذلك يحصل التَّأليف المطلوب بين المؤمنين.
قال ابن القيِّم في المدارج نصيحة ذهبية لكل داعية وخطيب يريد أن يجمع بين الجدية والوقار دون الانزلاق إلى نقضيها من العبوس أو الهزل؛ فيقول -رحمه الله-:" طلاقة الوجه والبِشر المحمود وسط بين التعبيس والتقطيب، وتصعير الخد، وطيِّ البِشر عن البَشر، وبين الاسترسال مع كل أحد بحيث يذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة، والبغضة، والنفرة في قلوب الخلق، وصاحب الخُلُق الوسط: مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه، وفي صفة نبينا: من رآه بديهة هابه، ومن خالطه عشرة أحبه".
أما تفريط الداعية والخطيب في خلق الجدية، ومحاولة الانبساط إلى الناس بصورة زائدة عن الحد حتى ينفي عن نفسه تهمة التشدد والتجهم والعبوس، ورغبة في اجتذاب أكبر عدد ممكن من الناس، سيؤدي ذلك لوقوع الداعية والخطيب في آفة الهزل وسقوط الجاه والخفة من حيث لا يحتسب، فلا تجد كلماته ومواعظه موضعاً في قلوب الناس، ولا أثراً في نفوسهم، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: " كثرة الهزل، تبطل عقيدة الجد "، والمقصود هو كثرة الهزل والمزاح، لا أصله؛ فقد قيل لسفيان بن عيينة: المزاح هجنة؟ قال: بل سنة، ولكن الشأن فيمن يحسنه ويضعه مواضعه. وقد اعتبر بعض الفقهاء المزاح وفق ضوابطه وفي أوقاته من المروءة، والتقصير فيه من خوارم المروءة، وشددوا على ذلك في السفر؛ وفي هذا يقول ربيعة الرأي: "إن المروءة من خصال: ثـلاثة فـي الحـضر، وثلاثة في السفر، والتي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، والمزاح من غير معصية ".
وقال النووي -رحمه الله- في الأذكار:" الـمـزاح المـنهـي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه؛ فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكـر الله -تعالى- ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار. فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يفعله ".
والخطيب والداعية يستطيع أن يكون جاداً من غير إفراط ولا تفريط بسلوك طريق الجدية على درب السلف الصالح رضوان الله عليهم، الذين جعلوا الجدية دثاراً قبل أن تكون شعاراً، وذلك باجتناب المعاصي والمنكرات فهي أكثر ما يسقط الجدية والعدالة، وبموافقة أفعالهم لأقوالهم؛ فذاك أقوى لهم، وعيون الناس معلقة بالدعاة والخطباء، ينتظرون منهم الترجمة العملية لكلامهم وخطبهم ومواعظهم، فلو وافقت وقعت في قلوبهم وأثرت في نفوسهم، ولو خالفت، انفضوا عنهم وذموهم.
ويستطيع الداعية والخطيب أن يكتسب الجدية بمخالطة الصالحين والأشباه وأصحاب الهمم العالية والجادين، والبعد والتجافي عن السفهاء والتوافه والأشرار، فالطباع سرّاقة، والخلاّن يتشابهون، والمرء على دين خليله، والشخص إذا كانت همته دنية ما يكون من أصحاب الجدية، وإذا كانت همته سامقة علوية يكون من أصحاب الجدية؛ فالنفوس الصغيرة ترى السعادة في الدعة، والكسل، والخلود إلى النوم والراحة، والإكثار من المطاعم والمشارب، واللهو بالمباحات، وأما الباحثين عن العلا والمكارم، علموا أنها لا تنال إلا بالصعاب، قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة: "فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة، ولا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد، ومن طلب الراحة ترك الراحة".