جبر النفوس ومراعاة المشاعر

عبدالعزيز أبو يوسف
1444/07/09 - 2023/01/31 13:17PM

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين ، مُجيب الداعين ، ومُغيث المستغيثين ، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ، والصلاة والسلام على خير البرية وأزكى البشرية محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد

فاتقوا الله عباد الله تنالوا الخير العظيم في الدنيا والآخرة كما وعد ربكم جل وعلا بقوله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)، وقال سبحانه في وعده للمتقين: ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويُعظم له أجرا) 

أيها المسلمون: إن التعرف على أسماء الله الحسنى وصفاته العلا حامل إلى حُسن  عبادته، ومحبته وخشيته، وتعظيمه وإجلاله، وبحسب معرفة العبد بأسماء الله تعالى وصفاته يكون إيمانه واجتهاده في عبادته، ولقد أثنى سبحانه وتعالى على ذاته العلية، فوصَف نفسَه بصفات الكمال والجلال، فقال في محكم تنزيله:(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، فمن اسماءه جل وعلا وصفاته الجبار، فهو الجبار الذي له العلو على خلقه، الذي علا بمجده وعظمته، في سنن ابن ماجه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: (يأخذ الجبار سماواته وأراضيه بيده، وقبَض يدَه، فجعل يقبضها ويبسطها ثم يقول: أنا الجبَّار، أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون)

إخوةَ الإيمان: وكما أن اسم الجبار فيه صفة علو وقوة لله تعالى، ففيه أيضاً صفة الرأفة والرحمة، ففي سنن الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني"، فالله جل جلاله يجبر الفقير بالغِنَى، والضعيف بالقوة، والمنكسرة قلوبهم بجبرها وإحلال الفَرَج والطمأنينة فيها، ومِنْ لُطفِ الجبارِ وكرمه أنه يَنزل كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظيم سلطانه حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ فيقول: "مَنْ يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟"، فيعافي مبتلى، ويشفي مريضاً، ويغيث ملهوفاً، ويُجيب داعياً، ويُعطي سائلاً، ويُفرِّج كربًا، ويزيل حزناً، ويكشف همًّا وغماً

أيها المباركون:  إن مراعاة نفوس الآخرين ومشاعرهم يدل على سمو نفس صاحب هذا الخُلق، ورجاحة عقله، وسلامة صدره؛ فلذلك كان الحظ الأوفر من هذا الخُلق العظيم لسيد المرسلين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام الذي كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، يُراعي نفوسهم ومشاعرهم، ويتفقَّد أحوالهم، ويسأل عن غائبهم، ويعود  مريضهم، وكان لا يعيب طعاما قط لئلا يضيق صدر صانعه ويُحزنه، وإذا بلغه عن الرجل الشيءُ المكروهُ لم يصرح باسمه، ولكن يقول: "ما بال أقوما يقولون كذا وكذا"؛ حفاظًا على المشاعر وكسباً للود

وكان صلى الله عليه وسلم من كريم أخلاقه إذا ردَّ هديةً اعتذر لصاحبها تطييباً لخاطره، ففي الصحيحين أن الصعب بن جثَّامة -رضي الله عنه- أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً  بالأبواء وهو محرم  فرَدَّه صلى الله عليه وسلم، قال صعب: "فلما عَرَفَ في وجهي ردَّه هديتي، قال: ليس بنا رَدٌّ عليكَ، ولكنَّا حُرُمٌ"، ومن صور جبره صلى الله عليه وسلم للمشاعر ومراعاة النفوس ما رواه النسائي أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يحضر للمسجد بولده، ثم توفي ولده فانعزل عن الناس، فلمَّا فَقَدَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قال ":ما لي لا أرى فلانا؟ قالوا: يا رسول الله، بُنَيُّه الذي رأيتَه هَلَكَ، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بُنيه، فأخبره أنه هلك، فعزَّاه ثم قال: "يا فلان، أيُّما كان أحبَّ إليكَ، أن تمتَّع به عمرك، أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا تجده قد سبقكَ إليه، يفتحه لكَ" قال: يا نبيَّ الله، بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي، لَهُوَ أحبُّ إليَّ، قال: فذاك لك

وكشفت الريح يومًا عن ساقَي ابن مسعود رضي الله عنه فضحك القوم منه ووقع في نفسه ما وقع، فبادر  النبي صلى الله عليه وسلم لتطييب نفسه وجبر مشاعره وخاطره فأعلى شأنه وبيَّن مكانتَه عند ربه، فقال: "والذي نفسي بيده لهما أثقلُ في الميزان من أُحُدٍ"، رواه الإمام أحمد، وحين قُتل عبدالله بن حرام رضي الله عنه في معركة أحد وحزن لذلك ابنه جابر رضي الله عنه واهتم ، رآه النبي صلى الله عليه وسلم منكسراً فقال له: " يا جابر ما لي أراك منكسراً؟" فقال جابر: "استُشهِدَ أبي وترَك عليهِ دينًا وعيالًا "، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مطيباً لخاطره: " ألا أُبشِّرُك بما لقيَ اللَّهُ بهِ أباكَ إنَّ اللَّهَ لم يُكلِّم أحدًا من خلقِه قطُّ إلَّا من وراءِ حجابٍ وإنَّ اللَّهَ أحيا أباكَ فَكلَّمَه كفاحًا وقالَ يا عبدي تمنَّ عليَّ ما شئتَ أعطيكَ قال تردَّني إلى الدُّنيا فأقتلُ فيكَ فقال تبارَك وتعالى لا إنِّي أقسمتُ بيمينٍ أنَّهم إليها لا يُرجَعونَ" رواه الترمذي وابن ماجه.
"قال الأصبهاني رحمه الله في كتابه " الحُجة في بيان المحجة" :" ومن مذهب أهل  السنة : التورع في المآكل والمشارب والمناكح، ومواساة الضُعفاء والشفقة على خلق الله ، فأهل السنة يعرفون الحق، ويرحمون الخلق
 

عباد الله: إن أحكام الشريعة جاءت بمراعاة النفوس والمشاعر وجبرها عند كسرها، فشُرِعت الدية في جبر الخطأ جبرًا لنفوس أهل المجني عليه، وتطييباً لخواطرهم، واستُحبت التعزية لأهل الميت؛ لتسليتهم ومواساتهم، وتخفيف آلامهم، ومن حِكَم زكاة الفطر جبر قلوب الفقراء؛ ليفرحوا بالعيد كما يفرح به الأغنياء، فمراعاة المشاعر وجبر النفوس والخواطر من شريعة الإسلام، فهي عبادة يُتقرَّب بها إلى الرحمان، فصاحب النفس العظيمة، والقلب الرحيم، رؤوف بإخوانه، رفيق بهم، يجتهد لهم في النصح، ويحب لهم الخيرَ كما يحبه لنفسه، ولا يحمل في صدره غِلًّا لهم، ويتجاوز عن هفواتهم، ويلتمس الأعذار لأخطائهم، ويجبر خواطرهم، ويُطيّب نفوسهم عند انكسارها، ولا يخرم مشاعرهم 

وأما صاحب القلب القاسي والكلام الجارح، المعرض عن الناس والتلطف معهم وتفقدهم لا يُبالي بمشاعرهم وما يُفرحهم أو يُحزنهم فقد مضت سنة الله تعالى أن ينفر الناس منه، فلا يُقبَل منه توجيهٌ ولا دعوةٌ، ولا تُسمع منه نصيحة، ولا يرتاح أو يأنس له جليس نعوذ بالله تعالى من هذا الحال

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه العظيم وبسنة نبيه  الكريم ، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد

إخوةَ الإيمانِ:  إذا تقرر لدينا فضل جبر النفوس ومراعاة المشاعر وعظم أجر صاحب هذا الخلق العظيم، فهاكم شيئاً من صور ذلك: فمنها السلام والبشاشةُ عند اللقاء ، والتهنئةُ في الأفراح ، والتعزية في الأتراح ، ومراعاة المشاعر فلا يُستنقص أو يُعير أو يُلمز  فقيراً بفقره ، أو مريضاً بمرضه ، أو عانساً بعنوستها، أو عقيماً بعقمه وفقده نعمة الولد ، أو من به عاهة بعاهته أو يُتكلم بمحضر أولئك عن منافع أو فضل ما فقدوا وعِظم المصاب بذلك؛ فإنه يوغروا صدورهم ويزيد حزنهم ويجرح مشاعرهم، وكلما كان المرء مشاركاً لكل ذي هم همه بنصح أو دعاء أو مواساة ومراعاة لنفسه كان إلى الله تعالى أقرب وأحب فإنما يرحم الله من عباده الرحماء، فهذه عائشة رضي الله عنها تذكَّرت في حادثة الإفك امرأة من الأنصار شاركتها في حزنها بدمعات كان لها أعظم الأثر والمواساة، ففي الصحيحين، قالت عائشة رضي الله عنها:"وقد بكيتُ ليلتين ويوما، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى إني لَأظن أن البكاء فالِقٌ كَبِدي، فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذَنَتْ عليَّ امرأةٌ من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي"، وعندما نزلت آيات التوبة على الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك، وكان أحدهم كعب بن مالك رضي الله عنه، حكى كعب عن تهنئة الصحابة له على توبة الله تعالى عليه فقال :" حين دخلت المسجد قام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة" رواه البخاري ومسلم، .وهكذا حال كثير من أساليب تطييب النفوس ومراعاة المشاعر، يكفي فيها ابتسامة صادقة، أو كلمة حانية، أو اعتذار عن خطأ أو دعاء أو مبادرة بالسؤال عن الحال وغير ذلك من الصور الكثيرة

فما أجمل أن يعيش المرء طيب السريرة ، محباً للخير لغيره فإنه علامة الإيمان كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه" ، رواه البخاري، فيحيا مراعياً لمشاعر الآخرين ونفوسهم من أن يُحزنها أو يُدخل عليها هماً أو غماً خاصة الوالدين والزوجة والأبناء، والإخوة والأخوات وبقية القرابات ومن حوله من جيران وأصدقاء وغيرهم فنعمت الحياة هذه وطوبى لصاحبها، فاجبروا الخواطر عباد الله وراعوا نفوس الآخرين ومشاعرهم، وشارِكُوهم  همومهم وأفراحهم وأتراحهم، وتذكروا أن ذلك عبادة جليلة يجازي عليها الجبار بأجور عظيمة

 

اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر ، جابرين لنفوس الآخرين مراعين لها، محبين الخير للمسلمين 

عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل   عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وأرضى اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا وحرم على النار أجسادنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

   سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

 

 

 

 

المرفقات

1675160190_خطبة جبر النفوس ومراعاة المشاعر.pdf

1675160236_جبر النفوس ومراعاة المشاعر.docx

المشاهدات 1027 | التعليقات 0