جبر الخواطر
mo ab
جبر الخواطر
روى الإمام أحمد في مسنده عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود، أنه كان يجتني سواكا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله ‘: «مم تضحكون؟» قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال: «والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد».
لنتخيل حجم هذه الضحكات من دقة ساقي ابن مسعود على نفسه ومشاعره، كم أثرت وجرحت وآلمت دون أن يشعروا بهذا الجرح والألم، إلا أن الحبيب ‘طبيب القلوب والمشاعر، ومن كمله الله بأعظم الأخلاق وجبر الخواطر، كيف تدارك الموقف بهذه الكلمات التي جعلت من هذين الساقين اللذين كانا محلا للضحك إذ بهما تكونان أثقل في الميزان من جبل أحد، كلمات تعدل الدنيا وما فيها على نفس ابن مسعود ¢.
عباد الله: إن جبر الخواطر سجية تدل على سمو نفس صاحبها، ورجاحة عقله، وسلامة صدره؛ فلذلك كان الحظ الأوفر منها لسيد المرسلين وإمام المتقين، فقد كان ‘ أصلح الناس قلبًا، وأصدقهم لسانًا، وَسِعَ خُلُقُه الناسَ، سهولةً ورفقًا، وفاضت يداه بالعطايا كرما وجودا، فكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، يجبر خواطرهم، ويتفقَّد أحوالهم، ويسأل عن غائبهم، ويعود مريضهم، وكان لا يعيب طعاما صنعه آدميٌّ؛ لئلا ينكسر خاطره، ويُنسب إلى التقصير فيه، وإذا بلغه عن الرجل الشيءُ المكروهُ لم يصرح باسمه، ولكن يقول: “ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا“؛ حفاظًا على المشاعر وكسبا للود.
جبر الخواطر ذاك دأب أولي النهى***وترى الجهول بكسرها يتمتع
أيها المؤمنون: إن تطييب الخاطر لا يحتاج إلى كثير جهدٍ، ولا كبير طاقةٍ، فربما يكفي البعض كلمةٌ مِن ذكرٍ، أو دعاء، أو موعظة، وربما يحتاج الآخر إلى مساعدة، وينقص ذاك جاهٌ، وينتظر البعض قضاءَ حاجةٍ، ويكتفي البعض الآخر بابتسامة، فعلام يبخل أحدنا بمثل هذه الأخلاق البسيطة التي يكون لها الأثر البالغ في نفوس ومشاعر الآخرين، فعلينا أن نَجتهد بإدخال الفرح والسرور إلى قلوب إخواننا، ولا نبخَل على أنفسنا، فالصدقةُ والخير نَفْعُه يعود إليك، واجبر يا عبد الله بمالك، بفعالك، بكلامك، بابتسامتك، ولتعلم أن من أكرم وأنبل الناس من يجبر خواطر ويقضي حاجتهم؛ فتراه يلاطف ذا، ويبتسم لذا، ويقضي حاجة ذا، وقد قال ‘: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس).
الخطبة الثانية
إذا كان جبر خواطر الناس أجره عظيم عند رب العالمين فإنه في الأقربين أعظم وأوفر أجرا، فليكن يا عبد الله لأهلك من جبر القلوب أوفر الحظ والنصيب، وخاصة الوالدان والزوجة والأبناء والإخوة والأخوات وبقية القرابات، فاجبروا الخواطر، وشارِكُوا الإخوان في المشاعر، وتذكروا أنها عبادة جليلة يجازي عليها الجبار بأجور عظيمة، ففي (صحيح مسلم) قال رسول الله ‘: “إن الله -عز وجل- يقول يومَ القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني؟ قال: يا رب كيف أعودك وأنتَ رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مَرِضَ فلم تعده، أما علمتَ أنك لو عدتَه لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتُكَ فلم تطعمني؟ قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدتَ ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استستقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيتَه وجدتَ ذلك عندي؟“.