جبر الخواطر (أسرار وأخبار) - خطبة عيد الفطر 1445هـ
هشام الذكير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله! خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً.
الله أكبر! عنت الوجوه لعظمته، عز سلطانه، وعم إحسانه.
الله أكبر! كلما ذكره الذاكرون، الله أكبر! عدد ما هلل المهللون، وكبَّر المكبرون، وسبح المسبحون.
اللهم أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً..
قال جل في علاه: " ولتكلموا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون".
يا له من منظرٍ بهيج! حين يتواصى أهل الإيمان على تعاهد الفقراء والمساكين ليلة العيد، فتَرتَجُّ سِكَك المدينة بالتكبير وتحيِّن المحتاجين بفريضة زكاة الفطر جبراً لخواطر الفقراء؛ بإغنائهم عن الطواف في يوم العيد[1].
جبر الخواطر سمة عالية في شريعتنا، ومَعلَمٌ رفيع في عيدنا، وسلوك صادق بين أهل الإيمان، قالها عنها التابعي الجليل سفيان الثوري: " ما رأيت عبادَة أجل وأعظم من جبر الخواطر".
(الجبَّار) اسمٌ من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ومما قيل في معناه أنه – سبحانه - الذي يجبر الكسير ويغني الفقير[2]، فهو – سبحانه – الرؤوف الجابر للقلوب المنكسرة[3]، وهذا المعنى يُثمِر محبة الله والانكسار بين يديه وطلب الحاجات منه وحده لا شريك له[4]. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بين السجدتين: (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي))[5].
يُرشِد ربنا – تبارك وتعالى – في وقت توزيع الميراث إلى إعطاء الحاضرين غير الوارثين من الأقارب والأيتام وذوي الحاجة؛ جبراً لخواطرهم، ولأن نفوسهم متشوفة إليه[6] (( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ))، وجاء التشريع الحكيم بجبر خاطر المرأة التي فارقت زوجها بمتعة الطلاق[7]: (( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ))، ويحث الله – تبارك وتعالى – نبيه صلى الله عليه وسلم على مشاورة أصحابه (( وشاورهم في الأمر )) لما فيه من تسميح خواطرهم وإزالة لما قد يصير في القلوب[8]. وقد عاتب الله نبيه وأنزل قرآن يتلى؛ لانشغاله وإعراضه عن الأعمى، كي لا تنكسر قلوب أهل الإيمان[9] (( عبس وتولى * أن جاءَه الأعمى * وما يدريك لعله يزكَّى ))، ويأمر الله تعالى نبيه بمراعاة خاطر اليتيم والفقير: (( فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر)) ويندب الشارع الحكيم إلى زيارة المريض " مَن عادَ مريضًا، لَم يزلْ في خُرْفَةِ الجنَّةِ حتَّى يرجعَ"[10]، وإذا فارق الدنيا رتَّب الأجور العظيمة على المشي بجنازته؛ جبراً لخاطر ورثته، ولمـَّا بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استشهادُ جعفرِ بنِ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه في غزوةِ مؤتةَ قال لأهلِه: " اصنعوا لآلِ جعفرٍ طعامًا فقد أتاهم ما يشغلُهم ".
ويحث صلى الله عليه وسلم على تطييب خاطر الخادم بالجِلْسِة واللقمة فيقول: " إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ "[11]، وكي لا يكدر المسلم خاطر أخيه ينهى صلى الله عليه وسلم عن إدامة النظر للمجذومين فيقول: " لا تديموا النظر إلى المجذومين "[12].
ويدخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً ويطيب خاطر أبي سفيان بن حرب – وهو رجل يحب الفخر - فيقول: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن "[13].
يأتي العيد ليثبت معنى تطييب الخواطر بين النفوس المؤمنة، وما يتضمنه من صور مشرقة ومعالم وضَّاءَة تبهر العقول بتشريعات رب العالمين " فلله ما أحسن هذا الحكم الإلهي ... ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون "[14]، فافرحوا يا عباد الله واحمدوه واشكروا له (( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيلفرحوا هو خير مما يجمعون )).
معاشر المؤمنين:
(جبر الخواطر) معنى عميق ينطلق من فكرة جسد الأمة الواحد، والتي تولِّد المشاعر الصادقة، والمحبةٍ الصافية بإسعاد أخيك أو تخفيف مصيبة حلَّت به، فجبر المصيبة أن يُفعَل مع صاحبها ما ينساها به[15]، أو أن يرد عنه ما ذهب عنه[16]، فأصحاب المصائب بحاجة إلى تخفيف معاناتهم بالكلمة الطيبة، والفعل الحسن.
جبر صلى الله عليه وسلم خاطر من أثقله همُّ الفقد؛ فقد لقي جابر بن عبد الله فقال له: ما لي أراكَ منكسِرًا ؟ قلتُ يا رسولَ اللَّهِ استُشهِدَ أبي وترَك عليهِ دينًا وعيالًا. فقال: " ألا أبشِّرُك بما لقيَ اللَّهُ بهِ أباكَ؟ إنَّ اللَّهَ لم يُكلِّم أحدًا من خلقِه قطُّ إلَّا من وراءِ حجابٍ وإنَّ اللَّهَ أحيا أباكَ فَكلَّمَه كفاحًا وقالَ يا عبدي تمنَّ عليَّ ما شئتَ أعطيكَ. قال تردَّني إلى الدُّنيا فأُقتَلُ فيكَ فقال تبارَك وتعالى لا إنِّي أَقسمتُ بيمينٍ أنَّهم إليها لا يُرجَعونَ - يعني الدُّنيا - "[17].
(عروة بن الزبير) يرجع من سفرٍ فيموت أحد أولاده، وتُقطَع رجلُه، فيَسمَع به إبراهيم بن محمد بن طلحة فيذهب إليه يواسيه ويقول: " والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أَرَبٌ في السعي، وقد تقدمك عضوٌ من أعضائك وابنٌ من أبنائك إلى الجنة، وقد أبقى الله لنا منك ما كُنَّا إليه فقراء من علمك ورأيك، والكل تبع للبعض، والله ولي ثوابك الضمين بحسابك"[18].
أيها المؤمنون والمؤمنات:
لئن كان (جبر الخواطر) بهذه المراتب العالية، فإنَّ تكدير الخواطر صفة ذميمة وعلامة ينشط لها أهل النفاق، ففي غزوة المريسيع صار بين بعض المهاجرين والأنصار بعض كلامٍ كدَّر الخواطر فأظهر المنافقون ما في نفوسهم[19] (( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ )).
جبر الخواطر يكون برسالة صادقة، وكلمة عابرة، ووقفة نادرة.
جبر الخواطر علامة صدق المحبة بين أهل الإيمان.
جبر الخواطر بين أهل الإيمان ليس له حدود ولا قيود، يكون مع الصغير، والكبير، والذكر، والأنثى.
جبر الخواطر لا يعرف زماناً، ولا مكاناً، ولا لغةً إلا لغة المشاعر وفيض الحب الصادق.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الخطبة الثانية:
(المقدمة)
معاشر المؤمنات الطاهرات:
لَكُنَّ في الإسلام تكريمٌ وتشريف؛ وأثركنُّ في تطييب الخواطر عظيم.
الخواطر تنبض بالمشاعر والأحاسيس، والمرأة هي صانعة المشاعر والأقدر على غرس هذه المعاني بين أفراد الأسرة، يبقى الرضيع في حضن أمه إلى الفطام، ثم ترعاه إلى أن يشِب، وتلحظ أمره إلى يبلغ رُشدَه، وهي مستودَع همومه بعد الكهولة.
(خديجة بنت خويلد) تطيب خاطر نبيينا صلى الله عليه وسلم حين دخل عليها مذعوراً بعد نزول الوحي، فيشكو إليها يقول: (لقد خفت على نفسي) فتقول مباشرة: (( كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ))
يا صغير العيد:
تطييب خاطرك سلوك نبوي كريم، كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يأتون النبي صلى الله عليه وسلم بالباكورة وهي أول الثمر[20]، فيرفع يديه الشريفتين داعياً بالبركة، ثم يعطيه أصغر مَنْ يحضره من الوِلْدَان[21]؛ تطييباً لخاطره بعدما تشوَّفت عَيْنَا ذلك الصغير بالثمرة أول قدومها[22]. ويؤتَى صلى الله عليه وسلم بقدحٍ يشرب منه وعن يمينه غلامٌ هو أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فيستأذن صلى الله عليه وسلم من الغلام تطييباً لخاطره ويقول: ((يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ ))، ويطيِّب صلى الله عليه وسلم خاطر طفلٍ فقد طائره الصغير حين رآه حزيناً فيقول: " يا أبا عمير ما فعل النُّغَيْر؟"[23].
أيها المؤمنون والمؤمنات:
عيدنا أهل الإسلام عيد حب وصفاء وجبرٍ للخواطر، فاجبروا خواطر أهل الإيمان بابتسامة صادقة، أو هدية عابرة، أو زيارة تعزز المحبة والوداد.
(الدعاء).
[1] عند ابن عدي والدار قطني: " أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم ". قال ابن حجر في البلوغ: بإسنادٍ ضعيف. قال ابن باز في شرح البلوغ: " وإن كان رواية ضعيفة لكن هذا هو المعنى أن الله جل وعلا جعل هذه الزكاة طعمة لهم في أيام العيد حتى تسدَّهم وتكفيهم عن الطواف على الناس والحاجة أيام العيد ".
[2] ينظر: ولله الأسماء الحسنى للجليل ص(426)، شأن الدعاء ص (48).
[3] تفسير السعدي ص(649).
[4] ولله الأسماء الحسنى للجليل ص(429).
[5] الترمذي
[6] تفسير السعدي ص(165)، وينظر: التحرير التنوير (4/250)، تفسير ابن عثيمين سورة النساء (1/55).
[7] تفسير السعدي ص(668).
[8] تفسير السعدي ص(154).
[9] تفسير القرطبي (19/213).
[10] رواه مسلم.
[11] البخاري ومسلم.
[12] رجال إسناده ثقات. ينظر: حاشية السندي على ابن ماجه (2/346).
[13] أخرجه مسلم.
[14] تفسير السعدي ص(105).
[15] حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/290)، مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/222).
[16] تحفة الأحوذي (2/141)، مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/222).
[17] أخرجه الترمذي (3010)، وابن ماجه (190),
[18] سير أعلام النبلاء (4/434)
[19] تفسير السعدي ص(865).
[20] تحفة الأحوذي (4/246).
[21] أخرجه مسلم (1373)، والترمذي (3454)، ومالك (2591).
[22] ينظر: التمهيد لابن عبد البر (21/269)، شرح النووي على مسلم (9/146)، المنهاج في شرح مسلم (9/500).
[23] أخرجه البخاري (4971)، ومسلم (2150). والنغير: طائر يشبه العصفور (ينظر: فتح الباري 1/197).
المرفقات
1712630205_جبر الخواطر أخبار وأسرار - عيد الفطر 1445هـ.pdf
1712630230_جبر الخواطر أخبار وأسرار - عيد الفطر 1445هـ.docx