جائحة كورونا دروس وهبات 1443/8/22هـ
عبد الله بن علي الطريف
جائحة كورونا دروس وهبات 1443/8/22هـ
أيها الإخوة: بحمد اللهِ تعالى وتوفيقه في اليومِ الثالث من هذا الشهر أعلنت الدولة وفقها الله انتهاء وباء جائحة كورونا، بعد مرور سنتين عليها، فعادت الحياة إلى حالتها قبل الجائحة فلله الحمد رب العالمين، وله الثناء الحسن.. وكانت بداية الوباء عصيبة على الأمة، فتوقفت أيامها بعض شعائر الدين الظاهرة، وتعطلت عموم ممارسات الحياة المدنية، فأوقفت صلاة الجمعة والجماعة والعيد، وصار المؤذنون يدعون الناس للصلاة في رحالهم.. وعُلقت الدراسة في كلِ دور العلم، وتوقفت الأعمال في معظم الدوائر الحكومية والأهلية، وعملت المستشفيات والمصحات بكامل طاقتها، وغصت غرف العناية المركزة بالمصابين، وأغلقت المطارات ومحطات القطارات، وتوقف كثير من المصانع عن الإنتاج، واستنفرت الدولة بكل قطاعاتها العسكرية الأمنية والدفاعية، وحُضر التجوال؛ كل ذلك حفاظاً على سلامة المواطنين والمقيمين، وعاش الناسُ خلالها أياماً ثقيلة صعبة، واستقبل الناس هذه النمط الطارئ من الحياة كل حسب ما وهبهم الله من اليقين والرضا والصبر.
فمن الناس من هَلِعَ وأغلق عليه باب بيته، وبالغ بالاحتراز حتى ممن يعيش معه من أهل بيته، فصار هاجسه المرض إلى أن بلغ حد الوسوسة، وبقي خائفاً يترقب المرض، ويخشاه متوجساً قلقاً، يحذر من كل أحد، ويخشى من الإصابة، وغفل عن الجمع بين التوكل والاحتراز.. فهؤلاء فرطوا بخيرٍ كثير، وعاشوا بِهَمٍّ وقلقٍ، وفاتهم فضلٌ كبير وأجرٌ عظيم ولم يتعدوا ما كتبَ اللهُ عليهم قيد أنملة..
ومنهم من قابل هذا الوباء بإيمانٍ ويقين، وحقق معنى التوكل بكامل عناصره، فجمع بين التوكل وفعل الأسباب، وهذا ما يجب أن يكون عليه المسلم أن يعمل بالأسباب ويتوكل على الله فهو مسببها، فالتزم هؤلاء بالاحترازات الوقائية، ولما وجد اللقاح أخذوه متوكلين؛ فهؤلاء حصلوا على الفضل وعاشوا آمنين مطمئنين..
نعم أحبتي: لقد أصيب من أصيب من الأمة وعوفي من عوفي، لا فرق بين مبالغ بالاحتراز، وغيره بالإصابة، إلا إن المتوكلين على الله كسبوا أجر الشهداء، وإن لم يصابوا؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ،[أي فِي بَلَدِهِ] فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» رواه البخاري. قال شيخُنَا محمدُ العثيمين رحمه الله: معلقاً على الحديث: "والطَاعُونُ قِيلَ إنَّهُ وباءٌ مُعَين، وقِيلَ إِنَّهُ كلُ وَبَاءٍ عامٍ يَحلُ بالأرضِ فيُصيبُ أهلَهَا ويَموتُ النَاسُ مِنْه، وسَواءً كانَ مُعَيَناً، أم كُلُ وبَاءٍ عَامٍ مِثلَ الكوليرا وغَيرِها فإنَّ هذا الطَاعُونُ رِجْسٌ، وعذابٌ أرسلَهُ اللهُ عزَّ وجَلَ، ولكنَّهُ رحمةٌ للمؤمنِ إذا نَزلَ بأرضِه وبقيَ فيها صَابراً محتسباً، يعلمُ أنَّهُ لَا يُصِيبهُ إلا ما كتبَ اللهُ لَهُ؛ فَإنَّ اللهَ تعالى يَكْتُبُ لهُ مِثلَ أجرِ الشَهِيدِ" انتهى كلامه رحمه الله. قال العلماء: ومن بقي في «بَلَدِهِ» أي بلدِ الطاعون وإن لم يكن وطنه «صَابِراً» غير منزعجٍ ولا قلق بل مسلمًا مفوضًا راضيًا. «مُحْتَسِبًا» طالباً للثواب على صبره، «يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ» هذه القيود تقتضي بأنه لو أقام قلقًا متندمًا على عدم خروجه ظانًّا بأنه لو خرج لسلم ما كان له أجر الشهادة، فكل من بقي في بلده صَابراً محتسباً سواء أصيب وشفي أو لم يصب فله أجر الشهيد وهذا فضل من الله تعالى ونعمة نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم..
ومِنْ الناس مَنْ اختارَه اللهُ لجواره فقضى بسببِ الوباء فهذا حصل على شرف الشهادة، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» رواه البخاري ومسلم «الـمَطْعُونُ» أي من أصابه الطاعون أي الوباء.
أيها الإخوة: لكل حدث من الحوادث دروس يعلمها من يعلمها ويجهلها من يجهلها.. والموفق من الناس من يستفيد من المواقف ويستثمرها.. جعلنا الله تعالى منهم..
وأول ما يجب أن نعتقده ونوصي به أن نعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى هو المدبر والمصرف لهذا الكون، وما يقع شيء فيه إلا بتقديره وعلمه، فهو الرب الخالق المدبِّر، المالك المتصرف، يقول الشيخ السعدي: وهو اللطيف الخبير، الذي أحاط علمه بالأسرار والبواطن، والخبايا والخفايا، ومكنونات الصدور، ومغيبات الأمور، وما لطف ودقّ من كل شيء.
ويقول: ومِن لُطف الله تعالى بعبده ووليه الذي يريد أن يُتمَّ عليه إحسانَه، ويشملَه بكرمهِ، ويُرَقِيَهِ إلى المنازل العالية، أن يُيَسِّرَه لليسرى، ويجنبَه العسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهُها وتشُق عليه، وهي عينُ صلاحِه، والطريقُ إلى سعادته، كما امتحن الأنبياء بأذى قومهم، وبالجهاد في سبيله، فهو يمتحنُ أولياءه بما يكرهون؛ ليُنِيلَهم ما يحبون.
فسبحانك ربي! ما أعلمك! وما ألطفك! أفِض علينا اللهم من لطفك وجودك وكرمك، فنحن عبيدك الضعفاء، لا حول ولا قوة لنا إلا بك.
ومما ينبغي علينا أن نعلمه أن انتشار هذا الفيروس فيه موعظة، وتنبيه ليظهر ضعفنا، وقلّة حيلتنا أمام قدرة العليّ العظيم القوي المتين جلّ شأنه؛ فهذا مخلوق مجهريّ لا يرى بالعين المجردة أثار الرّعب والذّعر في نفوس سكّان القارات السّبع، فلم يُفرق بين غني وفقير، ولا بين دولة متقدمة وفقيرة فقد أصاب هذا الفيروس العالم كلَه بلا استثناء.. ووقف العالم عاجزاً أمامَه، مع ما حباه الله به من إمكانات وأموال ضخمة، وخِبراتٍ وقُدراتٍ هائلةٍ في مَجالِ مُواجهةِ الطَّوارئِ الصَّحيةِ، لكن: (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) [يوسف:68] إلا أن يشاءُ اللهُ تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام:17]. ومثل هذه القوارع والبلايا التي تحل بنا ينبغي أن تحدونا للعودة إلى الله والاحتماء بحماه، وعلى التّوبة وكثرة الاستغفار، فما نزلت بلية إلا بذنب، ولا رفعت إلا بتوبة، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33] أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ومن هبات الله تعالى وفضله على كثير المسلمين أن وفقهم لتحقيق عبادة التوكل القلبية، مع الأخذ بالأسباب؛ فقد حثَّ على ذلِك النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُطْلِقُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ.؟ أَوْ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟، قَالَ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» رواه الترمذي وحسنه الألباني. وفي رواية عند ابن حبان: أَنَّ عَمْرِو بْنَ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ؟، قَالَ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ». قال الألباني حديث حسن لغيره. وَقَدْ أَرْشَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا التَوْجِيهِ: لِأَنَّ عَقْلَهَا لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وهذا بحد ذاته أعظم درس من الجائحة..
أيها الإخوة: ومن الدروس التي خرجنا بها من هذه الجائحة: أن الأمة يمكنها أن تعيش إذا تنازلت عن كثير من الكماليات مثل تناول بعض الأطعمة من مطاعم ومقاهي عالمية، وكذلك عدم السفر للخارج الذي أصبح عند بعض الناس برنامجا سنويا لا يمكن أن يتصور أن يعيش بدونه، حتى أن بعضهم ربما اقترض من أجل السفر، ومع ذلك سارت الحياة..
ومن الهبات الجميلة عودة كثير من الآباء والأبناء إلى أسرهم؛ فأيام الحجر الصحي قاربت بين الأسرة وجمعتها، وأظهر كثيرٌ من أفراد العائلة قدرات ومزيا لا تعلمها الأسرة عنهم.. وتعلم كثير من أفراد الأسرة مهارات جديدة في الحياة.. وبرزت قدرات وطاقات كثيرة عند بعض الأولاد والوالدين حري بالأسرة استثمارها.
ثم علينا أن نحمد الله تعالى أن وفق حكومتنا لإدارة الأزمة بكل اقتدار؛ فقد وفرت للمواطنين والمقيمين سبل الراحة والأمن بكل أنواعه الأمن العام والأمن الصحي والبيئي لا فرق في ذلك بين مواطن ومقيم.. ووفقت للتعامل مع الأزمة بكل طاقتها وقدراتها فنجحت بحمد الله، ووفق الله المواطنين والمقيمين وتعاونوا بما يعود على البلاد والعباد بالنفع؛ فلله الحمد رب العالمين.. وصلوا وسلموا على نبيكم...