جئتمونا فُرادى
عبدالعزيز بن محمد
الحمد لله رب العالمين {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
تعالى جَدُّ رَبنا، تَعَالَتْ عَظَمَتُهُ، وعَظُمَ قَدْرُهُ وجَلَّتْ قُدْرَتُهُ، لا إله إلا هو العلي الكبير، وأشهد أَنَّ محمداً عبدُهُ ورسُولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، خَيْرُ البَرِيَّةِ، وأَزْكى البَشَرِيَّةِ. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.. فإن {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
أيها المسلمون: خَرَجَ إلى الدنيا وَحِيْداً.. خالَطَ الناسَ وعاشَر، خاضَ غمارَ الحياةِ وكابد أعباءَهَا. تَتَنَازَعُه أهواءٌ وشهوات، وَتَكَالِيفُ وَوَاجِبَات. لَهُ عَقلٌ إِن تجردَ أبصَرَ الحَقَّ وَمَيَّزْ، وإِن غشاهُ الهوى أضلَّ الطريقَ وَتَاه. وحينَ بَعَث الله المرسلين، أقامَهُم على أهدى مِلَّةٍ وأقومِ دين. فَمَن صلُحَت من الناسِ فطرتُهُ.. اتَّبَعَ سبيل المرسلين وآمَن. ومَن انتكسَت فِطْرَتُهُ.. أعرضَ عن الإيمانِ وصَدّ.
وَمِنْ أعظمِ أَسْبابِ الصُّدُودِ والإعراض، أنْ يَسِيْرَ المرءُ في حَيَاتِه مُقلداً على غَيْرِ بصيرة.. تَسْتَهْوِيْهِ الكثرةُ فيرى الحَقَّ كامِنٌ في ضوضائها، وتُعْجِبُهُ الجموعِ ويَغْتَرُّ بِغَوْغائِها. إِمَّعَةٌ.. أَرْخى العِنانَ لِنَفْسِهِ لا يَسْتَبِيْن، في ظُلمَةٍ مُتَخَبِّطاً لم يَهتَدي بالأنجُمِ، شَقْرَاءَهُ قَدْ قَادَها خَلْفَ الجموع مُهرولاً؟! أمسِكْ زِمَامَ رَحلِكَ واتئد.. هذي الجموعُ تموجُ في أهوائها. هذي الجموعُ إلى الجهالةِ تَهرَعُ {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} إن الحقيقةَ ساطِعٌ أنوارُها. بالدين والوحي المبين. {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} إنَّ تَعطِيلَ العقلِ عن التدبرِ والتفكر في آيات الله الشرعية والكونية، وإرخاءِ العِنانِ للنفسِ تمضي في شهواتِها.. في تقليدٍ للآباءِ أو العشيرة، أو للأصحاب أو الخلان، أو في مُسايرةٍ لما سارَتْ عليهِ جموعُ أهلِ الهوى في مجتمعٍ يعيشُ المرءُ فيه.
إنَّ ذلكَ مما يُضْعِفُ البَصِيْرةَ، ويَحجُبُ عن إبصارِ الحقِّ. قال الله عن ملكةِ سبأَ {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} لها عقلٌ وفطنةٌ وذكاءٌ.. تُبْصِرُ الحقَّ جلياً لَو تَجَرَّدَت. ولكنها لمَّا كانت من قومٍ كافرين، عَطَّلَت عَقْلَهَا وأَبْحَرَتْ في هَوَاهَا، فبَقِيَتْ مُقَلِّدَةً لقومِها في كُفرِهِم وضلالِهم. وَلَمَّا قَدِمَتْ على سُليمانَ عليه السلامُ وَتَجَرَّدَتْ في طلبِها للحقِّ استفاقَت وأَبْصَرَتِ و{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وحينما يُدْرِكُ المرءُ حقيقةً لا مَفَرَّ لَه منها، ويستشعرُ مصيراً لا محيدَ لَه عَنه، أَثْبَتَهُ القرآنُ في مواضع عديدةً. أَنَّ كُلَّ إنسانٍ سَيُحْشَرُ إلى رَبِّه فَرْداً {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدً} {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} {فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَـحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}
وأَنَّ كُلَّ إنسانٍ سَيُلاقيِ عَمَلَه يومَ الحسابِ وَحْدَه، فلا قَرِيْبَ يحمِلُ وِزْراً عَن قَرِيْبِه، ولا خَلِيْلَ يَبذُلُ حسنةً لخليله، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} مَنْ أَدْرَكَ هذه الحقيقةَ.. سعى جاهداً في فِكاكِ نفسِه، وأخلَصَ صادِقاً في نجاتِها، وَشَمَّرَ في طريقِ العبودِيةِ، ولم يَسلُك سبيل الغافلين. وَمَشَاهِدُ الحوارِ الأُخْرَوِيِّ بَيْنَ تَابِعٍ ضَالِّ وَمَتْبُوْعِ مُضِلِّ.. تفيض حسراتٍ وألماً {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} لم نُجبِرْكُم على الصُّدُودِ عَنِ الهدايةِ ولَم نَأطُرْكُم على ركوبِ الغوايةِ، وِإنَّما دعوناكم إلى الضلالِ دعوةً فاسْتَجَبْتُمْ لدعوتنا راغبينَ. فأنتم مجرمون بِمَحْضِ إرادَتِكُم. حوارٌ لَن يُغنيَ عَنِ المُجرِمِ شيئاً، ولَنْ يَنْتَهِيْ بالفريقين إلا إلى طولِ ندامةٍ وأَلَمْ {..وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ*وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}
عباد الله: أئمةُ الفَسَادِ.. دعاةٌ إلى سبيل الجحيم. وَمَا ضَلَّ أكثرُ العالمين إلا بِإغلاقِ منافِذِ قُلُوبِهِم عن نورِ الإيمان، وَرُكُوْنِهِم إِلى سَبِيْلِ الشهوات، واتِّباعِهِم سَبِيْلِ المُبْطِلِيْن. واغْتِرارِهِم بكثرةِ المُغْتَرِّيْن.
ونجاةُ العبدِ لَن تَتَحَقَّقَ إلا بِفِرارِه إلى رَبِّهِ، يلوذُ إليه في زَمَنِ الفِتَنِ.. كما يلوذُ الطفلُ الخائفُ إلى أحضانِ أُمِّه. يَصْبِرُ في سبيل الله ويُصابِرْ، ويجاهدُ النفسَ على الثباتِ ويُرابط. يُعانُ على ذَلِكَ.. عبدٌ آمَنَ بالله واليومِ الآخرِ، وأدركَ أَن عُمُرَهُ الذي يقضِيْهِ في دُنياهُ اليومَ.. كِتَابٌ مُسَطَّرٌ يَقرؤُهُ يوم الحسابِ غداً {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} عَنْ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: «ما منْكم مِنْ أحدٍ إلَّا سُيكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه ترْجُمان، فينظرُ أيمنَ منه فلا يرَى إلا ما قدَّم، وينظرُ أشأم منه فلا يرَى إلَّا ما قدَّم، وينظرُ بينَ يديِه فلا يرَى إلَّا النَّار تلقاءَ وجهِهِ، فاتَّقُوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَنْ لم يجِدْ فبكلِمةٍ طيِّبةٍ» متفق عليه بارك الله لي ولكم ...
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم تفلحون.
أيها المسلمون: وإنَّ زَمناً يَعُجُّ بأنواعِ الفِتَنِ.. من شُبهاتٍ وضلالاتٍ، ومُغرياتٍ وشهوات. يسعى الأعداءُ في بَثِّها ونشرها لإيقاعِ الناسِ في مزالِقها. مَع وَفرَةٍ في النِّعَمِ وأَمْنٍ، ورخاءٍ في العيشِ واسْتِقرار. ومع اتِّساعٍ في دائرةِ التأثيرِ التِّقَنيِّ وغزوِهِ للعُقُول، فالمسلمُ يواجِه ـــ في كُلِّ لحظةٍ ـــ أفواجَاً مِن الفِتَنِ مُخِيْفَة. إِن تَمَكَّنَت.. زعزعَت الإيمانَ وأضْعَفَتْه، أو اقْتَلَعَتْ جُذُوْرَهُ وَقَلَبَتْهُ.
إنَّ ذلكَ كُلَّهُ مما يُوجِبُ على المُسلِمِ أَن يُضاعِفَ الجُهدَ في طَلَبِ أسبابِ النجاةِ، فما الحياةُ إلا مكابدةٌ ومجاهدةٌ ونصَبْ، وإنَّ سعي العبادِ في حياتِهِم لَشَتّى. وكلُّ عبدٍ سَلَكَ في الحياةِ طريقاً.. سيبلغُ يوماً منتهاه {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا} عن أبي مالكٍ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فَبائعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُها أَو مُوبِقُها) رواه مسلم كلًّ إنسانِ في الحياةِ يَغْدُو وَيَرُوْحُ.. فبائِعٌ نفسَه لله فَمُعْتِقُها مِن النارِ بلزومِ الطاعة، أو بائِعٌ نفسَه للهوى فَمُوْبِقُها باقترافِ الآثام.
وَأَجْسَرُ طَرِيْقٍ يَسْلُكُهُ المرءُ.. طريقٌ بِحفظِ الله محفوفٌ، في منأى عن مزالِقِ الفِتَن. يَصْحَبُ المسلمُ فيهِ قوماً يَسْتَجْمِعُونَ على طريقِ الحقِّ قُواهُم، آمنوا باللهِ وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} صُحبةٌ.. بمرافَقَتِهم تتقوى النفسُ على الثباتِ. قُدوةٌ لها في سبيل الخيرِ، وأُسوةٌ في الكَفِّ عَنِ المُحرمات. ولولا المشقةُ في مُصَاحَبَةِ الكِرامِ.. لَمَا جَاءَ الأَمْرُ بِالصَّبرِ على مُلازَمَتِهِم. هُمْ عُدَّةٌ في الحياةِ وهُم يوم القيامِ خُلَّة، تَتَحَقَّقُ صِدقُ مَوَدَّتِهِم.. يومَ تَظْهُرُ فيه بين الأخلاءِ العَدَاواتُ {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}
فأقِمْ لقدمَيْكَ مقاماً راسِخاً في صفوفِ الصالحِين، مَتِّعْ قلبَكَ بِنَعِيْمِ العبوديةِ، واستمتعْ في الحياةِ بما أَحَلَّ اللهُ لك. ولا تَمُدَنَّ عينيكَ إلى ما بِه تُسْلَبُ في الآخِرَةِ منازِلَ النعيم {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ }
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، وثبت قلوبنا على الدين..
المرفقات
1636638205_جئتمونا فراداً ــ 7 ـ 4ـ 1443.doc