ثم مالتْ يَدُه!
سامي بن محمد العمر
ثمَّ مالت يدُه
ثم مالت يده... التي انتصبت ثلاثا وعشرين سنة؛ تدلُّ على الله وتُبيِّنُ حقَّه، وترفعُ رايةَ التوحيد، وتُعلي أهلَه.
ثم مالت يدُه... التي أقام بها دولةَ الإسلام وأيُّ دولة!
ثم مالت يدُه... التي أخرجت جيلا لم يعرف التاريخُ مثلَه.
ثم مالت يدُه... التي كان لها في ميادين الجهادِ والقتالِ صولةٌ وجولة.
ثم مالت يدُه.. التي أرعبت كلَّ أممِ الكفرِ حولَه.
ثم مالت يدُه... التي أدَّبَ بها كلَّ معاندٍ ومعتوهٍ وأبْلَه.
ثم مالت يدُه... بعد أن أكملَ اللهُ به الدين وأتمَّ به النعمةَ؛ واستوفى كتابَه وقضى أجلَه.
اتفق العلماءُ على أنه في عامِ الفيلِ وفي اثنينٍ من أيامِ شهرٍ يرى جماهيرهُم أنه شهرُ ربيعٍ الأول دون يقينٍ منهم برقمِ ذلك اليومِ من الشهرِ.... بزغَ فجرُ الهدى، وأضاء نورُ الهدايةِ بمولدِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.. الذي رباهُ ربُّه من صغره متدرجاً به في سُلَّمِ الكمالِ، وأعلى الفضائلِ والخلال.
فكان أنفسَ الناس عَرَبًا وَعَجَمًا، وَأَرْجَحَهُمْ عَقْلا وَحِلْمًا، وَأَوْفَرَهُمْ عِلْمًا وَفَهْمًا، وَأَقْوَاهُمْ يَقِينًا وَعَزْمًا، وَأَشَدَّهُمْ بِهِمْ رَأْفَةً وَرُحْمًا، زَكَّاهُ ربُّه رُوحًا وَجِسْمًا، وَآتَاهُ حِكْمَةً وَحُكْمًا، وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَقُلُوبًا غُلْفًا وآذَانًا صُمًّا، فَآمَنَ بِهِ وَعَزَّرَهُ وَنَصَرَهُ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فِي مَغْنَمِ السَّعَادَةِ قَسْمًا، وَكَذَّبَ بِهِ وَصَدَفَ عَنْ آيَاتِهِ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشقاءَ حَتْما([1]).
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
ولقد قامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمرِ الدعوةِ سرًّا وجهرًا، وصدعَ بالحقِ شجاعةً وصدقاً.
وتحملَّ اضطهادَ أعدائِه وقطْعَهُم للأواصِر، وحزِنَ على فقْدِ المُعينِ والمُناصِر.
وخرج من بلده يدعو القبائلَ والطوائف، ولقيَ منهم أشدَّ الأذى كما لقِيَ في ذاكَ الزمانِ من أهلِ الطائف.
ونصرَهُ الله بأهلِ بيعةِ العقبة، وأذِنَ له بالهجرةِ إلى طيبةَ... فكوَّنَ دوْلَته، وأظهرَ دعْوَته.
وبدأ الإذنُ بالقتالِ... فغزا بدرًا وأحدًا والأحزاب.
وأجلى يهودَ المدينةِ بعد أن أعْلَمَهُم حُرْمَةَ المواثيقِ والعُهود، واصطلحَ مع قريشٍ في الحديبية ليتفرَّغَ لمُكاتبَةِ الملوكِ، واستقبالِ الوفود.
ثم أرعبَ دولةَ الرومِ في مُؤتة، وأكملَ اللهُ لهُ العِزَّ بفتحِ مكة، ولم يبقَ إلا انتفاضةُ ميِّتٍ في بعضِ قبائلِ العربِ والرومِ والملوكِ؛ فأجهزَ عليها بغزوةِ حنينٍ والطائفِ وتبوك.
ثم دانَ لدينِهِ الناسُ من الأشرافِ والرَّعاعِ، فلم يبقَ إلا أن يُودِّعهم بحَجَةِ الوَداع: ((لعلِّي لا ألقاكُم بعدَ عامِي هَذا)).
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}
رجعَ - صلى الله عليه وسلم - من حجةِ الوداعِ في ذي الحِجة، فأقامَ بالمدينةِ بقيةَ الشهر، والمحرمَ، وصفراً، وجهزَ جيشَ أسامةَ بنِ زيدٍ - رضي الله عنه -، فبينما الناسُ على ذلك ابتدأ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بشكواه في ليالٍ بقينَ من صفر، وقد صلى على شهداءِ أحدٍ، فدعا لهم، وذهبَ إلى أهلِ البقيعِ، ودعا لهم وسلّمَ عليهم، مودِّعاً لهم.
وأولُ ما اشتدَّ برسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وجعُه في بيتِ ميمونةَ - رضي الله عنها -، فاستأذنَ أزواجَه أن يُمرَّضَ في بيتِ عائشةَ - رضي الله عنها -.
واشتدّت به الحُمى، فقال: ((أهَرِيقوا عليَّ من سبعِ قِربٍ لم تُحْلَلْ أوكيتُهنَّ لعلي أعهدُ إلى الناس))، وخرجَ إلى الناسِ فصلى بهم وخطبَهم.
ثم اشتدَّ به وجعُه أكثرَ فأكثرَ فلم يستطعِ الخروجَ إلى الصلاةِ وأمرَ أبا بكرٍ بذلك.
وحين وجدَ خِفَّةً خرجَ للناسِ وخطبَهم فقال: ((إنَّ اللَّه خيَّر عبداً بين أن يُؤتيه من زهرةِ الدنيا ما شاءَ وبينَ ما عندَه فاختارَ ما عندَ اللَّه))، فبكى أبو بكرٍ - رضي الله عنه - وقالَ: فديناك بآبائِنا وأُمهاتِنا، فعجِبْنا له، .... فكان رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هو [العبدُ] المخيَّر، وكان أبو بكر أعلَمَنا.
وفي أيامهِ الأخيرةِ؛ أوصى بإخراجِ المشركينَ من جزيرةِ العرب، وبإنفاذِ جيشِ أسامة، وبكتابِ الله، وبأهلِ بيته، وبالصلاةِ وما ملكتِ الأيمانُ.
وفي وصفِ لحظاتِه الأخيرةِ تقولُ أمُّنا عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو صحيحٌ يقول: ((إنه لم يُقبضْ نبيٌّ قطُّ حتى يُرى مقعدَهُ من الجنةِ ثمَّ يُخيَّر))، قالت: فلمّا نزلَ برسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ورأسُه على فخِذي، غُشِيَ عليه ساعةً، ثم أفاقَ فأشخَصَ بصرَهُ إلى السقفِ، ثم قال: ((اللَّهم في الرفيقِ الأعلى))، فقلتُ: إذاً لا يختارُنا، وعرفتُ أنه حديثُه الذي كان يُحدِّثُنا وهو صحيحٌ، قالت: فكانَ آخرَ كلمةٍ تكلَّمَ بها رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهم معَ الرفيقِ الأعلى))، وقالت - رضي الله عنها -: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم – وهو مسندٌ إليَّ ظهرَه يقول: ((اللَّهم اغفرْ لي وارحمني، وألحِقني بالرفيقِ الأعلى)) وبين يديه ركْوةٌ، أو عُلبةٌ فيها ماءٌ، فجعلَ يُدخلُ يدَه في الماء، فيمسحُ بها وجهَه، ويقول: ((لا إله إلا اللَّه، إنَّ للموتِ سكراتٍ))، ثم نصبَ يده فجعلَ يقولُ: ((في الرفيقِ الأعلى)) حتى قُبضَ، ومالتْ يدُه)) - صلى الله عليه وسلم -.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة....
الخطبة الثانية
أما بعد:
فلئنْ كانَ رسولنا قد ودّعَ هذه الدنيا؛ فقد أبقى لنا من الإرثِ العظيمِ ما لن نضِلَّ بعده إن تمسّكنا به: كتابَ الله وسنتَّه صلى الله عليه وسلم.
ولئن كانَ اللهُ قدْ أوجبَ علينا محبةَ رسولِه صلى الله عليه وسلم وطاعتَه؛ فإنّ من أعظمِ مظاهرِ الجفاءِ في حقِه صلى الله عليه وسلم الظاهرةِ في هذا الزمانِ:
البعدَ عن سُنتِه، وردَّ أحاديثِه، وإهمالَ سيرتِه، ونزعَ هيبتِه من القلوبِ، وهجرَ ما جاءَ به، والابتداعَ في دينِه ما ليسَ مِنه.
وبناءً عليه: فلن نحتفلَ.
لن نحتفلَ بمولدِه لأننا لسْنَا بأعلَمَ بحقِّهِ منهُ ولا من صحْبِهِ الكرامِ ولا القرونِ المفضلة؛ وكلُّهم لم يحتفِلُوا.
لن نحتفلَ لأننا نُحبُّه؛ وأعلى براهينِ المحبةِ: طاعةُ المحبوبِ لا معصيتُه؛ وإنما حثّنَا على صومِ يومِ الاثنين الذي وُلِد فيه شُكراً لله على هذهِ النعمةِ العظيمة.
لن نحتفلَ لأننا نَسْتنُّ في جميعِ أحوالِنا بهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم والسلفِ الصالحينَ لا بالعُبيديينَ الفاطِميين.
لن نحتفلَ لأننا بفعلِنا ذلكَ نتّهِمُ رسولَنا صلى الله عليه وسلم بالخيانةِ وعدمِ الأمانةِ؛ لأنه كتمَ عنَّا هذهِ العبادةَ العظيمةَ التي لم تُكتَشفْ إلا بعدَ موتِه بقُرون.
لن نحتفلَ لأنه نهانا عن الإطراءِ والطربِ والغناءِ والاختلاطِ والإسرافِ؛ وكلُّ ذلكَ من أساسياتِ المولدِ عندَ أصحابِه.
لن نحتفلَ لأننا نعتقدُ أن رسولَنا قد ماتَ؛ فلا هو يحضرُ حفْلَنا ولا يُبارِكُ جمْعَنا.
لن نحتفلَ لأن تعظيمَ العبادةِ في قلوبِنا لا يكونُ إلا لله تعالى، فلن نصرفَ من ذلك شيئاً لغيرِه؛ ولا ذاكَ بمُرْضٍ لنبيه صلى الله عليه وسلم لو علِمَ به.
ألا فليعلمِ الجميعُ: أنّ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، أجلُّ في قلوبنا وأعظمُ مِن أن نُخصِّصَ له يومًا لنحتفلَ فيه بولادةٍ لا يقينَ في تحدِيدِها!
وأنه أعظمُ عندنا مِن أن نُخصّصَ له بضعَ سُويعاتٍ في إطراءٍ نهانا عنه، ثم نعود لِلهْوِنا وسَفهِنا.
فقلوبُنا تنبُضُ كلَّ حينٍ بحُبِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.. حُبَّ اتباعٍ لا ابتداع، وحُبَّ إجلالٍ لا إخلال.
اللهم لا تحرمنا رؤيتك ولا رؤية نبيك في دار كرامتك..
([1]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 2)
المرفقات
1726149437_ثم مالت يده.docx
1726149450_ثم مالت يده.pdf