ثم سئلوا الفتنة لآتوها

من صفات المنافقين (11)
ثم سئلوا الفتنة لآتوها
9/11/1437
الْحَمْدُ لِلهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؛ يَعْلَمُ مَكْنُونَ الْقُلُوبِ وَمَا تُخْفِيهِ الصُّدُورُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا؛ فَهُوَ الْإِلَهُ المَعْبُودُ، وَمَا سِوَاهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ بَيَّنَ لَنَا حَقِيقَةَ أَعْدَائِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ حِذْرَنَا، فَالْكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ يَتَرَبَّصُونَ بِنَا {إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101] وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، لَمْ يَسْلَمْ مِنْ دَسَائِسِ المُنَافِقِينَ وَكَيْدِهِمْ، وَقَدْ حَذَّرَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُمْ حِينَ خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4] صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهُ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاجْعَلُوا الْقُرْآنَ إِمَامَكُمْ، وَالسُّنَّةَ هُدَاكُمْ، وَالْعُبُودِيَّةَ لِلهِ تَعَالَى شَرَفَكُمْ، وَالْإِسْلَامَ فَخْرَكُمْ؛ فَإِنَّ الْفَخْرَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ الْفَخْرِ وَأَعْلَاهُ {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33] فَتَمَسَّكُوا بِهِ كُلِّهِ، وَلَا تَنْتَقُوا مِنْ أَحْكَامِهِ، وَلَا تَضِلُّوا عَنْ صِرَاطِهِ {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزُّخرف:43].
أَيُّهَا النَّاسُ: لَا عَدُوَّ أَشَدَّ عَلَى المُؤْمِنِينَ مِنَ المُنَافِقِينَ، وَلَا صِفَةَ أَقْذَرَ وَأَحَطَّ مِنَ النِّفَاقِ؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ يَجْمَعُ أُصُولَ الرَّذَائِلِ كُلِّهَا مِنَ الْكَذِبِ وَالْجُبْنِ وَالْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفُجُورِ؛ كَمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي وَصْفِ المُنَافِقِ: «إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَكُلُّ فِتْنَةٍ تُشْعَلُ فِي بُقْعَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُنَافِقِينَ فِيهَا كَيْدٌ وَمَكْرٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ تَخَلَّقُوا بِالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، فَلَا يُحْسِنُونَ إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْغَدْرَ، وَقَدْ جَلَّى اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ عَلَاقَةَ المُنَافِقِينَ بِالْفِتَنِ الَّتِي تُصِيبُ المُؤْمِنِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَفِي دُوَلِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ أَحْسَنَ بَيَانٍ؛ لِيَحْذَرَ المُؤْمِنُونَ مِنْ غَدْرِ المُنَافِقِينَ وَفِتْنَتِهِمْ، وَيَتَّقُوا كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ.
وَفِي مَشْهَدٍ قُرْآنِيٍّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ المُنَافِقِينَ يَرْتَكِسُونَ فِي الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ اسْتِمَاتَتِهِمْ فِي الْحِفَاظِ عَلَى مَصَالحِهِمُ الذَّاتِيَّةِ، وَمَكَاسِبِهِمُ الْوَقْتِيَّةِ {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91] قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ الْإِسْلَامَ؛ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ وَيُصَانِعُونَ الْكَفَّارَ فِي الْبَاطِنِ، فَيَعْبُدُونَ مَعَهُمْ مَا يَعْبُدُونَ، لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مَعَ أُولَئِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [الْبَقَرَة: 14].
وَلِأَنَّ المَصَالِحَ الشَّخْصِيَّةَ الْآنِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُسَيِّرُ أَهْلَ النِّفَاقِ، وَتَضْبِطُ بُوصَلَتَهُمْ فِيمَا يَقَعُ مِنْ أَحْدَاثٍ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ هَلَعٍ وَفَزَعٍ، يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى حَرْفٍ، كَمَا فَضَحَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ دِينَ هَؤُلَاءِ المُنَافِقِينَ مُذَبْذَبٌ، يَلْتَزِمُونَهُ فِي السَّرَّاءِ، وَيَتَخَلَّوْنَ عَنْهُ فِي الضَّرَّاءِ، بَلْ وَيُعَادُونَهُ؛ لِأَنَّهمْ إِنَّمَا دَانُوا بِهِ لِأَجْلِ المَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ لَا طَلَبًا لِرِضَا اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِمَّنِ انْقَلَبُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، صَارُوا يَقْدَحُونَ فِي المُؤْمِنِينَ وَفِي دِينِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، وَيُؤَلِّبُونَ الْأَعْدَاءَ عَلَيْهِمْ، لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِأَنَّهُمْ رَأَوْا تَسَلُّطَ الْأَعْدَاءِ وَقُوَّتَهُمُ المَادِّيَّةَ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنَالُوا مِنْ غَنَائِمِ الدُّنْيَا لُعَاعَةً لَنْ تَنْفَعَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ لَا تَحْصُلُ لَهُمْ، وَيَرْتَدُّ عَلَيْهِمْ مَكْرُهُمْ وَكَيْدُهُمْ؛ وَلِذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يُعَامِلَ اللهَ تَعَالَى بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَلَا يَتَغَيَّرَ دِينُهُ فِي السَّرَّاءِ وَلَا فِي الضَّرَّاءِ، وَلَا فِي الْعَافِيَةِ وَلَا الْبَلَاءِ، فَإِنْ عُوفِي حَمِدَ اللهَ تَعَالَى وَشَكَرَ، وَإِنِ ابْتُلِيَ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَصَبَرَ. فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ بِالدِّينِ، بَلْ تُبْذَلُ لِأَجْلِهِ.
كَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي وَصْفِ المُنَافِقِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَوَنَةَ لِدِينِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ يَخْسَرُونَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَهُمْ مَا نَافَقُوا وَخَانُوا إِلَّا لِأَجْلِ الْحِفَاظِ عَلَى مَكَاسِبِ دُنْيَاهُمْ أَوْ زِيَادَتِهَا:
أَمَّا خَسَارَةُ الْآخِرَةِ فَبِغَدْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَأَمَّا خَسَارَةُ الدُّنْيَا فَبِعَدَمِ تَحَقُّقِ مُرَادِهِمُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَانُوا وَغَدَرُوا. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي تَفْسِيرِهَا: هُوَ الْمُنَافِقُ، إِنْ صَلُحَتْ لَهُ دُنْيَاهُ أَقَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَإِنْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَتَغَيَّرَتْ انْقَلَبَ فَلَا يُقِيمُ عَلَى الْعِبَادَةِ إِلَّا لِمَا صَلُحَ مِنْ دُنْيَاهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ أَوْ شِدَّةٌ أَوِ اخْتِبَارٌ أَوْ ضِيقٌ، تَرَكَ دِينَهُ وَرَجَعَ إِلَى الْكُفْرِ.
وَفِي مَقَامٍ قُرْآنِيٍّ آخَرَ يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ المُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَيَأْكُلُونَ مِنْ خَيْرَاتِهِمْ، وَيَأْمَنُونَ عِنْدَهُمْ؛ يَكُونُونَ مَعَ الأَعَدَاءِ إِنْ غَزَوا دِيَارِ المُؤْمِنِينَ، وَيُبَادِرُونَ إِلَى عَوْنِهِمْ وَتَأْيِيدِهِمْ، وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ بِمَجِيئِهِمْ، وَالْإِرْجَافِ فِي المُؤْمِنِينَ وَتَخْذِيلِهِمْ، وَنَشْرِ الْفِتْنَةِ فِيهِمْ {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب: 14].
وَالمَعْنَى: لَوْ دَخَلَتْ جُيُوشُ الْأَحْزَابِ المَدِينَةَ وَبَقِيَ جَيْشُ المُسْلِمِينَ خَارِجَهَا... وَسَأَلَ الْجَيْشُ الدَّاخِلُ الْفَرِيقَ المُسْتَأْذِنِينَ أَنْ يُشِيعُوا الْفِتْنَةَ فِي المُسْلِمِينَ بِالتَّفْرِيقِ وَالتَّخْذِيلِ لَخَرَجُوا لِذَلِكَ الْقَصْدِ مُسْرِعِينَ وَلَمْ يُثَبِّطْهُمُ الْخَوْفُ عَلَى بُيُوتِهِمْ أَنْ يَدْخُلَهَا اللُّصُوصُ أَوْ يَنْهَبَهَا الْجَيْشُ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَلْقَوْا سُوءًا مِنَ الْجَيْشِ الدَّاخِلِ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ لَهُ وَمُعَاوِنُونَ، فَهُمْ مِنْهُمْ وَإِلَيْهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ كَرَاهَتَهُمُ الْإِسْلَامَ تَجْعَلُهُمْ لَا يَكْتَرِثُونَ بِنَهْبِ بِيُوتِهِمْ.
وَلَوْ سُئِلَ هَؤُلَاءِ المُنَافِقُونَ المَفْتُونُونَ الِانْقِلَابَ عَنْ دِينِهِمْ، وَالرُّجُوعَ إِلَى دِينِ المُتَغَلِّبِينَ لَوَافَقُوا مُبَادِرِينَ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ فِي الدِّينِ، بَلْ بِمُجَرَّدِ مَا تَكُونُ الدَّوْلَةُ لِلْأَعْدَاءِ يُعْطُونَهُمْ مَا طَلَبُوا، وَيُوَافِقُونَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَهَذِهِ حَالَهُمْ.
وَكَأَنَّ قَارِئَ هَذِهِ الْآيَةِ بِتَفْسِيرِهَا يُشَاهِدُهَا وَاقِعًا فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ الَّتِي وَطِئَهَا الْكُفَّارُ بِمَعُونَةِ المُنَافِقِينَ، حِينَ كَانَ إِعْلَامُهُمُ الرَّخِيصُ يُحَرِّضُ الْكُفَّارَ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَيُوجِدُ المُسَوِّغَاتِ لِغَزْوِ دُوَلِهِمْ، وَتَدْمِيرِ بُلْدَانِهِمْ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ النِّفَاقُ السَّلُولِيُّ الشَّهْوَانِيُّ الْمُجَرَّدُ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ وَمُرُوءَةٍ، وَالنِّفَاقُ السَّبَئِيُّ الْبَاطِنِيُّ الَّذِي يَقْطُرُ أَصْحَابَهُ حِقْدًا عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ.
إِنَّ طَرَفَيِ النِّفَاقِ السَّلُولِيِّ وَالسَّبَئِيِّ حِينَ سَأَلَهُمُ الْكُفَّارُ الْفِتْنَةَ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ سَارَعُوا إِلَيْهَا، وَعَمِلُوا فِي الْخَفَاءِ عَلَى نَشْرِهَا، حَتَّى إِذَا هَيَّئُوا الْأَجْوَاءَ لِغَزْوِ الْأَعْدَاءِ؛ أَظْهَرُوا فِي إِعْلَامِهِمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ التَّأْلِيبِ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَعَلَى قُرْآنِهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ وَأَحْكَامِ دِينِهِمْ، وَصَاحُوا فِي المُؤْمِنِينَ يُطَالِبُونَهُمْ بِتَغْيِيرِ دِينِهِمْ، وَاسْتِبْدَالِ شَرِيعَتِهِمْ، وَحَرَّضُوا الْأَعْدَاءَ عَلَى غَزْوِهِمْ وَتَدْمِيرِهِمْ، وَاحْتِلَالِ أَوْطَانِهِمْ، وَنَشَرُوا عَوْرَاتِهِمْ، وَنِقَاطَ ضَعْفِهِمْ، فَخَانُوا دِينَهُمْ وَأُمَّتَهُمْ وَأَوْطَانَهُمْ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تَكْشِفُ حَقِيقَةَ المُنَافِقِينَ، وَتُبَيِّنُ أَنَّهُمْ جَاهِزُونَ لِإِشْعَالِ الْفِتْنَةِ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ مَتَى مَا طَلَبَ الْأَعْدَاءُ مِنْهُمْ ذَلِكَ؛ جَاءَتْ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْأَحْزَابِ الْكُفْرِيَّةِ حِينَ أَحَاطَتْ بِالمَدِينَةِ، وَلِلْخَلَايَا المُنَافِقَةِ دَاخِلَ المَدِينَةِ حِينَ اشْتَغَلَتْ آلَتُهَا الْإِعْلَامِيَّةُ بِالتَّخْوِيفِ وَالتَّخْذِيلِ وَالْإِرْجَافِ، وَبَثِّ الشَّائِعَاتِ، وَنَشْرِ الْفِتْنَةِ فِي النَّاسِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ الْعَظِيمَةُ صُدِّرَتْ بِالنَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّ طَاعَتَهُمْ سَبَبٌ لِذَهَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] وَفِي وَسْطِ السُّورَةِ أُعِيدَ ذَلِكَ {وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:48] فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تَعَالَى كَفَاهُ، وَلَنْ يَضُرَّهُ الْأَعْدَاءُ إِلَّا أَذًى، فَلَنْ يَنَالُوا مِنْ دُنْيَاهُ وَلَا مِنْ آخِرَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى لَا بِأَيْدِيهِمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْقَادِرُ عَلَى إِبْطَالِ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعِيذَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَالمُنَافِقِينَ، وَأَنْ يَحْفَظَ مِنْ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ بِلَادَنَا وَبِلَادَ المُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...


الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: أَهْلُ النِّفَاقِ رَغْمَ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ ضِدَّ المُؤْمِنِينَ، وَرَغْمَ دَسَائِسِهِمْ وَمُؤَمَرَاتِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُخْفِقُونَ المَرَّةَ بَعْدَ المَرَّةِ، وَيُصِيبُهُمُ الْهَمُّ وَالْغَمُّ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَهِيَ فَضِيحَةٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ، وَفِيهَا كَشْفُ حَالِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَتَبَنَّوْنَهُ مِنْ مَوَاقِفَ عَدَائِيَّةٍ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ لِيَحْذَرُوهُمْ، وَهِيَ أَيْضًا نُذُرٌ لَهُمْ، وَلَا تَنْفَعُهُمُ النُّذُرُ؛ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ عَلَى مُعَادَاتِهِمْ لِدِينِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَفِيهِمْ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126]. وَكَمْ مِنْ غَمٍّ يُصِيبُهُمْ بِانْتِصَارِ المُؤْمِنِينَ، أَوْ بِإِخْفَاقِ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَتَذَكَّرُونَ. زَادَهُمُ اللهُ تَعَالَى غَمًّا إِلَى غَمِّهِمْ، وَسَلَّمَ المُؤْمِنِينَ مِنْ شَرِّهِمْ. {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا...

المرفقات

من صفات المنافقين 11.doc

من صفات المنافقين 11.doc

من صفات المنافقين11-مشكولة.doc

من صفات المنافقين11-مشكولة.doc

المشاهدات 1960 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا