ثُمَّ تَوَلَّى إلى الظل
عبدالعزيز بن محمد
أيها المسلمون: خَرَجَ من أرضِه خائفاً يَترَقَّب.. لا يُبْصِرُ لِـمَسِيْرِهِ وجهةً، ولا يهتدي إلى سبيل {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} وفي ظهيرةِ يومٍ حارٍّ.. وردَ ماءَ مدينَ.. ــ بئرٌ يرِدُه أهلُ مَدْيَنَ ومنه يستسقون ــ. وَرَدَ ماءَ مدين.. وقَد أظناهُ التعبُ، وأرْهَقَهُ السفَر، وأرَّقَهُ التَّرَقُّبُ، وأجْهَدَهُ الجوعُ.
فلما دَنا.. رأى مشهداً لا يَرْتَضِيْه! رأى لؤْماً يلوحُ أمامَ ناظِرَيْهِ بأظهرِ معانِيْه. رأى امرأتين عفيفتينِ.. ألجأتْهُما الحاجةُ إلى الخروجِ مِنْ بَيْتِهِما في حَرِّ القائلةِ تستسقيانِ لغنمهما. وقفتا في منأى عن الرجال، تذودانِ غنَمَهُما عن غنمِ القومِ. ورأى رجالاً أقوياءَ أشداء.. في زحامٍ حولَ البئرِ وعراكٍ ينتزعونَ مِنْهُ الماء. لم يلتفتُ أحدٌ منهم لحاجةِ هاتين المرأتين الضعيفتين، ولم يرأفْ أحدٌ منهم بحالتهما. في أَثَرَةٍ لا إيثارَ فيها، وقسوةٍ لا رأفةَ معها. فأقبل موسى عليه السلامُ على المرأتين متسائلاً ــ في عِفَّةٍ ومروءَةٍ ونخوةٍ ورجولةٍ وكَرَم ــ: قال: ما خطبكما؟ قالتا: {لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ليسَ مِن أخلاقنا أنْ نُزاحِم الرجالَ في اختلاطٍ مَشِينٍ. ولم يُخرِجنا إلى ما ترى إلا الحاجةُ. إذْ لَيْسَ لَنَا مَنْ يَصْلُحُ لِـهذهِ المهمةِ إلا أبونا، وأَبُوْنَا شَيْخٌ كَبِيْرٌ.
فَشَمَّرَ موسى عليه السلامُ عن ساعديه وأقبل نحو البئرِ، فانتزعَ منها الماءَ فَسَقَى للمرأتينِ. ثم تولى سَرِيْعاً إلى الظِّل. لم يُخاطِبهما بما يَجْلِبُ الشَّكَ، ولم يَنْظُر إليهما بما يُثِيْرُ الرِّيْبَة. ولم ينتَظَر منهما على صَنِيْعِه جزاءاً ولا شكوراً {فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أنا الفقير إلى إنعامِكَ رَبِيْ وعطائك، فتفضل عليَّ بجودك وكرمك ونعمائك.
* فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ .. إنه المعروفُ حِينَ يُسدى بِلا مَنِّ. وإنه الإحسانُ حينَ يُبذَلُ بلا أذى. مواقفُ البِرِّ، ومشاهدُ الإحسان.. مواقِفُ رُقِيٍّ ومشاهدُ كرامةٍ، تَعْشَقُها النفوسُ، وتطربُ لها القلوبُ، وتَهْتَزُّ لها المشاعِرُ، وتُسَرُّ لسماعِها الآذان.
مواقفُ البِرِّ، ومشاهدُ الإحسان.. يَصْنَعُهَا رجالٌ أتقياء، لهم بالمروءَةِ قَدَمٌ، ولهم بالفضلِ يدٌ، ولهم بالإحسانِ مقام. أنْفُسٌ زكيةٌ.. تَبذُلُ المعروفَ بسخاء، وتُقدّمُ الخيرَ بصفاء، وتنشرُ النَّفْعَ رَضِيَّة.
في أبوابٍ من المعروفِ لا تحصى، وفي طُرُقٍ من الإحسانِ لا تُحَد.. نَفْعٌ بالمالِ إن كانَ له في المالِ مَدَدْ، ونَفْعٌ بالجاهِ إنْ كَانَ لَهُ فِيهِ مُرْتَكَزٌ وسَنَدْ، ونَفْعٌ بالعِلْمِ ــ في أيِّ فَنٍ ــ إن كانَ لَهُ في العِلمِ أركانٌ وَعَمَد.
نَفْعٌ في شتى الأمورِ.. صَغِيْرِها وكبيرِها، جليلِها وحقيرِها، تَيْسِيْرٌ لمطالِبِ العبادِ، وقضاءٌ لحوائجهم، وتذليلٌ لمصاعِبِهم، وتفريجٌ لكُرُباتِهم. نَفْعٌ للقريب ونفعٌ للبعيد. مُحْسِنٌ لا يرى في طريقِ النَّفِعِ باباً إلا وَلَجَة. «كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فيه الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، ويُعِينُ الرَّجُلَ علَى دابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عليها، أوْ يَرْفَعُ عليها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ، والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، ويُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» متفق عليه
لَمْ يَـحْتَقِرْ في سبيل النفعِ معروفاً وإن صَغُر، ولم يترُك في مجالِ البذلِ خيراً وإن حُقِرْ. أبوابٌ من الخيرِ شتى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ) رواه مسلم
يبذل المعروفَ صافٍ كالزلال.. ليس بالمنانِ كلا، ليس يؤذيْ مَنْ وَصَل، نَفْعُهُ نفعٌ عريضٌ، قد كساه بالجلال. ليس الكريمُ إذا أعطى بمنانِ، مُتَهَلِّلٌ مستبشرٌ بعطائه..
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً ** كأنَّكَ تُعْطِيْهِ الذي أَنْتَ سَائِلُهْ
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ..} مُخلِصٌ في بذلِهِ.. في نَفْعِهِ يَرْجُو الثوابْ. لم يَلْتَفِت يَوْمَاً إلى معروفٍ أسداه، ولم يتحدَث يوماً عن مناقبٍ له، ولا عن معروفٍ صَنَعَتْهُ يداهُ. لَه قَلْبٌ نحو السماء يُحَلِّقُ، قَلْبٌ مُخلِصٌ لا يبتغي في بذْلِهِ إلا الإله {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} صِفَةٌ التَزَمُوْها، أثنى اللهُ عليهم بها.. لم تَتَحَدَّثْ بها ألسِنَتُهُم، وإنما تَحَدَّثَت بها أحوالُهم. اطَّلَعَ اللهُ عليها في سرائِرُهُم. {..وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًاً} بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً . أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم تفلحون.
أيها المسلمون: وحين تَنْكَسِفُ شمسُ الفضيلةِ في بعضِ النفوسِ، تضيقُ ذَرْعاً بِكُلٍ مَعْرُوْفٍ يَعْرِضُ لها. فتَتَمَعَّرُ له وُجُوْهُها. تَمْنَعُ الفضلَ أن تبذُلَه، وتُمسِكُ المعروفَ أن تُسْدِيَه، وتبخلُ بأدنى نَفعٍ تقدِرُ عليه. جموعٌ مَنُوعٌ، شحيحٌ هَلُوعٌ {يُراؤونَ ويَمْنَعُونَ الماعُوْن}
لهُ خُلُقٌ لَمْ يُسْقَ بماءِ الإيمان، ولَه نَفْسٌ لم تَنْهَلْ مِنْ مَعِيْنِ الفَضِيْلَة. أنى لها أنْ تُدرِكَ منازِلَ الفضلِ، وأنى لها أن ترتقي لمقامِ الإحسان. عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعُ أحدُكُمْ جارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً في جِدَارِهِ) ثم يقولُ أبو هريرة: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) رواه البخاري ومسلم
إن نفسَ الكريمِ.. أعظمَ ما تُسَرُّ، حينَ تسعى في نفعِ مسلمٍ، أو دَفعِ ضُرٍّ عنه. تَسعى في النَّفعِ بطيبِ نفسٍ، وكريم خُلُق. لا يُقْعِدُها عن المعروف أَنْ قُوبِلَ من لئيمٍ بالإساءة. مُحتسبةً الأجرَ على رَبها. قال يارسولَ الله: إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟! فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ" رواه مسلم
عباد الله: إن خيرَ الناسِ أنفَعُهُم للناسِ.. وخيرُ النَّفعِ ما لَمْ تَقُدْهُ المصالحُ. إنْ كَانَ لَهُ عِندَ أحدٍ مِنَ الناسِ مصلحةٌ تُرجى، أو نعمةٌ تُجزى، أو حاجةُ تُنتَظَر.. غَمَرَهُ بنفعٍ وبالغَ في بذلِ المعروفِ إليه.
وإِنْ يَأْتِهِ مُستَضْعَفٌ مَغْمُوْرٌ مَدْفُوْعٌ بالأبوابِ لا يُؤْبَه لَه.. لم يُمْضِ له حاجةً، ولَمْ يقضِ له مطلباً.. مَعَ تَيَسُّرِ ذلكِ وقُدْرَتِهِ عليه.
* يُقَطِّبُ جَبِيْنَه، ويَكظمُ ابتسامتَه، ويُسِرُّ رَدَّ السلامِ إنْ أقبل عليه وقَابَلَهُ مَنْ لا يَعرِفُه، وحين تَتَكَشَّفُ له شخصيةُ مَنْ أمامَه.. بأنْ له منصِبٌ أو له بهِ قرابةٌ، أو له في الناسِ شهرةٌ ومقام.. تتبدلُ منه قسماتُ الوجهِ إلى ضحوكٍ خَلوقٍ بشوش.. تباً لابتسامةِ لا تُصرفُ، وسلامٍ لا يُردُّ، ومُحياً لا يَنْطَلِقُ إلا لمصلحة. فرضي اللهُ عنِ الصِّدِّيقِ أبي بكر.. أثنى عليه رَبُه، ووعده الجزاءِ الأوفى.. بأنْ يُعطِيَهُ من النعيمِ حتى يرضى.. أنفقَ أموالاً في شراءِ المماليكِ المستضعفين، الذين لا يُرجى منهم نفعٌ، ولا يُقبلُ لهم شَفعٌ، ولا يُدَّخَرُونَ لِمُلِمَّةٍ.. اشتراهُم لِيُعْتِقَهُم مِن الرِّقِّ ويُـخَلِّصَهُم من أذى المشركين، {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى*الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ*وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ*إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ*وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ} وكُلُّ مَن يبتغي بإحسانِ.. وَجْهَ رَبِّهِ الأعلى، فلسوفَ يرضى.
اللهم أصلح لنا سرائرنا، وأخلص لنا أعمالنا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك..
المرفقات
1627642051_ثم تولى إلى الظل 20ـ12ـ1442هـ.doc
منصور بن هادي
نفع الله بك وكتب لك الأجر والمثوبة
تعديل التعليق