ثلاث خطب مقترحة في ثلاث جمع بعد شهر رمضان
بندر بن عبدالله الرشود
وكنت قد كتبت ثلاث خطب تتعلق بالصيام والقيام وخطبة ثالثة كتبتها اعقاب احداث غزة في العام الماضي وجعلتها في تدبر القرآن , فهذه ثلاث خطب , ويبقى الحديث عن فضل التلاوة وفضل المداومة على العمل الصالح والملتقى بحمد الله مليء بالخطب عنهما .
الجمعة الأولى
فضل صيام النفل
الخطبة الأولى
فان الله تعالى قد امتن على عباده بأن جعل لهم مواسم للخير يتزودون فيها من البر والتقوى , وقد امتن الله عليكم ايها السامعون الكرام بببلوغ شهر رمضان المبارك ووفقكم بفضله لصيامه وقيامه , فأفيضوا في شكر هذه النعمة العظيمة , وانها والله لمن أعظم النعم لمن تأملها , فحين تكون ممن امتن الله تعالى عليه بالبقاء لبلوغ شهر رمضان وتمامه, فإنها والله لنعمة عظيمة ان يسطر في كتابك صيام هذا العام , والله يؤتي فضله من يشاء , فقد روى الامام احمد والترمذي رحمهما الله وغيرهم أن النبي سئل أي الناس خير فقال ( من طال عمره وحسن عمله ) صححه الألباني , وروى الامام احمد والبيهقي وابن حبان رحمة الله عليهم جميعا عن طلحة بن عبيد الله: أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة، فأَذن للذي توفي الآخرِ منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد ، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من أي ذلك تعجبون؟ " قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد اجتهادا ثم استشهد في سبيل الله، ودخل هذا الجنة قبله، فقال: " أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ " قالوا: بلى. قال: " وأدرك رمضان فصامه؟ " قالوا: بلى قال: " وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟ " قالوا: بلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلما بينهما أبعد ما بين السماء والأرض " صححه الالباني رحمه الله , الا فاحمدوا الله تعالى على أن مد في أعماركم لبلوغ هذا الشهر المبارك ووفقكم لصيامه وقيامه وسلوه القبول والمزيد, واذا تأملتم ذلك رحمكم الله ؛ ظهر لكم سر الخيرية في طول العمر: المقرونِ بصلاح العمل , وكيف كان السلف رحمهم الله يحرصون على اغتنام أعمارهم و أنفاسهم في مرضات الله تعالى , حيث جعلوا الدنيا ميدانا للتنافس والمسابقة في الخيرات فأحسنوا في التزود والتكثر من الطاعات والحسنات, والله يؤتي فضله من يشاء .. وما كان الله ليضيع أجر المحسنين .
هذا وتأملوا رحمكم الله : قول الله تعالى في الحديث القدسي " كل عمل ابن ادم له الا الصوم فانه لي وانا اجزي به " فكم يا ترى من الاجر العظيم الذي اختصك الله به ايها الصائم ايمانا واحتسابا , حتى قال بعض العلماء ان اجر الصيام وثوابه لا يكون من ضمن الاعمال التي يقتص بها من العبد يوم القيامة , فاي نعمة هذه النعم .. فتذكَّروا يا عباد الله واشكروا , واكثروا من الحمد والشكر؛ وتزودا من الأعمال الصالحة واهجروا اضدادها ؛ فوالله إن السعادة ثم .
واذا عرفتم هذا ايها الموفقون فاعلموا ان صيام يوم في سبيل الله يباعد عن النار سبعين خريفا , كما صح عنه .
وعبادة الصوم لا تنقطع بانقضاء شهر رمضان المبارك , بل قد جاء في فضائله على طول العام أحاديث كثيرة .
فمن ذلك صيام ثلاثة ايام من كل شهر , فيستحب للمسلم ان يصوم ثلاثة ايام من كل شهر , سواء كانت متتابعة او متفرقة , وسواء كانت في اول الشهر او في وسطه او في اخره , وهي لا تختص بالايام البيض , فلا يشق الانسان على نفسه بصيام الايام البيض , حتى اذا فاته بعضها ترك صيامها كلها , بل هو مخير في سائر ايام الشهر , فيراعي دائما ما هو الأنسب له من الايام فيصومها حتى يدرك هذه الفضيلة الثابتة , فقد جاء في صحيح مسلم عن معاذة العدوية أنها سألت عائشة رضي الله عنها : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ؟ قالت : نعم . قالت : من أي أيام الشهر كان يصوم ؟ فقالت عائشة : لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم اصامها من اول الشهر ام من اخره " وفي الحديث الصحيح المشهور عن ابي هريرة قال " اوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت : صوم ثلاثة أيام من كل شهر ، وصلاة الضحى ، ونوم على وتر "
فهذه الاحاديث تعطيك -ايها المسلم- الخيار الأوسع في اختيار الايام التي تناسبك, ومن جعلها في كل يوم اثنين من كل شهر ؛ كان له اجران فضلا من الله ومنة , لما ثبت عنه في فضيلة صيامه.
ثم هذه الايام الثلاثة من كل شهر تعادل صيام شهر كامل لان الحسنة بعشر امثالها , فصيام يوم يعادل صيام عشرة ايام , فالثلاثة تعادل ثلاثين .
ومن واظب على صيام ثلاثة ايام من كل شهر فكأنما صام العام كله , فما أعظم فضل الله تعالى على عباده ويا فوز السابقين الى الخيرات.
ومما يشرع صيامه من الايام , صيام يوم عرفة وعاشوراء , والفضل فيها معروف يأتي التذكير عنه في أوانه باذن الله تعالى .
وأما ما ينتظر السامعون الحديث عنه , فهو صيام الست من شوال , والتي لا يخفى فضلها على الصغير والكبير بحمد الله تعالى , حيث صح عنه انه قال " ((من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) رواه الامام مسلم من حديث ابي ايوب .
واعلموا رحمكم الله انه يستوي في هذه الست, ان تصام متتابعة او متفرقة, في اول الشهر او في اخره , ومن كان عليه قضاء من رمضان فالأفضل ان يقضي ما عليه , ثم يصوم هذه الست خروجا من خلاف العلماء , ومن كان يشق عليه ذلك فلا حرج عليه ان شاء الله ان يبدأ في صيام هذه الست , ثم يقضي ما عليه من رمضان متى شاء من ايام العام , وعليه ان يبادر في صيام القضاء ابراء لذمته, فان الانسان لا يدري ماذا يعرض له .
ثم اعلموا رحمكم الله انه يشرع للانسان ان يصوم ما شاء من الايام الا يوم الجمعة , فقد ثبت عنه انه نهى عن افراد يوم الجمعة بالصوم الا ان يصوم معه يوما قبله او يوما بعده .
واما النهي عن افراد يوم السبت بالصيام فهو محل خلاف بين العلماء , ولكن الراجح انه غير منهي عنه لضعف الحديث الوارد فيه , وبهذا افتى اكثر العلماء وهو اختيار شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله, فلا حرج في صيامه منفردا ان شاء الله.
والمقصود عباد الله ان عبادة الصوم عبادة عظيمة ونعمة جليلة امتن الله تعالى بها على عباده , قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "الصوم جنة من أدواء الروح والقلب والبدن؛ مَنافِعُه تفوت الإحصاء، وله تأثير عجيب في حفظ الصحة، وإذابة الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها، ولاسيما: إذا كان باعتدال وقصد في أفضل أوقاته شرعاً، وحاجة البدن إليه طبعاً، ثم إنّ فيه من إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها، وفيه خاصية تقتضي إيثاره، وهي تفريجه للقلب عاجلاً وآجلاً فهو أنفع شيء لأصحاب الأمزجة الباردة والرطبة وله تأثير عظيم في حفظ صحتهم" وما عند الله خير وأعظم , فلله الشكر والحمد كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه ووافر نعمه وجزيل الائه .
بارك الله لي ولكم في القران العظيم ونفعني واياكم بما فيه من الايلات والذكر الحكيم . قلت ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم ...
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حقَّ التقوى، وراقبوه في السّر والنجوى، واشكروه جل وعلا أن هداكم للإسلام، ووفَّقكم للصيام والقيام، وعلى ما تنعمون به في هذه الأيام من أيام عيد الفطر المبارك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن السعيد في العيد ليس من لبس الجديد وتنعّم بالغيد، وإنما السعيد بالعيد من خاف يومَ الوعيد، وسلِم من العذاب الشديد.
مرّ وُهَيب بن الورد رحمه الله على أناس يلهُون ويغنون أيامَ العيد فقال لهم: "عجباً لكم! إن كان الله قد تقبَّل صيامَكم فما هذا عملُ الشاكرين، وإن كان الله لم يتقبَّله منكم فما هذا عمل الخائفين".
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ ان ثواب الحسنة ؛ الحسنةُ بعدها, وان من علامة القبول؛ الاستمرارُ على العمل الصالح , ألا فحاسبوا أنفسكم ـ رحمكم الله ـ بعد صيام شهركم، وانظروا ماذا قدمتم لأنفسكم في رمضان، واستمرّوا عليه بعده، وضاعفوه، وتقرَّبوا إلى الله بأنواع الطاعات، فتلك ـ والله ـ هي التجارة الرابحة في أسواق الآخرة، ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين )
ثم صلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير فقال عز من قائل: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ...
اللهم اعز الاسلام ..
اللهم بارك للمسلمين في عيدهم واجعله عيد نصر ورفعة وتمكين للاسلام والمسلمين يا رب العالمين
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا واجعلنا من الفائزين المقبولين برحمتك يا ارحم الراحمين ..
اللهم امنا في اوطاننا
اللهم اغفر للمؤمنين
اللهم اتنا في الدنيا
سبحان ربك رب العزة عما يصفون 000
المشاهدات 3188 | التعليقات 5
الجمعة الثالثة
تدبر القرآن من خلال الأحداث الجارية
( يمكن أن تعدل بحسب الأحداث )
الخطبة الأولى
أما بعد فمع زحمة الأحداث الجارية , ومع تزايد سفك الدماء البريئة , وانتشار الهرج والمرج , حتى صارت أخبار القتل وتعدادِ القتلى ؛ أخبارا عابرة , تمر على الأسماع والأبصار دون توقف أو تأمل أو حتى دعاء واسترجاع .
مع كل هذا وذاك , تثور أسئلة واعتراضات , وتعرض فتن وثورات , ويبقى السؤال قائما : كيف السبيل للخروج من هذه الفتن ؟ وما الطريق للسلامة من تلك الآفات ؟ وما الواجب فعله تجاه تلك الأحداث المفجعات ؟
أيها المصلون الأكارم / تعالوا لنسترجع معا تلك اللحظات والدقائق العظيمة والتي عشناها في سماع كلام الله تعالى وهو يتلى في صلاة التراويح ..
لقد مر بأسماعنا في سورة البقرة ما قاله الله تعالى بشأن المنافقين حيث كان من وصفهم انهم يخادعون الله تعالى وهو خادعهم فهم يفسدون في الأرض ويدعون أنهم مصلحون ؛ وما يخدعون الا أنفسهم وما يشعرون .. وهذا حال الطغاة اليوم يقتلون أهل الإصلاح ويدعون انهم يطهرون بلادهم من المفسدين . يستهزءون بالذين آمنوا ويلصقون بهم أوصاف الجرم والارهاب والله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون .. فالله تعالى يمهل هؤلاء الطواغيت والمنافقين في طغيانهم وإجرامهم وهم في ذلك عميان لا يبصرون الحق , لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى واشتروا الكفر بالايمان فهم يتقلبون في الطغيان والضلالة .
ومن أجل ذلك تعجب الملائكة الكرام عليهم السلام من استخلاف الله تعالى لبني آدم في الأرض لما كان من شأنهم أن يفسدوا في الارض ويسفكوا الدماء , فيالله ما أعجب هذا الوصف وما أبلغه حين قالوا ( ويسفك الدماء ) كما فعل بنو الجان من قبل .. قال ابن كثير رحمه الله : وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض .
ثم ذكر الله تعالى ما كان من شأن بني اسرائيل وكيف كانوا يلبسون الحق بالباطل , وهاهم اليوم يزورون الحقائق ويفترون الإثم ويكابرون بإجرامهم ويتكبرون على الله تعالى مغترين بقوتهم , حتى قتلوا مئات الشهداء من أهل غزة , زعما منهم بأنهم ينتقمون لثلاثتهم الأنجاس الذين قتلهم الرافضة بأيدي اليهود ليصرفوا أنظار العالم عن أهل الشام ولبنان , وإلا فأهل غزة أحرص على حياة اولئك الثلاثة ليفتدوا بهم مئات الأسرى كما فعلوا بواحدهم من قبل , ولكنهم يمكرون وان كان مكرهم لتزول منه الجبال , وكيف لا يمكرون وهم الذين يسمعون كلام الله تعالى ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون, وكيف لا يسعون في الأرض فسادا وهم الذين قد أشربوا الكفر في قلوبهم فكفروا بالله وقتلوا أنبياءه وقالوا قلوبنا غلف , كيف لا يقتلون الأبرياء والأطفال وهم الذين قست قلوبهم حتى صارت كالحجارة بل أشد بل كيف ذلك وهم ابغض الناس وأشدهم حسدا وعداوة للذين آمنوا ( لتجدن اشد الناس عداوة للذين امنوا اليهود والذين اشركوا )
ثم يذكر الله تعالى في خضم الحديث عن أفعال اهل الكتاب : سبيل الاستعانة عليهم فيقول جل وعلا ( يا ايها الذين امنوا استعينوا بالصبر والصلاة ان الله مع الصابرين ) والصبر والصلاة هما أجود ما يستعان به على تحمل المصائب , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا حزبه أمر فزع الى الصلاة . ثم يذكر عباده المؤمنين بمصير قتلاهم تسلية لهم وجبرا بخواطرهم فيقول تعالى ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله اموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) وهذا القتل والابتلاء هو من سنة الله تعالى في عباده حيث يقول تعالى بعد هذه الاية ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين ) وهذا هو حال المؤمن ؛ إما أن يكون في نعمة فيشكر ، أو في نقمة فيصبر ؛ كما جاء في الحديث الصحيح "عجبا للمؤمن. لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء، شكر، فكان خيرا له؛ وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".
فهذا ما كان من شأن المنافقين وكفار أهل الكتاب في سورة البقرة حتى ذكر الله تعالى طرفا من خبرهم في سورة ال عمران فأخبر سبحانه عن غايتهم ( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون الأ انفسهم وما يشعرون ) وأخبر سبحانه عن كفرهم وتلبيسهم ومراوغتهم واصرارهم على كفرهم حتى قالوا ( ولا تؤمنوا الأ لمن تبع دينكم ) يقولون ذلك وهم يعلمون أنهم مخطئون ضالون فكان جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين , واستحقوا بذلك غضب الله تعالى عليهم وأن يتبرأ أهل الإيمان منهم ويستعيذوا من طريقتهم كل يوم سبع عشرة مرة حين يقولون ( غير المغضوب عليهم ) واستحقوا أن تضرب عليهم الذلة أينما ثقفوا , وهم كذلك لا تقوم لهم قائمة الا بحبل من الله وحبل من الناس أي بعهد من الله تعالى وعهد من الناس فكذلك حالهم اليوم , لولا عهد الناس معهم ومناصرة أعداء الله لهم لكانوا أذل الناس , والله أحكم الحاكمين .
وفي ثنايا أخبار أهل الكتاب في سورة ال عمران يذكر الله تعالى سبيل النجاة من فتنتهم ومكرهم فيقول جل وعلا ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) وحبل الله هو السبب الذي يتوصل به الى النجاة , وأحسن ما قيل في المراد به ها هنا هو الجماعة , أي جماعة المسلمين , لأنه قال بعدها ولا تفرقوا , وبهذا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وغيره وقال: عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر الله به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة , وصدق رضي الله عنه ؛ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولى الله أمركم، ويسخط لكم: قيل وقال، وإضاعة المال وكثرة السؤال " اخرجه الامام مسلم رحمه الله .
وبعد عباد الله فقد سمعتم رحمكم الله أعظم ما يستعان به على البلاء والمصائب والأزمات , وهو على قسمين عبادة خاصة وطاعة عامة , فاما العبادة الخاصة فهي الصبر والصلاة , وقد قال عليه الصلاة والسلام ( العبادة في الهرج كهجرة إلي ) والهرج هو كثرة الفتن وانتشار القتل واختلاط الأمور , فحري بالمسلمين اليوم وقد احتفت بهم الفتن واحتاط بهم القتل من كل جانب أن يكثروا من العبادة لله تعالى من صلاة ودعاء وصوم وصدقة ,وأن يستعينوا على ذلك بالصبر والتصبر , أما وأن يعيشوا في منأى عن واقع إخوانهم المسلمين فلا يدعون لهم في صلواتهم ولا يألمون لما أصابهم ولا يسعون في نصرتهم , فما ذلك بحال المسلم المحب لإخوانه المسلمين , وقد قال عليه الصلاة والسلام ( لا يؤمن أحدكم حتى يخب لأخيه ما يحب لنفسه ) رواه الشيخان من حديث انس رضي الله عنه , وهذا هو الواجب علينا تجاه إخواننا المستضعفين .
وأما الطاعة العامة فهي محل القوة والشوكة والنصرة , وهي العلاج الناجع لدفع الفتن الطاحنة والشبهات المختلطة , ولهذا فإن من أُصول العقيدة الصحيحة: السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين في غير معصية الله، كما قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ : ومما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، وعند تغير الأحوال: (التمسكُ بكتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم)، و(طاعةُ مَن ولاه الله عليكم في المعروف)، وإنْ حصل منهم تقصير، أو ظلم، فقد خرج الامام مسلم في صحيحه قال حدثنا داود بن رشيد، حدثنا الوليد يعني ابن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، أخبرني مولى بني فزارة، وهو رزيق بن حيان، أنه سمع مسلم بن قرظة - ابن عم عوف بن مالك الأشجعي - يقول: سمعت عوف بن مالك الأشجعي، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» ، قالوا: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة» ، قال ابن جابر: فقلت: - يعني لرزيق - حين حدثني بهذا الحديث: آلله، يا أبا المقدام، لحدثك بهذا، أو سمعت هذا من مسلم بن قرظة يقول: سمعت عوفا، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فجثا على ركبتيه واستقبل القبلة، فقال: " إي والله الذي لا إله إلا هو، لسمعته من مسلم بن قرظة، يقول: سمعت عوف بن مالك، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « والمشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة، وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم؛ كما دلّت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، وانما يُدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها مِن الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته. والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم، وكل باغ كيفما كان، ولا أمر بقتال الباغين ابتداء، بل قال: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾ [الحجرات:٩]، فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر ابتداء. ا.هـ.
وقال الامام البربهاري رحمه الله : «ليس من السنة قتال السلطان؛ فإن فيه فساد الدنيا والدين».
ولا يجوز سب ولاة الأمر، وشتمهم، والتشهير بهم؛ فإن هذا خلاف النصوص، وما كان عليه السلف الصالح فَصحَّ عن أنس قال: «نهانا كبراؤنا مِن أصحاب محمد قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَسبُّوا أُمراءكم ولا تغشوهم ولا تبغضوهم واتقوا الله واصبروا فإن الأمر قريب» جود اسناده الالباني رحمه الله وقال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف -رحمه الله-: «وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا تُوجب الكفر والخروج عن الإسلام؛ فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح مِن عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر لا يعلم صاحبه ما يترتَّب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا؛ كما يعرف ذلك من نوَّر الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين».
واعلموا رحمكم الله أن الناس كما يكونون يُولَّى عليهم، فإذا أساءوا فيما بينهم وبين الله؛ فإن الله يُسلِّط عليهم ولاتَهم. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِيْنَ بَعْضًا بِمَا كَانُوْا يَكْسِبُوْنَ﴾ فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا أعمالكم فيما بينكم وبين الله، فإن الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، وعليكم بلزوم الجماعة، وما كان عليه سلف هذه الأمة،( ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) .
الخطبة الثانية
اما بعد فاتقوا الله عباد الله , وراقبوه في السر والعلن , واشكروه سبحانه على أن من عليكم بالأمن والإيمان , والزموا طاعته تفلحوا في الدنيا والآخرة .
وبعد رحمكم الله فإن كتاب الله تعالى فيه نبأ من قبلنا، وخبر من بعدنا، وحكم ما بيننا، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبَّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم , وقد ذكر الله تعالى فيه أحوال الأمم السالفة وكيف أنه سبحانه أهلكهم بذنوبهم وبغيهم , فبين سبحانه مصير المنافقين في سورة النساء وفضح سرائرهم في سورة التوبة , وبين عاقبة التآمر مع أهل الكتاب وموالاتهم في سورة المائدة بعد ان فضح كفرهم ولعنهم , وكشف عن حال الامم وما ابتلاهم به من السراء والضراء في سورة الانعام حتى اذا فتح عليهم ابواب كل شيء اخذهم بغتة فاذا هم مبلسون , ثم قص علينا سبحانه في سورة الاعراف وسورة هود ويونس والحجر أحوال قوم عاد وثمود واصحاب مدين وقوم لوط في عرض يأخذ بالألباب ويأسر الأفئدة , ثم يبين لنا المولى جل في علاه في سورة ابراهيم أن مصير الكافرين واحد وأنه لا عزيز عليه إلا من أطاعه فقال سبحانه ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) وفي سورة النحل والاسراء يذكر سبحانه أحوال كفار العرب وكيف طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ( ذلك بانهم استحبوا الدنيا على الاخرة والله لا يهدي القوم الظالمين )
ألا فتدبروا كتاب الله تعالى عباد الله وأكثروا من تلاوته واستعينوا به في دفع المدلهمات والفتن فهو نور يهتدى به في الظلمات , ( ياايها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وانزلنا اليكم نورا مبينا )
خطبة مختصرة لهذا اليوم
الخطبة الأولى ( اقتبست غالبها من خطبة أحد الاخوة في الملتقى )
الحمد لله الذي منَّ علينا بإدراكِ شهرِ الصيامِ؛ ومتعنا بطاعتِه فيه إلى أن بلغنا عيدَ الفطرِ ونحن بصحةٍ وسلامٍ؛ نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ ونتوبُ إليه؛ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا؛ من يهدِه اللهُ فلا مضلَ لهُ ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد:
فاتقو الله عباد الله وراقبوه في السر والنجوى ثم اشكروه على ما منَّ به عليكم من الطاعةِ واسألوهُ المغفرة والقبولَ.
عباد الله جميلٌ أن نقفَ بعد شهرِ رمضان وقفاتِ تهمُنا في حياتِنا الدنيويةِ والأخرويةِ؛ نخرجُ مع كلِ واحدةٍ منها بعبرةٍ وموعظةٍ.
أولُها: وقفةُ اعتبارٍ لسرعةِ تقضي اللياليَ والأيامَ فبعدما كنا نرجو اللهَ وندعوه بلوغَ الشهرِ وإتمامَه والسعادةَ بالعيدِ فإذ بنا نفرحُ بإدراكِهما؛ ثم ينصرفان عنا مُودعَين شاهدين؛ فهنيئاً لمن أودَعَهما الخيرَ. وهكذا الأيامُ بطيئةٌ في التحري سريعةٌ في التقضي:
وإنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعُها **** وكلُ يومٍ مضى يُدني من الأجلِ.
يقولُ الحسنُ رحمهُ اللهُ: ما من يومٍ ينشقُ فجرُه إلا وينادي يا ابنَ آدم: أنا خلقٌ جديدٌ؛ وعلى عملِك شهيدٌ فتزودْ مني فإني إذا مضيتُ لا أعودُ إلي يومِ القيامةِ. ويقولُ: يا ابن آدم إنما أنتَ أيامٌ كلما ذهب يومٌ ذهب بعضُك، ويقول آخرُ:
وما المرءُ إلا راكبٌ ظهرَ عمرِه **** على سفرٍ يفنِيه باليومِ والشهرِ
يبيتُ ويضـحي كـلَ يومٍ وليلةٍ **** بعيداً عن الدنيا قريبـاً من القبرِ
ثاني الوقفات: كنا نقولُ في أولِ شهرِ رمضانِ أن رمضانَ فرصةٌ لتربيةِ النفوسِ، وتقويةِ الإرادةِ فيها والارتفاعِ بها في سُلم الأخلاقِ الفاضلةِ، والنأيُ بها عن السيئِ من الأخلاقِ.. وإن رؤيةَ هلالِ الصيامِ في السماءِ هو إشارةٌ لبدءِ معركةِ الإرادةِ وقوةِ العزيمةِ للتخلصِ من الذنوب والأخلاقِ السيئةِ والتحلي بالحلمِ وحسنِ الخلقِ..
فالصومُ يدربُ المسلمَ على أن يمتنعَ باختيارِه عن كثيرٍ من الأخلاقِ السيئةِ.. ويضعُ له منهجاً للتغييرِ ويُعطيه فترةً تدريبيةً هي عُمرُ شهرِ رمضانَ المباركِ..
وها هو الشهرُ قد انقضي ونسألُ اللهَ القبولَ للجميعِ.. لكن لنعلمْ أيها الأحبةُ: أن أَعْرَاضَ الْفُتُورِ وَالتَّثَاقُلِ عَنِ الطَّاعَاتِ بَعْدَ رَمَضَانَ تُصِيبُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، وَبَعْضُهُمْ قَدْ يَنْصَرِفُ لِلْمَعَاصِي مِنْ ضِيقِ مَا يَجِدُ مِنِ انْصِرَافِهِ عَنِ الطَّاعَاتِ.!
وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ بَعْدَ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَضْبِطَ نَفْسَهُ فِي كل وقت وبخاصة في الْأُسْبُوعِ الْأَوَّلِ بَعْدَ رَمَضَانَ، فَلَا يَتَأَخَّرُ فِيهِ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَلْيُبَكِّرْ إِلَى الـمَسْجِدِ فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَلَا يَتْرُكُ فِيهِ السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ وَالْوِتْرَ وَسُنَّةَ الضُّحَى، وَلَا يَهْجُرِ الْقُرْآنَ، بَلْ يَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ مَا تَيَسَّرَ، ويمتنعُ عما كان يمتنعُ عنهُ لحرمتِه وحرمةِ شهرِ رمضانَ حَتَّى يُجَاوِزَ أَيَّامَ الْفُتُورِ، وسيجدُ بعد ذلكَ نفسَه إنْ شاءَ اللهُ نَشِيطًا فِي الطَّاعَةِ كَمَا كَانَ فِي رَمَضَانَ.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ ان ثواب الحسنة ؛ الحسنةُ بعدها, وان من علامة القبول؛ الاستمرارُ على العمل الصالح , ألا فحاسبوا أنفسكم ـ رحمكم الله ـ بعد صيام شهركم، وانظروا ماذا قدمتم لأنفسكم في رمضان، واستمرّوا عليه بعده، وضاعفوه، وتقرَّبوا إلى الله بأنواع الطاعات، فتلك ـ والله ـ هي التجارة الرابحة في أسواق الآخرة، ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين )
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حقَّ التقوى، وراقبوه في السّر والنجوى، واشكروه جل وعلا أن هداكم للإسلام، ووفَّقكم للصيام والقيام، وعلى ما تنعمون به في هذه الأيام من أيام عيد الفطر المبارك.
ومما يوصى به في كل عام بعد صيام رمضان صيام الست من شوال , والتي لا يخفى فضلها على الصغير والكبير بحمد الله تعالى , حيث صح عنه انه قال " ((من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) رواه الامام مسلم من حديث ابي ايوب .
واعلموا رحمكم الله انه يستوي في هذه الست, ان تصام متتابعة او متفرقة, في اول الشهر او في اخره , ومن كان عليه قضاء من رمضان فالأفضل ان يقضي ما عليه , ثم يصوم هذه الست خروجا من خلاف العلماء , ومن كان يشق عليه ذلك فلا حرج عليه ان شاء الله ان يبدأ في صيام هذه الست , ثم يقضي ما عليه من رمضان متى شاء من ايام العام , وعليه ان يبادر في صيام القضاء ابراء لذمته, فان الانسان لا يدري ماذا يعرض له .
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن السعيد في العيد ليس من لبس الجديد وتنعّم بالغيد، وإنما السعيد بالعيد من خاف يومَ الوعيد، وسلِم من العذاب الشديد.
مرّ وُهَيب بن الورد رحمه الله على أناس يعصون الله في أيامَ العيد فقال لهم: "عجباً لكم! إن كان الله قد تقبَّل صيامَكم فما هذا عملُ الشاكرين، وإن كان الله لم يتقبَّله منكم فما هذا عمل الخائفين".
الا فاتقوا الله عباد الله وأتبعوا السيئة الحسنة تمحها , وداوموا على الأعمال الصالحة فإن فيها سعادتكم في الدنيا والآخرة ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )
هذا وصلوا رحمكم الله
وفيتت وكفيت شيخ بندر بن عبدالله الرشود كتب الله أجرك وشكر سعيك على هذه الخطوة المباركة والجهد الجبار لا حرمت الأجر زادك الله حرصاً ونفعاً .
جزاكم الله خيرا يا شيخ زياد ورفع قدركم وبارك فيكم وما أنا الا بذرة من جهود هذا الملتقى المبارك جعله الله في موازين حسناتكم رزقنا الله واياكم الاخلاص في القول والعمل
بندر بن عبدالله الرشود
الجمعة الثانية
فضل قيام الليل
الخطبة الاولى
أما بعد فالحمد لله الذي وفقنا لقيام شهر رمضان بفضله , وامتن علينا بالوقوف بين يديه وسماع القرآن بمنته , أحمده سبحانه وأشكره؛ حمدا يليق بجلاله وعظمته , وأشكره شكرا متواليا يليق بمنه وسوابغ كرمه , فلك الحمد يا الله , والشكر مرة بعد مرة , ولك الثناء العظيم المتسلسل كرة بعد كرة ..
فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون واحمدوه على ما تتقلبون فيه من النعم الوافرة , واكثروا من شكره على ما أسبغ به عليكم من العطايا والهبات الجزيلة , ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم )
ألا وان من حمد الله تعالى وشكره : المداومة على طاعته وذكره, فقد كان خير الناس وأتقاهم لربه نبينا محمد أدوم الناس طاعة لربه , كما قالت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن عمله فقالت : كان عمله ديمة , أي دائما لا ينقطع خرجه الشيخان رحمهما الله تعالى , وأخرج الشيخان ايضا من حديث المغيرة بن شعبة , أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي حتى تنتفخ قدماه او ساقاه فيقال له : أتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول ( أفلا أكون عبدا شكورا ) صلوات ربي وسلامه عليه
ومن رحمة الله بعباده وعظيم فضله عليهم أن جعل خير أعمالهم واحبها اليه سبحانه : أدومها وإن قل , كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام , وقال ايضا " اكلفوا من العمل ما تطيقون " أي ما تستطيعون فعله دائما ولا تنقطعون عنه . خرجهما الشيخان . ولهذا كان من أعظم اوصاف أهل الجنة أنهم على صلاتهم دائمون .
اذا تقرر هذا الأصل العظيم ايها المباركون فاذكروا رحمكم الله تلك النسمات الشريفة التي تنعمتم فيها بالوقوف بين يدي الله تعالى طيلة شهر رمضان المبارك , وتلذذت أسماعكم فيها بسماع كلامه في صلاة التروايح , واطمأنت قلوبكم بمناجاته جل وعلا في صلاة الليل .
وإن المرجو رحمكم الله ألا تنقطع منكم تلك النفحات الكريمة , وألا تهجروا تلك السنة الجليلة , الا وهي قيام الليل .
قيام الليل هو دأب الصالحين وشأن عباد الله المتقين ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾
وقال جل وعلا في جملة أوصاف عباده المؤمنين ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ) فكان جزاؤهم أن قال الله تعالى فيهم ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين )
ويكفي في صلاة الليل فضلا وشأنا أنها أفضل الصلاة بعد صلاة الفريضة كما قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الامام مسلم وغيره .
وصلاة الليل ايها الاخوة هي صلاة الوتر , ولا تشرع صلاتها في جماعة إلا في رمضان وهي صلاة التراويح ويجوز فعلها جماعة في غير رمضان وفي غير المساجد احيانا لا على سبيل الدوام , ووقت صلاة الليل يبدأ من بعد صلاة العشاء وحتى طلوع الفجر, ومن كل الليل قد صلى عليه الصلاة والسلام ثم انتهى وتره الى السحر . كما صحت بذلك الأحاديث عنه .
فأفضل أوقاتها هو وقت السحر وهو الثلث الأخير من الليل , إذ هو وقت النزول الإلهي حيث ينزل ربنا تعالى في هذه الساعة من كل ليلة كما جاء في حديث ابي هريرة ان النبي قال " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني، فأستجيب له من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له " أخرجه الشيخان .. فيا لغفلة الغافلين ويالخسارة المحرومين .
وفي صحيح مسلم من حديث جابر أنه عليه الصلاة والسلام قال " إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة» فيا لله ما أشد خسارة الغافلين ..
ولأن هذا الوقت من اخر الليل هو وقت تكثر فيه الغفلة عن ذكر الله تعالى , إذ أكثر الناس هجوع نيام , كما أنه وقت اسرار وخفاء وهما أقرب الى الاخلاص لله تعالى , ولأنه من الأمور الشاقة على النفس أن يقطع الانسان لذيذ نومه ويفارق نعيم فراشه في هدأة الليل والذي هو محل الراحة والسكن ليقف بين يدي ربه تعالى , فإن ذلك ثقيل ولا بد , ولهذا وصفه الله تعالى بقوله ( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا ) أي أثقل على المصلي من قيام النهار . ولهذا كان من وصايا النبي لأمته حين قدم المدينة أن قال في جملة من الوصايا ( وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا جنة ربكم بسلام ) اخرجه الترمذي وصححه .
وأفضل صفاتها ما داوم عليه نبينا عليه الصلاة والسلام ففي الصحيح عن عائشة لما سئلت عن صلاته في الليل قالت : ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على احدى عشرة ركعة , يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة . فهذه افضل وأكمل صفاتها .
وقد صح عنه في صلاة الليل صفات عديدة فصح عنه عليه الصلاة والسلام انه كان يوتر بخمس وسبع وتسع لا يفصل بينها بسلام ولا تشهد الا في التسع فيجلس بعد الثامنة فيتشهد ثم يأتي بالتاسعة ويتشهد ويسلم , وقد سئل عليه الصلاة والسلام عنها وهو على المنبر فقال ( صلاة الليل مثنى مثنى فاذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ) فالأمر في ذلك واسع والحمدلله , وجماع ذلك هو فيما رواه الامام مسلم رحمه الله من حديث جابر ان النبي قال «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل» ومعنى مشهودة أي محضورة تحضرها الملائكة .
وفي سنن ابي داود رحمه الله من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» صححه الالباني رحمه الله
فلو انك صليت بسورة عم يتساءلون مع السورتين بعدها فتلك مائة أية وزيادة .. وفي صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أفضل الصلاة طول القنوت " أي طول القيام باتفاق العلماء كما قال الامام النووي رحمه الله تعالى .
والمهم في ذلك الا تدع صلاة الوتر قط , فإن النبي لم يكن يدع الوتر سفرا ولا حضرا , ولهذا قال علي رضي الله عنه ( ليس الوتر بحتم أي بفرض ولكنه سنة فلا تدعوه ) أخرجه الامام أحمد رحمه الله وسنده قوي .
واعلموا رحمكم الله ان هذا الامر لا يتأتى بسهولة , وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه , ولكنه يحتاج الى المجاهدة والمصابرة أياما وشهورا وسنينا حتى قال ثابت البناني أحد اعلام التابعين رحمه الله " جاهدت نفسي بالصلاة عشرين عاما حتى استقامت ثم تلذذت بها عشرين عاما " , بل كان السلف رحمهم الله يحرصون على قيام الليل وهم غلمان صغار كما قال إبراهيم بن شمَّاس - رحمه الله -: "كنتُ أرى أحمدَ بن حنبل يُحيِي الليلَ وهو غلامٌ".
وعلى كل حال فالمداومة على القليل أفضل من كثير لا يداوم عليه .واستحب الأئمة أن يكون للرجل عدد من الركعات يقوم بها من الليل لا يتركها، فإن نشط أطالها، وإن كسل خففها، وإذا نام عنها صلى بدلها من النهار، كما كان يفعل . وله ان يتدرج في ذلك وان يزيد فيه وينقص وان يصلي في اول الليل أو آخره وذلك بقدر نشاطه حتى تنصاع له نفسه وينقاد له هواه ويسهل ذلك عليه , والنفس لا تنقاد إلا بالتدرج والتعود , وذلك لا يكون الأ بالصبر والمصابرة وقد قال كما في الصحيح وغيره ( انما الصبر بالتصبر ) وقد قال الله تعالى ( يا أيها الذين امنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعنا بما فيهما من النور والهدى ... اقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية
( مقدمة )
اما بعد فاتقوا الله تعالى حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى واديموا شكره على نعمه التي تترى , واعلموا رحمكم الله أن الدُّنيا أنفاس معدودة ، والمُكثُ فيها يسير، والليلُ بما فيه من صلاةٍ وتلاوةٍ ودُعاءٍ وتسبيحٍ واستِغفارٍ من خيرِ ما يعمُرُ به المُسلمُ آخرتَه، ومن أعظمِ ما يدَّخِرُه من الأعمالِ الصالحةِ للِقاءِ ربِّه، واللَّبيبُ من يغتنِمُ آخرَ الليلِ لإصلاحِ دينِه ودُنياه.
فكيف اذا علم أن شرف المؤمن في قيام الليل كما قال عليه الصلاة والسلام ( ) وصلاة الليل نور في الوجوه قال سعيدُ بن المُسيَّب - رحمه الله -: "إن الرجلَ ليَقومُ الليلَ فيجعلُ الله في وجهِه نورًا يُحبُّه كلُّ مسلم".
وقد قال عليه الصلاة والسلام ( نعم الرجل عبدالله يعني ابن عمر لو كان يقوم من الليل ) ولهذا قال ابن حجر رحمه الله من كان يقوم الليل استحق ان يوصف بأنه نعم الرجل. وفي المقابل فإن من ترك قيام الليل فهو رجل سوء كما قال الإمام احمد رحمه الله وغيره .
وأعلموا رحمكم الله ان كثرة الدعاء وقراءةُ أذكارِ النوم من أعظم الأسباب المُعينةٌ على قيام الليل، والسَّهرُ قد يمنَعُ منه ، وإن قامَه أفقدَه الخشوعَ فيه، ومن نامَ على معصيَةٍ لم يقُم - في الأغلَبِ - إلى طاعةٍ. قال الفضيل بن عياض رحمه الله "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم قد كثرت خطيئتك"، وقال رجل للحسن البصري رحمه الله: إني أبيت معافىً وأحبُّ قيامَ الليل وأعدّ طهوري، فما بالي لا أقوم؟! فقال: "قيَّدتك ذنوبك".
وإذا لم يكن لك أُخي حظّ من صلاة الليل فكن كما قال بعض السلف: "إن لم يكن لك حظّ من الليل فلا تعصِ ربك في النهار" وأكثر من ركعات الضحى وصلاة النهار وما بين العشائين وتكثر من الصلاة فهي خير موضوع كما قال .
وبعد عباد الله فإن الانسان لو تأمل في واقعه لما وجد فيه ما يشغله عن الخير الا اللهو واللعب والغفلة , وها نحن قد رأينا في شهر رمضان كم كانت تستغرق منا هذه السنة الجليلة , فإنها بالكاد تستغرق نصف ساعة , او تزيد شيئا , فلو صلاها بعضنا منفردا وتلذذ فيها بمناجاة ربه وسأله من خير الدنيا والآخرة لم يكلفه ذلك الا ربع ساعة أو تزيد شيئا , فما أقسى وأشد خسارة المحرومين , وما نصف ساعة في ساعات اللهو في كل يوم إلا كشربة ماء , فكيف يليق بالعاقل أن يضيع هذه الفضائل المسموعة في جلسة لغو وغفلة ..
فيا لله كيف يفرط المغبون في الوقوف بين يدي ربه والتلذذ بمناجاته وسؤاله وهو ينظر اليه في تلك الساعة ويعجب منه ويضحك اليه ويستبشر به ويحبه ( وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ) وفي الحديث الذي صححه الحاكم والالباني وغيرهما ( ثلاثةٌ يحبُّهم اللهُ عزّ وجلّ، ويضحكُ إليهم، ويستبشرُ بهم:
وذكر منهم " والذي له امرأة حسناء، وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فـ[يقول:] يذر شهوتَه، فيذكُرني ويناجيني، ولو شاءَ رقَدَ " وفي لفظ ( انظروا الى عبدي ثار من فراشه ووطائه رغبة فيما عندي )
أيها الموفق المسدد، تعلق بقيام الليل فهو شافع مشفع وعليك بالبكاء فهو رفيق صالح، ادخل في زمرة المتهجدين و انطرح في خلوة الخائفين على بساط التذلل والانكسار عسى أن تكون من المقبولين.
تأمل أخي في وصف المتهجدين في الليل، وتفكر في مالهم إذا قاموا لمناجاة ربهم وأنت محروم من ذلك النعيم.
يقول ربنا جلا وعلا في وصفهم {أمن هو قانت أناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }قال عمر بن ذر رحمه الله : لما رأى العابدون الليل قد هجم فنظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من النوم، قاموا هم إلى الله فرحين مستبشرين، مستبشرين بما قد وهب لهم من لذة القيام وطول التهجد فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا الأرض بجبابهم فانقضى الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة ولا ملت أبدانهم من طول العبادة
فهذا وصف القوم .. جعلنا الله واياكم منهم ( سابقوا الى مغفرة من ربكم وجنه عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين امنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
هذا وصلوا رحمكم الله ..
تعديل التعليق