ثلاث خطب متتابعة عن المولد النبوي
إحسان المعتاز
1433/03/08 - 2012/01/31 00:07AM
كيف تكون محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حديثنا في هذه الورقات حول قضية إيمانية عقدية من أصول عقيدة المسلم التي يعيش عليها ويموت حتى يلقى ربه عز وجل سالماً غانماً بإذنه تعالى، هذه القضية هي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهداية، فتلقى رسالة ربه عز وجل فبلغها وأداها أتم البلاغ صلوات الله وسلامه عليه حتى توفاه الله عز وجل، وقد اكتمل للأمة أمر دينها وشريعة ربها، ولم يترك عليه الصلاة والسلام صغيرة ولا كبيرة إلا بيَّنها ووضحها وأجلاها لأمته، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وهذا كله من تمام شفقته ورحمته صلى الله عليه وسلم بأمته وحبه لهم، فجزاه الله عنا وعن الإسلام خير ما جزى نبياً عن أمته، وجعل حبه واتباعه أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا والناس أجمعين.
إخوة الإسلام: ما هو مفهوم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن ذلك المفهوم يعني:
أن يميل قلب المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ميلاً يتجلى فيه إيثاره صلى الله عليه وسلم على كل محبوب، من نفس ووالد وولد، والناس أجمعين، وذلك لما خصه الله من كريم الخصال وعظيم الشمائل، وما أجراه على يديه من صنوف الخير والبركات لأمته، وما امتن الله على العباد ببعثته ورسالته.
وبالجملة فأصل المحبة: الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه، كحب الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة، كحب الصالحين والعلماء، وأهل الفضل مطلقاً، وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم، لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خصال الجلال وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعم والإبعاد من الجحيم.
وحب المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمل قلبي من أجل أعمال القلوب، وأمر وجداني يجده المسلم في قلبه، وعاطفة طيبة تجيش بها نفسه، وإن تفاوتت درجة الشعور بهذا الحب تبعاً لقوة الإيمان أو ضعفه.
وأما الأدلة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم فأكثر من أن تحصى، منها على سبيل المثال قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ ﴾، ففي هذه الآية توعد الله من كان أهله ومال أحبَّ إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بقوله: ﴿ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾، ومعلوم أن الله لا يتوعد أحداً بمثل هذا الوعيد الشديد إلا على ترك واجب، أو فعل محرم.
يقول القاضي عياض عن هذه الآية: (فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم إذ قرَّع الله من كان ماله وأهله وولده أحـب إليه من الله ورسـوله وتوعدهم بقوله تعالى: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله).
ومن الآيات الدالة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾. فهذه الآية إخبار عن مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين، كما أنها أيضاً إخبار عن الحال التي ينبغي أن يكون فيها المؤمنون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أولى بهم من أنفسهم ولا يكون كذلك حتى يكون أحب إليهم من أنفسهم. ويبين ابن القيم رحمه الله أن هذه الآية دليل على أن من لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به من نفسه فليس من المؤمنين، ثم يوضح أن هذه الأولوية تتضمن أمرين:
1- أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، لأن الأولوية أصلها الحب، ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه.
2- ومنها: أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو أولى به منها . انتهى.
فتبين من هذا أنه يجب على كل مؤمن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به من نفسه في كل شيء، وأن يكون حكمه في أي شيء مقدماً على رغبات النفس وتطلعاتها، بل إن الحياة لتعد هينة ورخيصة بجانب تحقيق ما فرضه الله ورسوله وإن كان على خلاف هوى النفس؛ لأن نفوسنا تدعونا إلى الهلاك، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى النجاة، فكان أولى بنا من أنفسنا. وحينما أيقن المسلمون الأولون بذلك أعزهم الله، ومكن لهم في الأرض، فلما غلبت الأهواء واتبعت الشهوات صار الحال مبدلاً معكوساً، والسبب هو جعل محبته مجرد شعارات وكلمات معسولة، وأشعار واحتفالات لا تمت للواقع بصلة، ثم الغفلة عن اتباع هديه وسنته وأوامره واجتناب نواهيه صلى الله عليه وسلم.
وأما الأدلة من السنة فمنها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين » فهذا الحديث من أوضح الأدلة على وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المؤمن لا يستحق اسم الإيمان الكامل ولا يدخل في عداد الناجين حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب من والده وولده والناس أجمعين. ومعنى ذلك ومن لوازمه أن تكون أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ونواهيه مقدمة على كل الأوامر والنواهي، فالحب القلبي يستلزم الاتباع والانقياد في الظاهر، فإذا كانت هناك محبة فعلية لنتج عنها محبة كلام النبي صلى الله عليه وسلم وتقديمه على كل أحد وجعل أوامره ونواهيه نصب عينه طيلة الوقت والعمر، فيعرفه في جميع أوقاته ويعيش معه في كل حركاته وسكناته، ويرى أن سنته وهديه ألذ عليه من كل شيء، ولقد فهم سلف الأمة هذه المحبة وعرفوها حق المعرفة فالتزموها وجعلوها شعاراً لهم حتى قادتهم إلى محبة الله ومرضاته، فأصبحوا أئمة يُهتدى بهم ومنارات يستدل بها.
هذا أبو عبد الله محمد بن المنكدر رحمه الله من أعلام التابعين، قال عنه ابن الماجشون: (إن رؤية محمد بن المنكدر لتنفعني في ديني)، وما ذاك إلا لما كان عليه من السمت الصالح والمنظر الخاشع، الذي إذا رأيته ذكرت الله عز وجل، وكان محمد بن واسع إذا سُئل عن حديث بكى حتى يرحمه الجالسون من شدة محبته وشوقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أيوب السختياني رحمه الله فقال عنه الإمام مالك بن أنس رأيته مرتين بمكة يحدث فما أخذت حديثه حتى رأيت منه منظراً عظيماً: (كان إذا ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه) فعند ذاك أخذت عنه الحديث لأن من كانت هذه حاله فإنه يستحيل عليه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الإمام الجليل محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب رحمه الله تعالى عالم المدينة فإنه يعطينا درساً لا يُنسى في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته، قال تلميذه الواقدي سألته عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود»، فقلت له: أتأخذ بهذا؟ فضرب صدري وصاح كثيراً ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: تأخذ به، نعم آخذ به، وذلك الفرض عليَّ وعلى كل من سمعه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، فرحمة الله على هذا الإمام الجليل كيف لو عاش إلى زماننا ورأى ما نحن فيه من تضييع وتفريط في أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف آل الحال بكثير من الناس إلى التجرؤ وارتكاب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعكس ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم الذين سمعتم شيئاً من أخبارهم في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وفي تنفيذ وتطبيق أوامره دقيقها وجليلها، فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: ما كتبتُ حديثاً إلا وقد عملت به حتى مرَّ بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً، فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت.
فانظروا رحمكم الله إلى شدة التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كيف بلغت، هذا وإن مسند الإمام أحمد بن حنبل تزيد أحاديثه عن عشرين ألف حديث سوى ما رواه في كتبه الأخرى، ومع ذلك فما من حديث كتبه إلا وقد عمل به، فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكاملة الصادقة، والاتباع الكامل لهديه وسنته صلى الله عليه وسلم.
ومما سبق يتبين لنا أهمية موضوعنا وارتباطه القوي بإيمان المسلم وتوحيده، ألا وهو محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اتضح لنا هذا فيأتي السؤال وكيف نثبت محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والجواب هو أن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض، وتسير وفق هدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتحت أوامره وتوجيهاته، بمعنى أنك لا تقدِّم بين يديه أي لا تفعل شيئاً تظنه من محبته وهو لم يدلك عليه، ولم يأمرك لأنك إن أحببته فعلاً وقبل ذلك عرفته حق المعرفة وعرفت أنه عليه الصلاة والسلام كان أفصح الناس وكان أشفق الناس على أمته وكان أعلم الناس فليس هناك عالم أعلم بدين الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يكون ذلك وهو صاحب الرسالة ومبلِّغ الدين ومعلم الناس الخير، ولنضرب على ذلك مثلاً، فهذه السيارة التي نركبها ونقودها لو أتى مهندي سيارات وقال إني أعلم كيفية تركيب هذه السيارة أفضل من الذي صنعها، لقلنا له: لا يمكن ذلك لأن الذي صنعها أعلم بها ومهما تعلمت فلا تزال عالة عليه وعلى علمه وصناعته، وكذلك الحال هنا فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بدين الله من كل أحد كما أنه عليه الصلاة والسلام كان أكمل الخلق في تبليغ دين الله فلم يترك صغيرة ولا كبيرة ولا شاذة ولا فاذة إلا بينها وأجلاها تمام الجلاء. وحينما أيقن المسلمون الأولون بذلك أعزهم الله ومكن لهم في الأرض، وما ذاك إلا باتباعهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم على نهجه وطريقته، ولما غلبت الأهواء واتبعت الشهوات صار الحال مبدلاً معكوساً، ذلةٌ وهوان بعد عزة، وضياعٌ وتفرق بعد القوة والتمكين، والسبب هو تقديم الأهواء وشهواتِ النفس على ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدخلت كثير من العبادات المخترعة المبتدعة والتي لم تكن موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الأطهار، وأصبحت ديناً يُتَّبع مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرعها ولم يبينها ولم يحث أمته عليها، مع اقتناع الجميع وتسليمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتوفاه الله حتى بين لأمته كل شيء حتى قال ذلك اليهودي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة).
وإذا كان كذلك فكيف فات على النبي صلى الله عليه وسلم ونسي أن يبين لأمته أهمية الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم ويحثهم على ذلك، فإما أن نقول إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم أهمية ذلك، وبالتالي فهل نكون نحن أعلم بدين الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن نقول: إنه علم أهمية ذلك ولكنه لم يبلغه لأمته؟ وهذه مصيبة أكبر إذا كيف يكتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من الدين الذين أمره الله بتبليغه للناس حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ فحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يفعل ذلك، وإما أن يقال: إنه علمه عليه الصلاة والسلام ولكنه لم يفعله وترك ذلك لأمته لكي تفعله وتهتدي إليه، وهذا يُرد عليه بمثل الرد السابق ويضاف عليه: بأننا أمرنا باتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ونعني بهم: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، الذين ما عرفوا المولد ولم يفعلوه ولا شيئاً من ذلك، بل ولم يفعله التابعون ولا تابعوهم، بل ولم يفعله أهل القرون المفضلة، وهم الثلاثة قرون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فعله وابتدعه أتباع الدولة الرافضية العبيدية التي كانت تدعي زوراً وبهتاناً بالفاطمية، فسبحان الله كيف يترك هذا الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام المحبون له، والقرون المفضلة الأولى حتى تأتي دولة رافضية تكفر أبا بكر وعمر وتشتم عائشة وتدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلمنا ما ينبغي تجاهه. وممن انتشر في زمانه الاحتفال بالمولد الملك المظفر أبو سعيد كوكبري الذي كانت وفاته سنة ثلاثين وستمائة، وكان يمد في سفرته في احتفاله بالمولد: خمسة آلاف رأس مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يحضر عنده في المولد أعيان الصوفية فيعمل لهم سماعاً (أي غناءً ورقصاً) يبدأ من الظهر وحتى الفجر من اليوم الثاني ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار (أي ينفق في يوم واحد عشرة أضعاف ما ينفقه على الحرمين الشريفين والمياه بدرب الحجاز في عامل كامل).
وإن الواجب علينا أن نعبد الله وفق ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا وفق ما نريد ونهوى فإن العبادة مبناها على التوقيف أي ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والعجيب أن هذه الاحتفالات بالأزمنة التي فيها حوادث إسلامية وطلب البركة بواسطتها، لم تُعرف في أول الأمر إلا عن شر الفرق من الباطنية، وهم بنو عبيد القداح الذين تسموا بالفاطميين، يقول السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء): "ولم أورد أحداً من الخلفاء العبيديين لأن إمامتهم غير صحيحة لأمور منها: أنهم غير فاطميين كما يزعمون، وإنما سمتهم بالفاطميين جهلة العوام نسبة إلى فاطمة رضي الله عنها، وهذا جهل إذ أن جدهم مجوسي، ومنها أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، منهم من أظهر سب الأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له، والخيِّر منهم رافضي خبيث لئيم يأمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة ولا تصح لهم إمامة.." انتهى.
فهؤلاء هم الذين سنوا الاحتفال بالمولد لا حباً في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما لهدم الدين بإدخال البدع فيه، كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني: "كان المهدي عبيد الله باطنياً خبيثاً حريصاً على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه أباحوا الخمر والفروج وأشاعوا الرفض"، وقال الذهبي: "كان القائم بن المهدي شراً من أبيه زنديقاً ملعوناً أظهر سب الأنبياء"، فمن الذي يقتدي بهؤلاء ويظن أنهم سنوا سنة حسنة ويعتقد أن أهدافهم سليمة.
وإن المحب الصادق هو ما يقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في شكله وهيئته وكلامه وصلاته وعبادته والتخلق بما كان يتخلق به صلى الله عليه وسلم، وأن يجتنب المحرمات الظاهرة والباطنة طيلة عمره وحياته في كل لحظاته وسكناته قدر استطاعته، وليس من يحتفل بمولده وقتاً محدوداً ثم يعود بعدها مباشرة لمزاولة الذنوب والمعاصي وترك الأولاد ذكوراً وإناثاً بعيدين عن الهدي النبوي والتربية الدينية الجادة، بل والاستهزاء بمن يتمسك بالدين ويلتزم به، فهنا يظهر الفرق ويتضح الصادق من غيره.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ون يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد تحدثنا فيما مضى عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأنها من أهم الواجبات والأعمال التي يتعبد فيها الإنسان المسلم لربه سبحانه وتعالى، وبيَّنا أن محبته تستلزم دوام ذكره صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثره واتباع هديه والائتمار بأمره والانتهاء عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، كما أن محبته صلى الله عليه وسلم يجب تقديمها على كل محبوب ومرغوب، فيجب تقديم حبه صلى الله عليه وسلم على حب النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وأن هذا الحب لابد أن يترجم إلى واقع عملي محسوس، وإلا فما الذي يثبت صدق هذه المحبة؟ لأن كل ما ادعى دعوى فإن الواجب عليه تقديم ما يدل على صدق دعواه وحجته، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء أقوام وأموالهم، ولكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر »، فهذه قاعدة جليلة عظيمة تعمل بها جميع المحاكم ، بل والقوانين والأنظمة حتى الكافرة منها، أن كل من ادعى شيئاً فيلزمه تقديم ما يثبت دعواه وإلا بطلت، وكما قال الشاعر:
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بيّنات فأصحابها أدعياء
ويلزم من ذلك أن يجب الإنسان ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يبغض ما أبغضه، وأن لا يعبد الله إلا بالطريقة التي شرعها له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّنها له، لأن الجميع يؤمن ويقر ويصدِّق بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين كل ما يلزم بيانه عن ربه عز وجل، ولذلك امتن الله على عباده المؤمنين بقوله: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ﴾، جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين آية تقرؤونها لو نزلت علينا معشر يهود لاتخذنا اليوم الذي أنزلت فيه عيداً، وقرأ الآية السابقة، فقال عمر رضي الله عنه: «والله إني لأعلم اليوم والساعة التي أنزلت فيه، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بعيره في يوم عرفة في حجة الوداع »، فالدين كامل والشرع واضح أيها المسلمون وكلنا متفقون على ذلك، وإذن فكل ما كان ديناً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام فهو الدين، وكل ما لم يكن ديناً حينذاك فليس بدين اليوم ولا غداً.
وهذا قاعدة جامعة نافعة ينبغي لكل مسلم أن يعيها ويتدبرها ويعمل بها، وإذا أردنا تطبيق ما سبق على ما نجده في حياتنا المعاصرة فإننا سوف نجد الخلل الكبير الذي أصاب طائفة من المسلمين بابتداعهم واختراعهم بعض العبادات والقربات استحساناً منهم، وظنهم أنها من البدع الحسنة التي لا بأس من فعلها والعمل بها، ومن ذلك إقامة الموالد مثل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبار ذلك من البدع الحسنة، وكل ما ذكرناه فيما سبق إنما هو رد على ذلك باعتبار أنك لا تستحسن شيئاً إلا إذا كان الذي أمامك بشراً مثلك يصيب ويخطئ، ولكن إذا كان المرسِل هو الله سبحانه وتعالى جل وعلا الذي لا يخفى عليه شيء في السموات ولا في الأرض، وكان المُرسَل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى وكان الواسطة جبريل عليه السلام، الذي وصفه ربه سبحانه بأنه قوي وأمين، فأي شيء ستستدركه على هذه السلسلة وأي شيء سيجده عقلك البشري القاصر، وقد فات على ربك سبحانه وتعالى – تعالى الله عن كل نقص وتقصير – ثم إن قولك إنها بدعة حسنة يرد عليه بقول نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه فقال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة».
فهذه الوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أمته من بعده، كأنها وصية مودع، وتعرفون أن المودع إذا أوصى فإنه لا يوصي إلا بأهم الأشياء وأعظمها على الإطلاق وأشدها خوفاً على أمته، وقد بينت هذه الوصية أن كل البدع ضلالة، وبالتالي فليست هناك بدعة حسنة.
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، ومعنى رد أي مردود على صاحبه، فأي فائدة يجنيها المسلم من عمل يكون رداً عليه، أو ليس من الأولى والأوجب الانشغال عما قد كلفنا به.
ومن الحجج التي يوردها المحتفلون بالمولد النبوي أن المولد ذكرى سنوية يتذاكر فيها المسلمون نبيهم صلى الله عليه وسلم فيزداد حبهم وتعظيمهم له، وهذه الحجة يجاب عنها بأن المسلم لا يحتاج إلى تذكر رسوله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد في السنة؛ لأن المسلم لا يصلي صلاة من ليل أو نهار إلا ذكر فيها رسوله صلى الله عليه وسلم. إن الذي تقام له ذكرى خشية النسيان هو من لا يُذكر، أما من يذكر ولا ينسى بل ولا يعيش المسلم لحظة من لحظاته وساعة من ساعاته إلا وهو يعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وسنته وجهاده ودعوته وسائر شؤونه فكيف تقام له ذكرى من هذا شأنه؟ أليس هذا من تحصيل ما هو حاصل؟
وأما قضية سماع بعض الشمائل المحمدية الطاهرة والنسب الشريف فينبغي للمسلم أن يقرأها ويتعلمها ويتدارسها طيلة العام ولا يكفي في ذلك مجرد تلاوة قصة المولد هكذا عابراً، وأما حجتهم في إعلان الفرح في يوم مولده صلى الله عليه وسلم، فإما أن يكون الفرح بالرسول صلى الله عليه وسلم فليكن الفرح دائماً كلما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يختص بوقت دون وقت، وأما أن يكون الفرح باليوم الذي ولد فيه فهذا اليوم هو نفسه اليوم الذي مات فيه، ولا أحسب عاقلاً يقيم احتفال فرح وسرور باليوم الذي مات فيه حبيبه، وموت الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة أصابت المسلمين حتى أن كل من أصيب بمصيبة فإن عليه أن يتذكر مصيبته بموت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يتم العزاء والسلوان في مصيبته كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه.
وأما الاجتماع على الذكر، فالاجتماع على الذكر بصوت واحد لم يكن معروفاً عند السلف، فهو في حد ذاته بدعة منكرة، وأما المدائح والقصائد بالأصوات المطربة الشجية فهذه بدعة أقبح ولا يفعلها إلا المضطربون في دينهم والعياذ بالله تعالى، وفي الغالب فإن الدافع لمثل ذلك هو محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ولكن لا تنال طاعة الله ومحبته إلا بما يحبه الله ويرضاه ويشرعه.
ومن الدوافع لدى البعض لإقامة مثل تلك الاحتفالات هو التقليد الأعمى والعصبية الممقوتة فهو ينظر إلى آبائه وأجداده وقرابته فلا يرى منهم إلا ذلك، ويرى أن من ينكر عليه في الغالب إنما هم أناس من غير جماعته وقبيلته ومنطقته فيأتيه الشيطان ويقول له: أتترك ما عليه قرابتك وجماعتك وقد عاشوا على ذلك قروناً لمثل قول هؤلاء؟ أو كل من سبق وسلف من آبائك وأجدادك على الباطل وهؤلاء الجهلة على الحق؟ وبالتالي يحثه الشيطان ويدفعه لمتابعة من سلف من أقاربه وجماعته حتى لا يكون عدم فعله للمولد بمثابة تحقير الآباء والإخوان والقرابات والحط من قدرهم وشأنهم واتهامهم بأنهم لم يكونوا على صواب. وقضية اتباع الآباء والأجداد فيما هم عليه من غير الحق واتباعهم على ذلك كانت من أكبر العقبات التي صدت كثيراً من الناس عن الحق حتى إنها صدت مشركي الأمم السابقة ومشركي قريش حتى قال قائلهم: ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾.
والحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق، فمن قال بالحق واتبعه ودعا إليه استجبنا له، ولو كان أبعد بعيد، ومن ترك الحق واجتنبه وتنكب الباطل تركناه ولو كان أقرب قريب.
وقد يقول قائل بعد كل هذا الكلام الطويل فما هو البديل؟ والجواب أن البديل عن ذلك أن يأخذ المسلمون أنفسهم بالجد والاجتهاد وأن يلزم المسلم نفسه باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم كل وقت وحين سواءً على نفسه أو أهله وأولاده، فإن كثيراً من الناس حتى الصالحين منهم لا يعني بشؤون أهله وأولاده وتعليمهم أمور دينهم وإرشادهم للحق والهدى أي اهتمام، وهذا كله من التفريط في هذا الواجب لأن الله يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسهم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ﴾.
كما أن من الوسائل المفيدة لتدارس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم اقتناء الكتب الموثوقة والتي تحدثت عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وقراءتها دائماً مع الأهل والأولاد والأصدقاء والإخوان وغيرهم، وبالتالي يكون المسلم في ذكر دائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشوق إليه، ومما يعين على ذلك الاطلاع على كتب الحديث النبوي كصحيح البخاري ومسلم وبقية كتب السنن ففيها تفصيل كبير عن كافة تفاصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونه وأحواله. ومن الكتب الجيدة في هذا مجال السيرة كتاب السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري، وكتاب الرحيق المختوم للمباركفوري وغيرهما كثير، وكلاهما في السيرة النبوية والأفضل للمسلم أن يقتني هذين الكتابين ثم يحث أفراد أسرته على قراءتهما ولو عمل مسابقة ووضع فيها أسئلة متنوعة عن مواقف متعددة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يستطيع الإجابة من اطلع على الكتابين وقرأهما ورتب على ذلك جوائز قيمة لكان ذلك حسناً إذ بهذه الطريقة يشجع أهله وأولاده على قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت يشغل وقت فراغهم بالنافع من الأعمال، كما أن هناك تفصيلاً كاملاً عن السيرة النبوية بكل دقائقها وتفاصيلها موجود على الأشرطة في حقائب مستقلة للعديد من العلماء والدعاة الموثوقين وهي مجموعة مفيدة وتصلح لجميع الطبقات ومن أولاهم النساء والفتيات في البيوت وغيرهم من الشباب والشيوخ وغيرهم.
وأما عن الذكر الذي يقال في مثل تلك المناسبات التي ما أنزل الله بها من سلطان فالبديل عنها هو دوام ذكر الله والاطلاع علي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم طيلة الوقت والاقتداء بهديه واتباع سنته، والمسلم مندوب أن يحافظ على أذكار الصباح والمساء والأذكار الشرعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي سهلة ومتوافرة وموجودة في كل مكان، كذلك يحافظ المسلم على الصلوات الخمس في المساجد خاصة البردين، لحديث (من صلى البردين دخل الجنة) والبردان هما: الصبح والعصر، وكذلك المحافظة على السنن الرواتب وعددها اثنتا عشرة ركعة، ثنتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وثنتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، والمحافظة على صلاة الليل والذكر بعدها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويحث أمته عليه، وأن يحافظ على سماع إذاعة القرآن الكريم والقنوات الهادفة ففيها الخير الكثير بإذن الله، واقتناء الأشرطة النافعة من تسجيلات القرآن الكريم والمحاضرات والدروس النافعة.
وفي الختام نود أن ننبه إلى قضيتين: أولاهما: ما يفعله ويقوله بعض من يقيم أو يحتفل بتلك الموالد من أنه إذا نصحه أحد أو كلمه في شأنها وأنها بدعة لا يجوز فعلها فتجد بعضهم لا يتورع أن ينسب من ينكرها بوصفها بدعة محدثة أن ينسبه إلى الكفر والمروق من الدين بقوله: "فلان يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يحب المولد أو يكره الاحتفال بالمولد"، وهو يعلم أن من يكره الرسول صلى الله عليه وسلم أو لا يحبه فإنه يكفر بإجماع المسلمين، وتكفير المسلم لا يحل أبداً، ومع العلم أنه لا ينكر البدعة ولا ينهى عنها، ويحذر منها إلا مؤمن وصالح أيضاً، فكيف يُكفَّر أو يُتهم بالكفر والعياذ بالله؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، فهل من جزاء الإحسان والنصيحة الإساءة والجحود والنكران؟
والأمر الثاني الذي ينبغي التنبيه عليه هو أن من رأى أخاه المسلم مبتلى بمثل هذه الأفعال فإنه يجب عليه أن ينظر إليه نظرة شفقة، فينبغي عليه أن يبذل له كل الأسباب الممكنة لكي يخرجه مما هو فيه وذلك بالنصيحة الصادقة المخلصة التي تصدر من قلب مشفق غيور ويكون قصده من ذلك هو إنقاذ أخيه المسلم وليس التشفي والتعيير والإساءة، وليعلم أنه غالباً ما دفع هؤلاء للاحتفال بالمولد إلا حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، ولكنهم أخطأوا الطريق فينبغي تصحيح المسار وتعديله لهم وذلك بسلوك أفضل الطرق الموصلة إلى هدايتهم وإخراجهم مما هم فيه من البدعة إلى السنة وذلك باللين والتلطف وعدم الغلظة والشدة فهي تضر ولا تنفع.
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل محبته صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، وأن يرزقنا محبته صلى الله عليه وسلم المحبة الشرعية التي يحبها الله عز وجل دون غلو ولا تفريط، وأن يجعل لنا من ثمرات محبته صلى الله عليه وسلم اتباعه والاقتداء به والاهتداء بهديه في كل شؤوننا وأحوالنا، كما نسأله سبحانه أن يجنبنا الفتن والبدع ما ظهر منها وما بطن وأن يحيينا على السنة ويميتنا عليها، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وآله وصحبه أجمعين.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
فلاشك أننا جميعا نُكِنُ في صدورنا محبة عظيمة لرسولنا الكريم وحبيبنا العظيم وقدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن عمل بسنته واهتدى بهديه إلي يوم الدين، وإن هذه المحبة تعتبر من أصول الدين ومن لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كافر بإجماع المسلمين.
وإننا نستعرض في حديثنا هذا مشهداً تاريخياً لظهور قضية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم عل ذلك يدلنا على الصواب والرشاد. إن الناظر في السيرة النبوية وتاريخ الصحابة والتابعين وتابعيهم وتابع تابعيهم بل إلى ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين سنة هجرية لا يجد أحدا من العلماء أو من الحكام أو حتى من عامة الناس قال بهذا العمل أو أمر به أو حث عليه أو تكلم به. قال الحافظ السخاوي في فتاويه: "عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد".أهـ .
ويبدو السؤال المهم إذن: " متى حدث هذا الأمر – أعني المولد النبوي- وهل الذي أحدثه علماء أو حكام وملوك وخلفاء أهل السنة ومن يوثق بهم أم غيرهم؟" والجواب على هذا السؤال عند المؤرخ السني الإمام المقريزي رحمه الله: يقول في كتابه الخطط ( 1/ ص 490 وما بعدها): "وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي مواسم رأس السنة، ومواسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب، ومولد الحسن والحسين، ومولد فاطمة الزهراء، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النيروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات"أ.هـ. ومن النقل السابق تدبر معي كيف حُشِر المولد النبوي مع البدع العظيمة مثل: -بدعة الرفض والغلو في آل البيت المتمثل في إقامة مولد علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم وبدعة الاحتفال بعيد النيروز وعيد الغطاس وميلاد المسيح وهي أعياد نصرانية.
يقول ابن التركماني في كتابه" اللمع في الحوادث والبدع" (1/293-316 ) عن هذه الأعياد النصرانية: "فصل ومن البدعة أيضا والخزي والبعاد ما يفعله المسلمون في النيروز وأعياد النصارى ومواسمهم من توسع النفقة " قال:" وهذه نفقة غير مخلوفة وسيعود شرها على المنفق في العاجل والآجل " وقال: " ومن قلة التوفيق والسعادة ما يفعله البعض في ما يعرف بالميلادة (أي ميلاد المسيح)"، ونقل عن علماء الحنفية أن من فعل ما تقدم ذكره ولم يتب منه فهو كافر مثلهم. وذكر عدداً من الأعياد التي يشارك فيها جهلة المسلمين النصارى وبين تحريمها بالكتاب والسنة ومن خلال قواعد الشرع الكلية.
فعلى هذا فإن أول من أحدث ما يسمى بالمولد النبوي هم بنو عبيد الذين اشتهروا بالفاطميين. وماذا قال أهل العلم عن الدولة الفاطمية العبيدية التي أحدثت هذا الأمر المولد النبوي؟: قال الإمام أبو شامة المؤرخ المحدث صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين عن الفاطميين العبيديين: " أظهروا للناس أنهم شرفاء فاطميون فملكوا البلاد وقهروا العباد وقد ذكر جماعة من أكابر العلماء أنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحا بل المعروف أنهم (بنو عبيد)؛ وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي وقيل كان والد عبيد هذا يهوديا من أهل سلمية من بلاد الشام وكان حداداً. وعبيد هذا كان اسمه سعيداً فلما دخل المغرب تسمى ب(عبيد الله) وزعم أنه علوي فاطمي وادعى نسبا ليس بصحيح - لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية بل ذكر جماعة من العلماء بالنسب خلافه - ثم ترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى ب(المهدي) وبنى المهدية بالمغرب ونسبت إليه وكان زنديقاً خبيثاً عدواً للإسلام متظاهراً بالتشيع متستراً به حريصا على إزالة الملة الإسلامية قتل من الفقهاء والمحدثين جماعة كثيرة وكان قصده إعدامهم من الوجود لتبقى العالم كالبهائم فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
ونشأت ذريته على ذلك من
الخطبة الأولى: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حديثنا في هذه الورقات حول قضية إيمانية عقدية من أصول عقيدة المسلم التي يعيش عليها ويموت حتى يلقى ربه عز وجل سالماً غانماً بإذنه تعالى، هذه القضية هي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهداية، فتلقى رسالة ربه عز وجل فبلغها وأداها أتم البلاغ صلوات الله وسلامه عليه حتى توفاه الله عز وجل، وقد اكتمل للأمة أمر دينها وشريعة ربها، ولم يترك عليه الصلاة والسلام صغيرة ولا كبيرة إلا بيَّنها ووضحها وأجلاها لأمته، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وهذا كله من تمام شفقته ورحمته صلى الله عليه وسلم بأمته وحبه لهم، فجزاه الله عنا وعن الإسلام خير ما جزى نبياً عن أمته، وجعل حبه واتباعه أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا والناس أجمعين.
إخوة الإسلام: ما هو مفهوم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن ذلك المفهوم يعني:
أن يميل قلب المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ميلاً يتجلى فيه إيثاره صلى الله عليه وسلم على كل محبوب، من نفس ووالد وولد، والناس أجمعين، وذلك لما خصه الله من كريم الخصال وعظيم الشمائل، وما أجراه على يديه من صنوف الخير والبركات لأمته، وما امتن الله على العباد ببعثته ورسالته.
وبالجملة فأصل المحبة: الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه، كحب الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة، كحب الصالحين والعلماء، وأهل الفضل مطلقاً، وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم، لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خصال الجلال وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعم والإبعاد من الجحيم.
وحب المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمل قلبي من أجل أعمال القلوب، وأمر وجداني يجده المسلم في قلبه، وعاطفة طيبة تجيش بها نفسه، وإن تفاوتت درجة الشعور بهذا الحب تبعاً لقوة الإيمان أو ضعفه.
وأما الأدلة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم فأكثر من أن تحصى، منها على سبيل المثال قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ ﴾، ففي هذه الآية توعد الله من كان أهله ومال أحبَّ إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بقوله: ﴿ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾، ومعلوم أن الله لا يتوعد أحداً بمثل هذا الوعيد الشديد إلا على ترك واجب، أو فعل محرم.
يقول القاضي عياض عن هذه الآية: (فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم إذ قرَّع الله من كان ماله وأهله وولده أحـب إليه من الله ورسـوله وتوعدهم بقوله تعالى: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله).
ومن الآيات الدالة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾. فهذه الآية إخبار عن مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين، كما أنها أيضاً إخبار عن الحال التي ينبغي أن يكون فيها المؤمنون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أولى بهم من أنفسهم ولا يكون كذلك حتى يكون أحب إليهم من أنفسهم. ويبين ابن القيم رحمه الله أن هذه الآية دليل على أن من لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به من نفسه فليس من المؤمنين، ثم يوضح أن هذه الأولوية تتضمن أمرين:
1- أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، لأن الأولوية أصلها الحب، ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه.
2- ومنها: أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو أولى به منها . انتهى.
فتبين من هذا أنه يجب على كل مؤمن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به من نفسه في كل شيء، وأن يكون حكمه في أي شيء مقدماً على رغبات النفس وتطلعاتها، بل إن الحياة لتعد هينة ورخيصة بجانب تحقيق ما فرضه الله ورسوله وإن كان على خلاف هوى النفس؛ لأن نفوسنا تدعونا إلى الهلاك، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى النجاة، فكان أولى بنا من أنفسنا. وحينما أيقن المسلمون الأولون بذلك أعزهم الله، ومكن لهم في الأرض، فلما غلبت الأهواء واتبعت الشهوات صار الحال مبدلاً معكوساً، والسبب هو جعل محبته مجرد شعارات وكلمات معسولة، وأشعار واحتفالات لا تمت للواقع بصلة، ثم الغفلة عن اتباع هديه وسنته وأوامره واجتناب نواهيه صلى الله عليه وسلم.
وأما الأدلة من السنة فمنها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين » فهذا الحديث من أوضح الأدلة على وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المؤمن لا يستحق اسم الإيمان الكامل ولا يدخل في عداد الناجين حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب من والده وولده والناس أجمعين. ومعنى ذلك ومن لوازمه أن تكون أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ونواهيه مقدمة على كل الأوامر والنواهي، فالحب القلبي يستلزم الاتباع والانقياد في الظاهر، فإذا كانت هناك محبة فعلية لنتج عنها محبة كلام النبي صلى الله عليه وسلم وتقديمه على كل أحد وجعل أوامره ونواهيه نصب عينه طيلة الوقت والعمر، فيعرفه في جميع أوقاته ويعيش معه في كل حركاته وسكناته، ويرى أن سنته وهديه ألذ عليه من كل شيء، ولقد فهم سلف الأمة هذه المحبة وعرفوها حق المعرفة فالتزموها وجعلوها شعاراً لهم حتى قادتهم إلى محبة الله ومرضاته، فأصبحوا أئمة يُهتدى بهم ومنارات يستدل بها.
هذا أبو عبد الله محمد بن المنكدر رحمه الله من أعلام التابعين، قال عنه ابن الماجشون: (إن رؤية محمد بن المنكدر لتنفعني في ديني)، وما ذاك إلا لما كان عليه من السمت الصالح والمنظر الخاشع، الذي إذا رأيته ذكرت الله عز وجل، وكان محمد بن واسع إذا سُئل عن حديث بكى حتى يرحمه الجالسون من شدة محبته وشوقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أيوب السختياني رحمه الله فقال عنه الإمام مالك بن أنس رأيته مرتين بمكة يحدث فما أخذت حديثه حتى رأيت منه منظراً عظيماً: (كان إذا ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه) فعند ذاك أخذت عنه الحديث لأن من كانت هذه حاله فإنه يستحيل عليه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الإمام الجليل محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب رحمه الله تعالى عالم المدينة فإنه يعطينا درساً لا يُنسى في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته، قال تلميذه الواقدي سألته عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود»، فقلت له: أتأخذ بهذا؟ فضرب صدري وصاح كثيراً ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: تأخذ به، نعم آخذ به، وذلك الفرض عليَّ وعلى كل من سمعه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، فرحمة الله على هذا الإمام الجليل كيف لو عاش إلى زماننا ورأى ما نحن فيه من تضييع وتفريط في أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف آل الحال بكثير من الناس إلى التجرؤ وارتكاب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعكس ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم الذين سمعتم شيئاً من أخبارهم في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وفي تنفيذ وتطبيق أوامره دقيقها وجليلها، فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: ما كتبتُ حديثاً إلا وقد عملت به حتى مرَّ بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً، فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت.
فانظروا رحمكم الله إلى شدة التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كيف بلغت، هذا وإن مسند الإمام أحمد بن حنبل تزيد أحاديثه عن عشرين ألف حديث سوى ما رواه في كتبه الأخرى، ومع ذلك فما من حديث كتبه إلا وقد عمل به، فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكاملة الصادقة، والاتباع الكامل لهديه وسنته صلى الله عليه وسلم.
ومما سبق يتبين لنا أهمية موضوعنا وارتباطه القوي بإيمان المسلم وتوحيده، ألا وهو محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اتضح لنا هذا فيأتي السؤال وكيف نثبت محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والجواب هو أن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض، وتسير وفق هدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتحت أوامره وتوجيهاته، بمعنى أنك لا تقدِّم بين يديه أي لا تفعل شيئاً تظنه من محبته وهو لم يدلك عليه، ولم يأمرك لأنك إن أحببته فعلاً وقبل ذلك عرفته حق المعرفة وعرفت أنه عليه الصلاة والسلام كان أفصح الناس وكان أشفق الناس على أمته وكان أعلم الناس فليس هناك عالم أعلم بدين الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يكون ذلك وهو صاحب الرسالة ومبلِّغ الدين ومعلم الناس الخير، ولنضرب على ذلك مثلاً، فهذه السيارة التي نركبها ونقودها لو أتى مهندي سيارات وقال إني أعلم كيفية تركيب هذه السيارة أفضل من الذي صنعها، لقلنا له: لا يمكن ذلك لأن الذي صنعها أعلم بها ومهما تعلمت فلا تزال عالة عليه وعلى علمه وصناعته، وكذلك الحال هنا فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بدين الله من كل أحد كما أنه عليه الصلاة والسلام كان أكمل الخلق في تبليغ دين الله فلم يترك صغيرة ولا كبيرة ولا شاذة ولا فاذة إلا بينها وأجلاها تمام الجلاء. وحينما أيقن المسلمون الأولون بذلك أعزهم الله ومكن لهم في الأرض، وما ذاك إلا باتباعهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم على نهجه وطريقته، ولما غلبت الأهواء واتبعت الشهوات صار الحال مبدلاً معكوساً، ذلةٌ وهوان بعد عزة، وضياعٌ وتفرق بعد القوة والتمكين، والسبب هو تقديم الأهواء وشهواتِ النفس على ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدخلت كثير من العبادات المخترعة المبتدعة والتي لم تكن موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الأطهار، وأصبحت ديناً يُتَّبع مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرعها ولم يبينها ولم يحث أمته عليها، مع اقتناع الجميع وتسليمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتوفاه الله حتى بين لأمته كل شيء حتى قال ذلك اليهودي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة).
وإذا كان كذلك فكيف فات على النبي صلى الله عليه وسلم ونسي أن يبين لأمته أهمية الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم ويحثهم على ذلك، فإما أن نقول إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم أهمية ذلك، وبالتالي فهل نكون نحن أعلم بدين الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن نقول: إنه علم أهمية ذلك ولكنه لم يبلغه لأمته؟ وهذه مصيبة أكبر إذا كيف يكتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من الدين الذين أمره الله بتبليغه للناس حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ فحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يفعل ذلك، وإما أن يقال: إنه علمه عليه الصلاة والسلام ولكنه لم يفعله وترك ذلك لأمته لكي تفعله وتهتدي إليه، وهذا يُرد عليه بمثل الرد السابق ويضاف عليه: بأننا أمرنا باتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ونعني بهم: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، الذين ما عرفوا المولد ولم يفعلوه ولا شيئاً من ذلك، بل ولم يفعله التابعون ولا تابعوهم، بل ولم يفعله أهل القرون المفضلة، وهم الثلاثة قرون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فعله وابتدعه أتباع الدولة الرافضية العبيدية التي كانت تدعي زوراً وبهتاناً بالفاطمية، فسبحان الله كيف يترك هذا الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام المحبون له، والقرون المفضلة الأولى حتى تأتي دولة رافضية تكفر أبا بكر وعمر وتشتم عائشة وتدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلمنا ما ينبغي تجاهه. وممن انتشر في زمانه الاحتفال بالمولد الملك المظفر أبو سعيد كوكبري الذي كانت وفاته سنة ثلاثين وستمائة، وكان يمد في سفرته في احتفاله بالمولد: خمسة آلاف رأس مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يحضر عنده في المولد أعيان الصوفية فيعمل لهم سماعاً (أي غناءً ورقصاً) يبدأ من الظهر وحتى الفجر من اليوم الثاني ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار (أي ينفق في يوم واحد عشرة أضعاف ما ينفقه على الحرمين الشريفين والمياه بدرب الحجاز في عامل كامل).
وإن الواجب علينا أن نعبد الله وفق ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا وفق ما نريد ونهوى فإن العبادة مبناها على التوقيف أي ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والعجيب أن هذه الاحتفالات بالأزمنة التي فيها حوادث إسلامية وطلب البركة بواسطتها، لم تُعرف في أول الأمر إلا عن شر الفرق من الباطنية، وهم بنو عبيد القداح الذين تسموا بالفاطميين، يقول السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء): "ولم أورد أحداً من الخلفاء العبيديين لأن إمامتهم غير صحيحة لأمور منها: أنهم غير فاطميين كما يزعمون، وإنما سمتهم بالفاطميين جهلة العوام نسبة إلى فاطمة رضي الله عنها، وهذا جهل إذ أن جدهم مجوسي، ومنها أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، منهم من أظهر سب الأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له، والخيِّر منهم رافضي خبيث لئيم يأمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة ولا تصح لهم إمامة.." انتهى.
فهؤلاء هم الذين سنوا الاحتفال بالمولد لا حباً في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما لهدم الدين بإدخال البدع فيه، كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني: "كان المهدي عبيد الله باطنياً خبيثاً حريصاً على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه أباحوا الخمر والفروج وأشاعوا الرفض"، وقال الذهبي: "كان القائم بن المهدي شراً من أبيه زنديقاً ملعوناً أظهر سب الأنبياء"، فمن الذي يقتدي بهؤلاء ويظن أنهم سنوا سنة حسنة ويعتقد أن أهدافهم سليمة.
وإن المحب الصادق هو ما يقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في شكله وهيئته وكلامه وصلاته وعبادته والتخلق بما كان يتخلق به صلى الله عليه وسلم، وأن يجتنب المحرمات الظاهرة والباطنة طيلة عمره وحياته في كل لحظاته وسكناته قدر استطاعته، وليس من يحتفل بمولده وقتاً محدوداً ثم يعود بعدها مباشرة لمزاولة الذنوب والمعاصي وترك الأولاد ذكوراً وإناثاً بعيدين عن الهدي النبوي والتربية الدينية الجادة، بل والاستهزاء بمن يتمسك بالدين ويلتزم به، فهنا يظهر الفرق ويتضح الصادق من غيره.
الخطبة الثانية: قاعدة في إنكار البدع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ون يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد تحدثنا فيما مضى عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأنها من أهم الواجبات والأعمال التي يتعبد فيها الإنسان المسلم لربه سبحانه وتعالى، وبيَّنا أن محبته تستلزم دوام ذكره صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثره واتباع هديه والائتمار بأمره والانتهاء عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، كما أن محبته صلى الله عليه وسلم يجب تقديمها على كل محبوب ومرغوب، فيجب تقديم حبه صلى الله عليه وسلم على حب النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وأن هذا الحب لابد أن يترجم إلى واقع عملي محسوس، وإلا فما الذي يثبت صدق هذه المحبة؟ لأن كل ما ادعى دعوى فإن الواجب عليه تقديم ما يدل على صدق دعواه وحجته، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء أقوام وأموالهم، ولكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر »، فهذه قاعدة جليلة عظيمة تعمل بها جميع المحاكم ، بل والقوانين والأنظمة حتى الكافرة منها، أن كل من ادعى شيئاً فيلزمه تقديم ما يثبت دعواه وإلا بطلت، وكما قال الشاعر:
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بيّنات فأصحابها أدعياء
ويلزم من ذلك أن يجب الإنسان ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يبغض ما أبغضه، وأن لا يعبد الله إلا بالطريقة التي شرعها له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّنها له، لأن الجميع يؤمن ويقر ويصدِّق بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين كل ما يلزم بيانه عن ربه عز وجل، ولذلك امتن الله على عباده المؤمنين بقوله: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ﴾، جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين آية تقرؤونها لو نزلت علينا معشر يهود لاتخذنا اليوم الذي أنزلت فيه عيداً، وقرأ الآية السابقة، فقال عمر رضي الله عنه: «والله إني لأعلم اليوم والساعة التي أنزلت فيه، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بعيره في يوم عرفة في حجة الوداع »، فالدين كامل والشرع واضح أيها المسلمون وكلنا متفقون على ذلك، وإذن فكل ما كان ديناً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام فهو الدين، وكل ما لم يكن ديناً حينذاك فليس بدين اليوم ولا غداً.
وهذا قاعدة جامعة نافعة ينبغي لكل مسلم أن يعيها ويتدبرها ويعمل بها، وإذا أردنا تطبيق ما سبق على ما نجده في حياتنا المعاصرة فإننا سوف نجد الخلل الكبير الذي أصاب طائفة من المسلمين بابتداعهم واختراعهم بعض العبادات والقربات استحساناً منهم، وظنهم أنها من البدع الحسنة التي لا بأس من فعلها والعمل بها، ومن ذلك إقامة الموالد مثل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبار ذلك من البدع الحسنة، وكل ما ذكرناه فيما سبق إنما هو رد على ذلك باعتبار أنك لا تستحسن شيئاً إلا إذا كان الذي أمامك بشراً مثلك يصيب ويخطئ، ولكن إذا كان المرسِل هو الله سبحانه وتعالى جل وعلا الذي لا يخفى عليه شيء في السموات ولا في الأرض، وكان المُرسَل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى وكان الواسطة جبريل عليه السلام، الذي وصفه ربه سبحانه بأنه قوي وأمين، فأي شيء ستستدركه على هذه السلسلة وأي شيء سيجده عقلك البشري القاصر، وقد فات على ربك سبحانه وتعالى – تعالى الله عن كل نقص وتقصير – ثم إن قولك إنها بدعة حسنة يرد عليه بقول نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه فقال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة».
فهذه الوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أمته من بعده، كأنها وصية مودع، وتعرفون أن المودع إذا أوصى فإنه لا يوصي إلا بأهم الأشياء وأعظمها على الإطلاق وأشدها خوفاً على أمته، وقد بينت هذه الوصية أن كل البدع ضلالة، وبالتالي فليست هناك بدعة حسنة.
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، ومعنى رد أي مردود على صاحبه، فأي فائدة يجنيها المسلم من عمل يكون رداً عليه، أو ليس من الأولى والأوجب الانشغال عما قد كلفنا به.
ومن الحجج التي يوردها المحتفلون بالمولد النبوي أن المولد ذكرى سنوية يتذاكر فيها المسلمون نبيهم صلى الله عليه وسلم فيزداد حبهم وتعظيمهم له، وهذه الحجة يجاب عنها بأن المسلم لا يحتاج إلى تذكر رسوله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد في السنة؛ لأن المسلم لا يصلي صلاة من ليل أو نهار إلا ذكر فيها رسوله صلى الله عليه وسلم. إن الذي تقام له ذكرى خشية النسيان هو من لا يُذكر، أما من يذكر ولا ينسى بل ولا يعيش المسلم لحظة من لحظاته وساعة من ساعاته إلا وهو يعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وسنته وجهاده ودعوته وسائر شؤونه فكيف تقام له ذكرى من هذا شأنه؟ أليس هذا من تحصيل ما هو حاصل؟
وأما قضية سماع بعض الشمائل المحمدية الطاهرة والنسب الشريف فينبغي للمسلم أن يقرأها ويتعلمها ويتدارسها طيلة العام ولا يكفي في ذلك مجرد تلاوة قصة المولد هكذا عابراً، وأما حجتهم في إعلان الفرح في يوم مولده صلى الله عليه وسلم، فإما أن يكون الفرح بالرسول صلى الله عليه وسلم فليكن الفرح دائماً كلما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يختص بوقت دون وقت، وأما أن يكون الفرح باليوم الذي ولد فيه فهذا اليوم هو نفسه اليوم الذي مات فيه، ولا أحسب عاقلاً يقيم احتفال فرح وسرور باليوم الذي مات فيه حبيبه، وموت الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة أصابت المسلمين حتى أن كل من أصيب بمصيبة فإن عليه أن يتذكر مصيبته بموت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يتم العزاء والسلوان في مصيبته كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه.
وأما الاجتماع على الذكر، فالاجتماع على الذكر بصوت واحد لم يكن معروفاً عند السلف، فهو في حد ذاته بدعة منكرة، وأما المدائح والقصائد بالأصوات المطربة الشجية فهذه بدعة أقبح ولا يفعلها إلا المضطربون في دينهم والعياذ بالله تعالى، وفي الغالب فإن الدافع لمثل ذلك هو محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ولكن لا تنال طاعة الله ومحبته إلا بما يحبه الله ويرضاه ويشرعه.
ومن الدوافع لدى البعض لإقامة مثل تلك الاحتفالات هو التقليد الأعمى والعصبية الممقوتة فهو ينظر إلى آبائه وأجداده وقرابته فلا يرى منهم إلا ذلك، ويرى أن من ينكر عليه في الغالب إنما هم أناس من غير جماعته وقبيلته ومنطقته فيأتيه الشيطان ويقول له: أتترك ما عليه قرابتك وجماعتك وقد عاشوا على ذلك قروناً لمثل قول هؤلاء؟ أو كل من سبق وسلف من آبائك وأجدادك على الباطل وهؤلاء الجهلة على الحق؟ وبالتالي يحثه الشيطان ويدفعه لمتابعة من سلف من أقاربه وجماعته حتى لا يكون عدم فعله للمولد بمثابة تحقير الآباء والإخوان والقرابات والحط من قدرهم وشأنهم واتهامهم بأنهم لم يكونوا على صواب. وقضية اتباع الآباء والأجداد فيما هم عليه من غير الحق واتباعهم على ذلك كانت من أكبر العقبات التي صدت كثيراً من الناس عن الحق حتى إنها صدت مشركي الأمم السابقة ومشركي قريش حتى قال قائلهم: ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾.
والحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق، فمن قال بالحق واتبعه ودعا إليه استجبنا له، ولو كان أبعد بعيد، ومن ترك الحق واجتنبه وتنكب الباطل تركناه ولو كان أقرب قريب.
وقد يقول قائل بعد كل هذا الكلام الطويل فما هو البديل؟ والجواب أن البديل عن ذلك أن يأخذ المسلمون أنفسهم بالجد والاجتهاد وأن يلزم المسلم نفسه باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم كل وقت وحين سواءً على نفسه أو أهله وأولاده، فإن كثيراً من الناس حتى الصالحين منهم لا يعني بشؤون أهله وأولاده وتعليمهم أمور دينهم وإرشادهم للحق والهدى أي اهتمام، وهذا كله من التفريط في هذا الواجب لأن الله يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسهم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ﴾.
كما أن من الوسائل المفيدة لتدارس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم اقتناء الكتب الموثوقة والتي تحدثت عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وقراءتها دائماً مع الأهل والأولاد والأصدقاء والإخوان وغيرهم، وبالتالي يكون المسلم في ذكر دائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشوق إليه، ومما يعين على ذلك الاطلاع على كتب الحديث النبوي كصحيح البخاري ومسلم وبقية كتب السنن ففيها تفصيل كبير عن كافة تفاصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونه وأحواله. ومن الكتب الجيدة في هذا مجال السيرة كتاب السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري، وكتاب الرحيق المختوم للمباركفوري وغيرهما كثير، وكلاهما في السيرة النبوية والأفضل للمسلم أن يقتني هذين الكتابين ثم يحث أفراد أسرته على قراءتهما ولو عمل مسابقة ووضع فيها أسئلة متنوعة عن مواقف متعددة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يستطيع الإجابة من اطلع على الكتابين وقرأهما ورتب على ذلك جوائز قيمة لكان ذلك حسناً إذ بهذه الطريقة يشجع أهله وأولاده على قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت يشغل وقت فراغهم بالنافع من الأعمال، كما أن هناك تفصيلاً كاملاً عن السيرة النبوية بكل دقائقها وتفاصيلها موجود على الأشرطة في حقائب مستقلة للعديد من العلماء والدعاة الموثوقين وهي مجموعة مفيدة وتصلح لجميع الطبقات ومن أولاهم النساء والفتيات في البيوت وغيرهم من الشباب والشيوخ وغيرهم.
وأما عن الذكر الذي يقال في مثل تلك المناسبات التي ما أنزل الله بها من سلطان فالبديل عنها هو دوام ذكر الله والاطلاع علي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم طيلة الوقت والاقتداء بهديه واتباع سنته، والمسلم مندوب أن يحافظ على أذكار الصباح والمساء والأذكار الشرعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي سهلة ومتوافرة وموجودة في كل مكان، كذلك يحافظ المسلم على الصلوات الخمس في المساجد خاصة البردين، لحديث (من صلى البردين دخل الجنة) والبردان هما: الصبح والعصر، وكذلك المحافظة على السنن الرواتب وعددها اثنتا عشرة ركعة، ثنتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وثنتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، والمحافظة على صلاة الليل والذكر بعدها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويحث أمته عليه، وأن يحافظ على سماع إذاعة القرآن الكريم والقنوات الهادفة ففيها الخير الكثير بإذن الله، واقتناء الأشرطة النافعة من تسجيلات القرآن الكريم والمحاضرات والدروس النافعة.
وفي الختام نود أن ننبه إلى قضيتين: أولاهما: ما يفعله ويقوله بعض من يقيم أو يحتفل بتلك الموالد من أنه إذا نصحه أحد أو كلمه في شأنها وأنها بدعة لا يجوز فعلها فتجد بعضهم لا يتورع أن ينسب من ينكرها بوصفها بدعة محدثة أن ينسبه إلى الكفر والمروق من الدين بقوله: "فلان يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يحب المولد أو يكره الاحتفال بالمولد"، وهو يعلم أن من يكره الرسول صلى الله عليه وسلم أو لا يحبه فإنه يكفر بإجماع المسلمين، وتكفير المسلم لا يحل أبداً، ومع العلم أنه لا ينكر البدعة ولا ينهى عنها، ويحذر منها إلا مؤمن وصالح أيضاً، فكيف يُكفَّر أو يُتهم بالكفر والعياذ بالله؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، فهل من جزاء الإحسان والنصيحة الإساءة والجحود والنكران؟
والأمر الثاني الذي ينبغي التنبيه عليه هو أن من رأى أخاه المسلم مبتلى بمثل هذه الأفعال فإنه يجب عليه أن ينظر إليه نظرة شفقة، فينبغي عليه أن يبذل له كل الأسباب الممكنة لكي يخرجه مما هو فيه وذلك بالنصيحة الصادقة المخلصة التي تصدر من قلب مشفق غيور ويكون قصده من ذلك هو إنقاذ أخيه المسلم وليس التشفي والتعيير والإساءة، وليعلم أنه غالباً ما دفع هؤلاء للاحتفال بالمولد إلا حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، ولكنهم أخطأوا الطريق فينبغي تصحيح المسار وتعديله لهم وذلك بسلوك أفضل الطرق الموصلة إلى هدايتهم وإخراجهم مما هم فيه من البدعة إلى السنة وذلك باللين والتلطف وعدم الغلظة والشدة فهي تضر ولا تنفع.
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل محبته صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، وأن يرزقنا محبته صلى الله عليه وسلم المحبة الشرعية التي يحبها الله عز وجل دون غلو ولا تفريط، وأن يجعل لنا من ثمرات محبته صلى الله عليه وسلم اتباعه والاقتداء به والاهتداء بهديه في كل شؤوننا وأحوالنا، كما نسأله سبحانه أن يجنبنا الفتن والبدع ما ظهر منها وما بطن وأن يحيينا على السنة ويميتنا عليها، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وآله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثالثة: تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي (للدكتور ناصر الحنيني)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
فلاشك أننا جميعا نُكِنُ في صدورنا محبة عظيمة لرسولنا الكريم وحبيبنا العظيم وقدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن عمل بسنته واهتدى بهديه إلي يوم الدين، وإن هذه المحبة تعتبر من أصول الدين ومن لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كافر بإجماع المسلمين.
وإننا نستعرض في حديثنا هذا مشهداً تاريخياً لظهور قضية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم عل ذلك يدلنا على الصواب والرشاد. إن الناظر في السيرة النبوية وتاريخ الصحابة والتابعين وتابعيهم وتابع تابعيهم بل إلى ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين سنة هجرية لا يجد أحدا من العلماء أو من الحكام أو حتى من عامة الناس قال بهذا العمل أو أمر به أو حث عليه أو تكلم به. قال الحافظ السخاوي في فتاويه: "عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد".أهـ .
ويبدو السؤال المهم إذن: " متى حدث هذا الأمر – أعني المولد النبوي- وهل الذي أحدثه علماء أو حكام وملوك وخلفاء أهل السنة ومن يوثق بهم أم غيرهم؟" والجواب على هذا السؤال عند المؤرخ السني الإمام المقريزي رحمه الله: يقول في كتابه الخطط ( 1/ ص 490 وما بعدها): "وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي مواسم رأس السنة، ومواسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب، ومولد الحسن والحسين، ومولد فاطمة الزهراء، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النيروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات"أ.هـ. ومن النقل السابق تدبر معي كيف حُشِر المولد النبوي مع البدع العظيمة مثل: -بدعة الرفض والغلو في آل البيت المتمثل في إقامة مولد علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم وبدعة الاحتفال بعيد النيروز وعيد الغطاس وميلاد المسيح وهي أعياد نصرانية.
يقول ابن التركماني في كتابه" اللمع في الحوادث والبدع" (1/293-316 ) عن هذه الأعياد النصرانية: "فصل ومن البدعة أيضا والخزي والبعاد ما يفعله المسلمون في النيروز وأعياد النصارى ومواسمهم من توسع النفقة " قال:" وهذه نفقة غير مخلوفة وسيعود شرها على المنفق في العاجل والآجل " وقال: " ومن قلة التوفيق والسعادة ما يفعله البعض في ما يعرف بالميلادة (أي ميلاد المسيح)"، ونقل عن علماء الحنفية أن من فعل ما تقدم ذكره ولم يتب منه فهو كافر مثلهم. وذكر عدداً من الأعياد التي يشارك فيها جهلة المسلمين النصارى وبين تحريمها بالكتاب والسنة ومن خلال قواعد الشرع الكلية.
فعلى هذا فإن أول من أحدث ما يسمى بالمولد النبوي هم بنو عبيد الذين اشتهروا بالفاطميين. وماذا قال أهل العلم عن الدولة الفاطمية العبيدية التي أحدثت هذا الأمر المولد النبوي؟: قال الإمام أبو شامة المؤرخ المحدث صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين عن الفاطميين العبيديين: " أظهروا للناس أنهم شرفاء فاطميون فملكوا البلاد وقهروا العباد وقد ذكر جماعة من أكابر العلماء أنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحا بل المعروف أنهم (بنو عبيد)؛ وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي وقيل كان والد عبيد هذا يهوديا من أهل سلمية من بلاد الشام وكان حداداً. وعبيد هذا كان اسمه سعيداً فلما دخل المغرب تسمى ب(عبيد الله) وزعم أنه علوي فاطمي وادعى نسبا ليس بصحيح - لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية بل ذكر جماعة من العلماء بالنسب خلافه - ثم ترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى ب(المهدي) وبنى المهدية بالمغرب ونسبت إليه وكان زنديقاً خبيثاً عدواً للإسلام متظاهراً بالتشيع متستراً به حريصا على إزالة الملة الإسلامية قتل من الفقهاء والمحدثين جماعة كثيرة وكان قصده إعدامهم من الوجود لتبقى العالم كالبهائم فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
ونشأت ذريته على ذلك من