ثلاثة هم اول من تسعّر بهم النّار يوم القيامة
أحمد عبدالله صالح
خطبــة جمعــة بعنــوان
ثلاثة هم اول من تُسعّـر بهم النار يوم القيامة
اما بعد احبتي الكــرام :
ضمن سلسلةِ ثلاثيات، وكما هي العادة حول ثلاثةِ اصنافٍ من البشرِ نقفُ اليوم مجدداً ..
وحديثُ جمعتنا اليوم عن ثلاثةِ اصنافٍ من الناس نبأهم غريب، وخبرهم عجيب ..
إنّهم ثلاثةُ أشخاصٍ أعمالهم الصالحه تفوقُ الجبال
وهممهمُ العالية تناطحُ السحاب ..
الكلُ يحسدهم على ما يفعلون .!
والأغلبُ يغبَطُهُم على ما يصنعون .!
فأولُ الثلاثة رجلٌ وانسانٌ اغلبُ الآباءِ والأمهات يتمنون ان يكون ابناءهم مثله، ويرجون ان يحذوا حذوه، وان يقتدوا به وبمثاليته ...
إنّه قَارِئٌ القرآن وحافظُ كتابِ اللهِ تعالى ..
رجلٌ حَسَنُ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ ، يرتله ويترنم به ويتلوه آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار ..
لسانه لا تلهج الاّ بالآيات، وقلبه لا يعي الاّ كلام الله.
إذا رَتَّلَ كلامَ الْمَنَّانِ خشعتْ لصوته القلوبُ وصَغَتْ لتلاوته الآذانُ، واهتزت لعذوبة صوته الجوارح والأركان ..
وإذا تَلا الآيات الحِسانَ إزدادَ إيمانُ أهلِ الإيمانِ.. كما قالَ العزيزُ الرَّحمنُ .. الكريمُ المنّان :
( وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ) [الأنفال: 2]
كانَ النَّاسُ يُقدِّمونَه في صلاتِهم إمتِثالاً لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم : " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ "..
وكان النّاسُ يُكرمونَه إجلالاً وتعظيماً لذي الجلالِ والإكرامِ كما قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ :
" إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ : إِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامُِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامُ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ".
وكانوا يَعرفونَ له قَدْرَه بما يحملُ في صدرِه من كتابِ اللهِ ربِّ العالمين..
يقول نِافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ الذي كان عُمَرُ بن الخطاب يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ..
يقول لَقِيتُ عُمَرَ بِعُسْفَانَ فَقَالَ لي :
مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي ؟ يعني مكَّةَ .!!
قَالَ نافع : ابْنُ أَبْزَى ..!
قَالَ عمر : وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟!
قَالَ : مَوْلىً مِنْ مَوَالِينَا .!
قَالَ عمر : أفَتسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلىً ؟!
قَالَ : يا امير المؤمنين إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ ..
فقَالَ عُمَرُ : أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى اللهُ عليه وسلمَ قَدْ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَاماً وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ"..
ماتَ حافظُ القرآن وقارئُه ولا زالتْ تلاواتُه العَطرةُ تُرددُ في الأشرطةِ، وتُسمعُ في الإذاعاتِ، وتُشاهدُ في القنوات، وتُتابعُ في مواقعِ التواصل ..
مات وشَهدَ له الجميعُ بالقراءةِ والتجويدِ وحُسنِ الأداءِ.. ولكن ماذا !!!؟ ..
في الآخرةِ حدثَ ما لم يكنْ في الحُسبانِ ..
أمّا الرجلُ الثاني فهو رجلٌ قد أنعمَ اللهُ عليه بالمالِ الوفيرِ..
فأمواله لاتُعد، واملاكة لا تُحصى، وثرواته يُصعبُ حصرها ..
قد فتحَ بيتَه للمحتاجِ والمسكينِ والفقيرِ ..
وكلّفَ نفسه لخدمةِ الضعيفِ والجائعِ والمُعدم ..
له في كلِّ أوجهِ الخيرِ سهمٌ ..
فهو كريمٌ، باذلٌ، سخيٌ ، مُتَصدِّقٌ، شهمٌ..
كم من كُربةٍ نفَّسَها ..!
وكم من عسيرةٍ يسَّرَها ..!
وكم من شدةٍ عن النّاس أزاحها ..!
وكم من أرملةٍ بكت فأفرحها ..!
وكم من ثكلى حَزِنت فأسعدها ..!
وكم من أسرةٍ افترشتِ الأرضِ فرفعها ..!
وكم كانَ له في عونِ العِبادِ مواقف مشرّفات .!
حتى قالَ بعضُهم : هنيئاً له هذا الجود والإحسان
وهنيئاً له قولَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
"مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"..
ماتَ ولا زالتْ الأوقافُ التي أوقفَها، والصَّدقاتُ الجاريةُ التي أجراها شاهدةً عليه ..
مات ولا زال النّاس يتذاكرون كرمه وإحسانه، ويتحدثون عن طيبةِ قلبه وعطاءِ يديه ..
وقد قالَ عليه الصَّلاةٌ والسَّلامُ :
"إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثَةِ : إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".. ولكن مــاذا !! ..
في الآخرةِ حدثَ ما لم يكنْ في الحُسبانِ.
أمّا ثالثُ الثلاثة فهو مجاهدٌ شُجاعٌ، وبطلٌ مقدامٌ
لايهابُ الموت، ولايخشى المنيّه،ولا يَعرفُ الخوفَ، ولا يعرف الخنوع او الاستسلام ..
لا تجده إلاّ في أوائلِ الصُّفوفِ..
له في المعاركِ مواقفُ، وجَولاتٌ، وصَولاتٌ وبطولات..
وله في خَيالِ الأعداءِ ذِكرياتٌ مرعباتٌ ومُخيفاتٌ..
وأيُّ عملٍ كالجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى ..
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا أَنَالُ بِهِ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟
فَقَالَ : "هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُصَلِّيَ فَلَا تَفْتُرُ وَتَصُومَ فَلَا تُفْطِرُ؟"
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَضْعَفُ مِنْ أَنْ أَسْتَطِيعَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ :
" فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ طُوِّقْت ذَلِكَ مَا بَلَغْتَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ "..
هذا المجاهد قُتلَ في إحدى المعاركِ الكبيرةِ وهو مُقبلٌ غيرَ مدبر بعدَ جِراحٍ خطيرةٍ..
ماتَ ولا زالتْ ذِكراهُ خالدةٌ ..
فالأجيالُ يتذاكرونَ سيرتَه العطرةَ المجيدةَ..
واسمه في الكُتبِ، وعلى الشوارعِ والمدارسِ الجديدةِ..
ولكن ماذا ؟؟..
في الآخرةِ حدثَ ما لم يكنْ في الحُسبانِ.
وقد تقولونَ : ما الذي سيحدثُ في الآخرةِ ؟.
ما الذي سيحصلُ في الآخرةِ ومالم يكن في الحسبان !؟
وهل يتمنى الإنسانُ إلاّ أن يأتيَ يومَ القيامةِ بما أتى به أحدُ هؤلاءِ الأخيارُ الكِرامِ ؟!..
فمن مثلُ القارئُ لكتابِ اللهِ الكريمِ..
ومن مثلُ المُتصدِّقُ في أوجهِ الخيرِ الكريم ..
أو المُجاهدُ في سبيلِ اللهِ الشهيد ..
لكن هل عرفتم من هؤلاءِ الثلاثة ؟
وهل تعرفون ما الذي سيحدث لهم يوم القيامه ؟
إنّهم الثلاثة الذين هم اول من تُسعّر بهمُ النّارُ يوم القيامة ..
اسمعوا معي لهذا الحديثِ واصغوا إليه بقلوبِكم قبلَ آذانِكم :
يقول ابو هريرة رضي الله عنه حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ ..
فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ : أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟
قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ : فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟قَالَ : كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ..
فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ :
أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟قَالَ : كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ :
فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟
فَيَقُولُ : أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تعالى لَهُ : كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ : بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ : "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [هود: 15- 16].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ وَنَفَعَنِي وَاِيِّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ.. أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية :
أما بعد :
حـديثُ الثلاثة النفر الذين هم أولُ خلق الله تُسعّر بهم النار يوم القيامة حديثٌ مخيفٌ تنخلعُ منه قلوبُ الصَّالحينَ..
أن يَلِجَ هؤلاءِ النَّارَ قبلَ عُبَّادِ الأوثانِ والمُشركينَ..
ويكونوا من أولئك الذين قال الله فيهم وفي امثالهم
( قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون إنّهم يُحسنون صنعاً )..
واولئك الذين قال الله عنهم :
( وقدمنا الى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثوراً )
نعم اخي الحبيب :
أبنيتَ يوماً قصراً رائعاً من الرمال، بنيتَه بجدٍّ وإتقان بالغ، ثم جاءت موجةٌ عظيمةٌ فجعلته كأن لم يكن ؟
وهل جمعتَ كومةٌ عاليةٌ من رمادٍ في يومٍ عاصف، فطار كل ما جمعته يمنةً ويسرة وضاعّ كلُ مجهودك؟
هل كنتَ في يومٍ شديدِ الحر ، في أشدِّ الحاجة إلى الماء، فإذا بك تبصره فتركض نحوه، فلا تجده إلاّ سراباً ؟
رغم الحسرةُ والألم الذي يعتريك في هذه الحالات، فهي ليست بشيءٍ حين تأتي بأمثالِ الجبال من الأعمالِ الصالحة، وفي أثناءِ الحسابِ تجدها
أصبحت هباءً منثوراً لم يبقَ لك منها شيء.
لا تتعجب؛ فهذا حالُ الكثير ممّن فقد أحد ركني قبول العمل وهو "الإخلاص"؛ فقبول العمل يتوقف على ركنين أساسين كجناحي طائر لا يُقبَل العمل إلا بهما معا : الإخلاص مع المتابعة.
يقول ابن القيم رحمه الله : "العمل بغير إخلاص ولا اقتداء؛ كالمسافر يملأ جرابه رملاً، يثقله ولا ينفعه".
وهنا لا بد من وقفة صادقة لنحاسب النفس ونراجع نياتنا ..
في ذلك اليوم حين دخل عليَّ فلان، هل حسَّنتُ من صلاتي بعد دخوله ليراني خاشعًا مطيلًا في صلاتي محسنًا لها؟
وتلك النصيحة أو الخاطرة او الكلمة أو المحاضرة التي أعددتها : أكانت خالصة لوجه الله ابتغاءَ ما عنده، أم ليُشار إليَّ بالبنان والعلم وقوة الإيمان؟
ويوم ذهبتُ مع زملائي لدُورِ المسنين والهجرة او الأيتام او لمرضى الفشل الكلوي او السرطان :
هل شاركتهم لأنهم دعوني إلى ذلك، فذهبت حياءً وخجلًا أن أكون الوحيد بينهم الذي لم يذهب، أو كان ذهابي خالصًا لوجه الله، ولأمسحَ دمعةً لهم، وأرسم ابتسامةً على شفاههم، ولأدخلَ السرور إلى قلوبهم !؟
ويوم كذا وكذا وكذا، هل أعمالي كلها خالصةً لوجه الله، أو كان للرياء منها نصيب؟
احبتي الكــرام :
في الاخير أود أن أنبه لأمرين مهمين :
الأول : وهو أننا قد نربي أبناءنا على الرياء ِونحن لا نشعر !! كيف ذلك !!؟
الطفلُ عندما يفعل خطأ وتقول له : عيب، ما يقول عنك الناس !!
أو تريد منه أن يصلي في المسجد، فتقول له :
إذا ما رأيتك في المسجد سأفعل بك وأفعل !!
فأنت بهذه الطريقة ربيت ابنك على التعلّقِ بالناس، والخوف من نقدهم، والتصنّعِ لهم، وضخّمت له ذلك وجعلته هدفاً له، يسعى ليُرضي الآخرين !! فتراه إذا كان الأب غائبا لم يُصلِّ، وإذا لم يره أحد فعل المعاصي، وكل ذلك من أسباب زرع بذور الرياء في القلب.
والواجب على الأب أن يخوّف الولد من الله, ويُعلّق قلبه بربه، ويَغرس في نفسه مراقبة الله, وأنه يراك، وإذا لم تُصل أبغضك الله، وإذا أبغضك لم تفلح في الدنيا ولا في الآخرة.
فتربيةُ الابن بالترغيب بما عند الله من الثواب، والترهيب بما عند الله من العقاب هو الذي ينمّي في قلبِ الطفل مراقبةُ اللهِ في كلِّ مكان، وفي أي زمان ، ولو لم يره أحد.
التنبيه الثاني : بعضُ النّاس من شدّةِ خوفه من الرياء, يجرّه ذلك لتركِ العمل، يريد أن يقرأ القرآن في المسجد, فيأتيه الشيطان ويقول له : أنت مرائي، لا تقرأ أمام الناس، فيترك القراءة، وغيرها كثير من الأمثلة، فهذا هرب من شرٍ فوقع في شر، وهذا لا شك من وساوس الشيطان، حتى يحرمك من الخير.
يقول القاضي الفضيل بن عياض :
"تركُ العمل لأجلِ النّاس رياء، والعملُ لأجلِ النّاس شرك .. ثم قال : والإخلاصُ ان يعافيك الله منهما ".
يقول النووي معلقاً "معنى كلامه رحمه الله :
أن من عزم على عبادة لله وتركها مخافةً أن يراه الناس فهو مُراءٍ، لأنه ترك العمل لأجل الناس, والترك عمل، فهو بهذا الترك عمل لأجل الناس، فوقع في الرياء" .
فترك العمل خوفاً من الرياء حبالة من حبالات إبليس، لذلك يُنصح من أتته هذه الوساوس ألاّ يلتفت إليها، وأن يمضي في العملِ الذي عزمَ عليه لله إغاظةً للشيطان.
أمّا وصيتي الاخيرة لي ولكم :
كن لقلبِكَ محاسباً ، وعلى عملك رقيباً، وابنِ سياجاً وسوراً منيعاً يحميك من ذلك الشرك الخفي، فإن باغتك وأفلت من السورِ فبادر إلى نزعه، وطهِّر قلبك وعملك من شوائب الرياء، واحرص على الدعاء الذي وصاك به نبيُك :
( اللهم إني أعوذ بك أن أُشرِكَ بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ).
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل.
اللهــم اجعل جميع اعمالنا خالصةً لوجهك الكريم ياعظيمُ يا منان ..
اللهــم اجعل عملنا صالحاً ولوجهك خالصا ولا تجعل لاحدٍ منه شيئاً يا اكرم الاكرمين ..
اللهم إنّا نعوذ بك أن نُشرِكَ بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه.
اللهــم إنّا نعوذ بك ان نكون من الاخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يُحسنون صنعاً ..
اللهمَّ إنا نسألُك خشيتَك في الغيبِ والشَّهادةِ، وكلمةَ الحقِّ في الغضبِ والرِّضا، والقصدَ في الفقرِ والغِنى..
اللهمَّ إنا نسألُك عيشَ السُّعداءِ وموتَ الشُّهداءِ والحشرَ مع الأتقياءِ ومرافقةَ الأنبياءِ ونعوذُ بك ربي من جَهدِ البلاءِ ودركِ الشَّقاءِ وسُوءِ القَضاءِ وشَماتةِ الأعداءِ.
(( إنَّ اللّهَ وملائِكتَه يُصلونَ على النَّبي يا أيَّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ))....