ثَلَاثَةٌ أَسْبَابٍ لِلْفَلَاحِ
مبارك العشوان 1
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيْهِ، وَنَعُوْذُ بِهِ تَعَالَى مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أيُّهَا النَّاسُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عِبَادَ اللهِ: أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ).
ثَلَاثُ خِصَالٍ مَنْ جَمَعَهَا اللهُ لَهُ؛ فَازَ بِالمَطْلُوبِ وَنَجَا مِنَ المَرْهُوبِ: ( الإِسْلَامُ، وَالكَفَافُ، وَالقَنَاعَةُ ).
يَحْيَا مَنْ جَمَعَهَا الحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، وَيَسْعَدُ السَّعادةَ الأَبَدِيَّةَ.
( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ ) أوَّلُ خَصْلَةٍ وَأَعْظَمُهَا: الإِسْلَامُ؛ الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ، وَلَا يَرْضَى دِينًا سِوَاهُ: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } المائدة 3 وَقَالَ تَعَالَى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } آل عمران 85
الفَلَاحُ - عِبَادَ اللهِ - فِي الاِسْتِسْلَامِ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالانْقِيَادِ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ؛ الفَلَاحُ فِي التَّوحِيدِ النَّقِيِّ السَّالِمِ مِنْ صَغِيرِ الشِّرْكِ وَكَبِيرِهِ، الفَلَاحُ فِي الِانْقِيَادِ التَّامِّ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَالخُضُوعِ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَتَحْكِيمِ شَرْعِهِ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَالرِّضَى وَالتَّسْلِيمِ لَهُ، وَطُمَئْنِينَةِ النَّفْسِ إلَيهِ؛: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } النساء 65 وَهَذَا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيهِ كُلُّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ؛ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي،: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } النور 51، 52 يَقُولُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَـــالَى: { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } حَصَرَ الفَلَاحَ فِيْهِمْ، لِأَنَّ الفَلَاحَ: الفَوزُ بِالمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ المَكْرُوهِ، وَلَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ حَكَّمَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأَطَاعَ اللهَ وَرَسُولَهُ. الفَلَاحُ - رَحِمَكُمُ اللهُ - وَالسَّعَادَةُ وَالحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ؛ فِي الإِيْمَانِ بِاللهِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } النحل 97 قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ.
عِبَادَ اللهِ: وَكَمَا أنَّ السَّعَادَةَ وَالفَلَاحَ فِي التَّمَسُّكِ بِهَذَا الدِّينِ؛ فَإِنَّ الشَّقَاءَ والخُسْرَانَ فِي تَرْكِهِ وَالإِعْرَاضِ عنهُ، الشَّقَاءُ فِي التَّمَرُّدِ عَلَى شَرِيعَةِ اللهِ، وَالتَّفَلُّتِ مِنْهَا؛ وَالجُرْأَةِ عَلَى حُدُودِ اللهِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } طه123-124
أَلَا فَتَمَسَّكُوا - عِبَادَ اللهِ - بِدِيْنِكُمْ، وَعَضُّوا عَلَيهِ بِالنَّواجِذِ، اُثْبُتُوا عَلَيهِ، اِحْذَرُوا أَشَدَّ الحَذَرِ مَا يَصْرِفُ عَنْ هَذَا الدِّينِ وَيَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ وَيُزَهِّدُهُمْ فِيهِ؛ مِنْ أَشْخَاصٍ أَوْ قَنَوَاتٍ أَوْ غَيْرِهَا.
عَظِّمُوا أَوَامِرَ اللهِ فَامْتَثِلُوهَا، وَنَوَاهِيَهُ فَاجْتَنِبُوهَا، وَحُدُودَهُ فَلَا تَقْرَبُوهَا.
إيَّاكُمْ وَالتَّسَاهُلَ وَالتَّنَازُلَاتِ المُتَتَالِيَةِ، وَتَتَبُّعَ الرُّخَصِ وَالأَقْوالِ الضَّعِيفَةِ وَالفَتَاوَى الشَّاذَّةِ، خُذُوا العِلْمَ عَن العُلَمَاءِ، خُذُوا الفَتَاوَى عَنْ أَهْلِهَا؛ إِيَّاكُمْ وَمَنْ يُفْتِي وَلَيْسَ لِلْفَتْوَى بِأهْلٍ؛ فَيَضِلُّ وَيُضِلُّ.
رَأَى رَجُلٌ رَبِيعَةَ ـ شَيْخَ الإِمَامِ مَالِكٍ، يَبْكِي؛ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ اسْتُفْتِى مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قَالَ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ. قَالَ ابنُ القيمِ رَحِمَهُ اللهُ: قالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَى رَبِيعَةُ زَمَانَنَا، وَإِقْدَامَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عَلَى الْفُتْيَا، وَتَوَثُّبَهُ عَلَيْهَا، وَمَدَّ بَاعِ التَّكَلُّفِ إلَيْهَا، وَتَسَلُّقَهُ بِالْجَهْلِ وَالْجُرْأَةَ عَلَيْهَا مَعَ قِلَّةِ الْخِبْرَةِ وَسُوءِ السِّيرَةِ وَشُؤْمِ السَّرِيرَةِ... إِلى آخِرِ كَلَامِ ابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيْمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيْهِ مِنَ الْآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيْمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيْلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( وَرُزِقَ كَفَافًا ) وَهَذِهِ مِنْ أَسْبَابِ الفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ وَالحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، أَنْ يُعْطَى مِنَ الدُّنْيَا كَفَافًا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، لَا تَزِيْدُ أَمْوَالُهُ فَتُشْغِلُهُ، وَلَا تَنْقُصُ عَنْ حَاجَتِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى النَّاسِ، وَيَمُدُّ إِلَيْهِمْ يَدَهُ. وَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( اللهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا ) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَيِ اكْفِهِمْ مِنَ الْقُوتِ بِمَا لَا يُرْهِقُهُمْ إِلَى ذُلِّ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ فُضُولٌ تَبْعَثُ عَلَى التَّرَفُّهِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الدُّنْيَا.
الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي هَذَا الحَدِيثِ: ( وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ )
القَنَاعَةُ وَالرِّضَى بِمَا قَسَمَ اللهُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ، فَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا يَصْلُحُ لِخَلْقِهِ: { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } العنكبوت 62 وَمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِمَا أُعْطِيَ ظَلَّ فِي هَمٍّ وَشَقَاءٍ وَتَسَخُّطٍ وَتَشَكٍّ، وَتَطَلُّعٍ إِلَى مَا أُعْطِيَ غَيْرُهُ؛ وَمَهْمَا حَصَّلَ مِنَ الدُّنْيَا؛ لَمْ يَرْضَ بِهِ، لَيْسَ رَاضٍ عَنْ صِحَّتِهِ وَلَا عَنْ مَسْكَنِهِ وَلَا عَنْ مَرْكَبِهِ؛ وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ: ( لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ، أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ ) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ. رَزَقَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمُ القَنَاعَةَ وَالفَلَاحَ وَسَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } الأحزاب 56 اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ وَعَلَيْكَ بِأَعْدَئِكَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ يَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُم وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.