توقير واحترام الكبير
أنشر تؤجر
الْحَمْدُ للهِ خَلَقَ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ ، وَمَنَّ عَلَى مَنْ شَاءَ بِطَاعَتِهِ ، وَخَذَلَ مَنْ شَاءَ بِحِكْمَتِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَيِرَتُهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ ، اللَّهُمَّ صِلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِه وَصَحَابَتِهِ واتبَاعِهِ عَلَى دِينِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أمَّا بَعدُ : فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله : لقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى للإنسانِ مراحلَ ثلاثٍ يَمُرُّ بها إن أَمَدَّ اللهُ في أجلِه ، فقالَ سبحانه :( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ )، فَالإنسانُ يَبْدَأُ وَلِيدًا ضَعِيفًا ، ثُمَّ شَابًّا قَوِيًّا ، وَأَخِيرًا شَيْخًا ضَعِيفًا ؛ وَلِذَا حَرِصَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْعِنَايَةِ بِمَرْحَلَةِ الشَّيْخُوخَةِ ، وَجَعَلَهَا مَحَطَّةَ تَكْرِيمٍ وَعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ ، وأوصى بآدابٍ لم يأتَ بها دينٌ من الأديان، أو شريعة من الشرائع .
وتقديرُ كِبارِ السِنِّ مظهرٌ من مظاهر حُسنِ الخلق ، فهؤلاء الكِبار قد شابوا في الإسلام ، وكانوا الأقدم في عبادة الرحمن ، فلهم علينا حقوقٌ كثيرة ، وتزيدُ هذه الحقوق عندما يكون أحدُ هؤلاءِ من الآباءِ أو الإخوةِ أو الأعمامِ والأخوالِ ، فتقديرهم من أولى الأوليات.
ولقد كان من هديِ الأنبياءِ الكرام -عليهم الصلاة والسلام- ومَنْ سار على نهجهم ، واقتفى أثرهم احترام وتوقير كبار السن ، فهذا موسى - عليه السلام - يُحسن إلى صاحب مدين ، ويسقي لابنتيه دون مقابل حين عَلِم بشيبته وكِبرِ سِنه ، ويُوفّي له في رعي الغنم عشر سنوات كاملة لحاجته لذلك .
أمّا هَدْيُ نبينا - عليه الصلاة والسلام - في هذا الشأن فهو معلومٌ لمن قرأ في سيرته ، فقد كان التقدير منه ظاهرًا في حياته كلِها لكِبار السنِّ ، -حالًا ومقالًا-، فكم في سُنّته من آثار مروية تبيّن حاله معهم ، فقد جاء في صحيح البخاري أنّ أبا بكر - رضي الله عنه - جاء بوالده أبي قُحافةَ إلى رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - يومَ فتحِ مكَّةَ ، فلمّا رآه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأبي بكرٍ :( لو أقرَرْتَ الشَّيخَ في بيتِه لَأتَيْناه ) تقديرًا لسِنّه وشيبته .
وكان صلى الله عليه وسلم يُحسن استقبالهم ؛ فقد أتته عَجُوزٌ كانت صَدِيقَةً لِخَدِيجَةَ رضي اللهُ عنها ، فلمّا دخلتَ عليه قال لها :" كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟" قَالَتْ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْإِقْبَالَ! فَقَالَ :" إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ " رَوَاهُ الْحَاكِمُ ، وهو حديث صَحِيحٌ .
فانظر لهذه الحفاوة والاستقبال منه لهذه الفئة لترى ما كان عليه من خُلُقٍ كريم .
أمّا توجيهاته عليه الصلاة والسلام في سُنّته القولية في توقير هؤلاء الكبار فكثيرة ، ومن ذلك : أنه عليه الصلاة والسلام رغّب في توقير الكبير وإجلاله ، بل جعل إجلاله من إجلال الله ، ففي حديث أَبي موسى -رضي الله عنه- قال : قال صلى الله عليه وسلم :" إنَّ مِنْ إجْلالِ اللهِ تَعَالَى : إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ ، وَحَامِلِ القُرآنِ غَيْرِ الغَالِي فِيهِ ، وَالجَافِي عَنْهُ ، وَإكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِط " رواه أَبُو داود.
قال أهلُ العلم ومعنى قوله :( مِنْ إجْلالِ اللهِ تَعَالَى ) أي : أنّ مَنْ فعل ذلك فقد أجلّ اللهَ الذي أمر بهذا ، أو أجلّه اللهُ ورفع قدره جزاء صنيعه ، وهذا مُشاهد في الدنيا ، فإنّ من يُقدّر هؤلاء يناله من الإجلال والرفعة والذكر الحسن ما هو معلوم ، مع ما ينتظره - بإذن الله - من الثواب في الآخرة .
قال طاووس رحمه الله :( مِن السُنّة أن يُوقَرّ أربعةٌ : العالِمُ ، وذو الشيبة ، والسلطانُ ، والوالدُ ).
وتقدير هؤلاء – احتسابًا - واستجابةً لأمر الله وأمر رسوله ﷺ ممّا يُسهّله ، ويعظم معه الأجر والثواب.
واعلموا – رحمكم الله - أنّ عدم الاهتمام بهذه الفئة ، أو جعْل تقديرهم وإجلالهم هو آخر الاهتمام ، أن هذا ليس من هدي المسلم الحق .
ولذا جاء التحذير من هذا المسلك ، فعن أنس - رضي الله عنه – قال :( جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ )، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرنَا ، وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبيرِنَا ) رواه أَبُو داود والترمذي ، وفي رواية أبي داود :" وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبيرِنَا " فتأمّلوا كيف جعل عليه الصلاة والسلام عدم التوقير للكِبار مخالفًا لهديه وسُنّته وطريقته ، فإنّ معنى قوله :( لَيْسَ مِنَّا ) أي : ليس على طريقتنا وهدينا وشرعنا ؛ وفي هذا وعيدٌ لمن خالف هذا التوجيه ، فاحترام الكبير وتقديره من الآداب العظيمة الراسخة التي ينبغي العناية بها .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فطوبى للمستغفرين.
الخطبة الثانية :
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاةُ والسلامُ على أشرف المرسلين وبعد :
فَاتقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَقوَى، وَتَأَسَّوْا بِهَدْي نَبِيِّكُمْ فِي التَّعَامُلِ مَعَ وَالِدِيكُمْ وَشُيُوخِكُمْ، وَاعْرِفُوا لَهُمْ قَدْرَهُمْ وَأَدَّوْا حُقوقَهُمْ، لِيَتَوَاصَلَ الْعَطَاءُ وَيَدُومَ الْبَرُّ.
فالبُيُوتُ التي فِيهَا كَبار السِّنِّ ، بُيُوتٌ يَكسُوهَا الوَقَارُ ، وتَشِّعُ فِي أَرجَائهَا الأَنوارُ ، كَم فِيهَا مِن ذِكرٍ ودُعَاءٍ ، وكَم فيهَا مِن بَركَةٍ وعَطَاءٍ ، وقال عليه الصلاة والسلام :" البَرَكةُ مع أكابِرِكم " أخرجه ابنُ حبان ، وهو في صحيح الجامع .
إنّ تقديرَ كِبارِ السنِ له صورٌ متعددة ، فمنِ صور تقديرهم ، فسح الطريق لهم ، وتصديرهم في المجالس ، وإظهار الاحتفاء بهم عند اللقاء والجلوس معهم ، وتقديمهم في الكلام ، وإظهار الاحترام لهم ، ومناداتهم بألطف الأسماء وأحبّها إليهم ، والإنصات إليهم عند حديثهم ، واستشارتهم وإظهار الاعتزاز برأيهم ، وتطييب خواطرهم عند كلِّ موقف يحتاج إلى تطيب الخواطر، والبعد عن التقليل من شأنهم ، والابتعاد عن نقدهم ؛ فالله الله برعايتهم ، والقيام بحقوقها ، فإنّ هذا هو المنهج الذي أمرت به الشريعة ، وارتضاه اللهُ لأتباعها .
واعلموا - رحمني اللهُ وإيّاكم - أنّ الجزاء عند الله من جنس العمل ، فمن أكرم مَنْ أمرَ اللهُ بإكرامه قيّض اللهُ من يُكرمه ، فقد رُوي أنّه :" مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إلَاّ قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّه " أي عند كبر سنه .
ألا وصلّوا على خير مَنْ تأدّب بهذه الآداب ، ووفّى لمن استحقّ الوفاء ، وقدّر من يستحق التقدير ، نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى :﴿ إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰۤىِٕكَتَهُۥ یُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِیِّۚ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ صَلُّوا۟ عَلَیۡهِ وَسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمًا ﴾ [الأحزاب ٥٦]
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدِك ورسولك محمّد وعلى آلِه وصحبه أجمعين .
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ والْمُسْلِمِينَ وَأَذِّلَ الشِّرْكَ والْمُشْرِكِينَ وَدَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّينِ ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًا وَسَائِرَ بِلَادِ المسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لما تُحِبُّ وَتَرْضَى ، اللَّهُمَّ وفِّقْهُ وَوَليَّ العَهْدِ لما فيهِ صَلَاحُ البِلَادِ والعِبَادِ ؛ اللهم احفظ ولي أمرنا بحفظك وألبسه لباس الصحة والعافية .
اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ بِأنْ تَجْزِيَ آبَاءَنا وَأُمَّهَاتِنا عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، اللَّهُمَّ اجْزِهِمْ عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ كَمَا رَبـُّونا صِغَاراً ، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَيّاً فَمَتِّعْهُ بِالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ عَلَى طَاعَتِكْ ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْحَقِّ فَتَوَلَّهُ بِرَحْمَتِكَ وَأَنْزِلْ عَلَيْهِ مِنْ وَاسِعِ رَحْمَتِكَ ، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَرِيضاً فَاشْفِهِ وَعَافِهِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ ، وَأَسْبِلْ عَلَيْهِ ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ يا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِهِمَا مِنَ البَارِّينَ ، وَاجْعَلْنَا قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُما فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، وَارْزُقْنا بِـرَّ أَبْنائِنا وَبَناتِنا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
اللهمَّ نَسألُكَ أن تُباركَ في كِبارِ السِّنِّ ، وأن تُعْليَ قَدرَهم ، وأن تَرزقنا الإحسانَ إليهم ، اللهمَّ اجعلنا ممنْ طَالَ عُمرُه وحَسنَ عَملُه .
اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمِهَا ، وَخَيْرَ أَعْمَارِنَا أواخِرَهَا ، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاكَ ، يَارَبَ العَالمِينَ .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
المرفقات
1728595348_توقير واحترام الكبير.docx