توقير كبار السن
أحمد بن علي الغامدي
أَمَّا بَعْدُ: لَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يَمُرَّ بِمَرَاحِلَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الدُّنْيَا؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} فَالإنسانُ يَبْدَأُ وَلِيدًا ضَعِيفًا، ثُمَّ شَابًّا قَوِيًّا، وَأَخِيرًا شَيْخًا ضَعِيفًا؛ وَلِذَا حَرِصَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْعِنَايَةِ بِمَرْحَلَةِ الشَّيْخُوخَةِ، وَجَعَلَهَا مَحَطَّةَ تَكْرِيمٍ وَعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَتَّصِفُ بِالضَّعْفِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَخْدِمُهُ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الْحَرِجَةِ، وَيَقُومُ بِشُئُونِهِ.
وَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْهَرَمِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيَقُولُ أَيْضًا: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَأَمَّا اسْتِعَاذَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْهَرَمِ، فَالْمُرَادُ بِهِ: الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الرَّدِّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ؛ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَرَفِ، وَاخْتِلَالِ الْعَقْلِ، وَالْحَوَاسِّ، وَالضَّبْطِ، وَالْفَهْمِ، وَتَشْوِيهِ بَعْضِ الْمَنْظِرِ، وَالْعَجْزِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَالتَّسَاهُلِ فِي بَعْضِهَا).
عباد الله :إن كبرَ السن،وضعفَ قوى الإنسان من موجباتِ الرحمةِ والعنايةِ والرعاية، ولذلك كان برُ الوالدين في الكبر من آكد صورِ البر وأفضلِها،قال الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (12) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ وقال صلى الله عليه وسلم: «رَغِمَ أنْفُه، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُه، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُه، قيلَ: مَنْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: مَن أدْرَكَ والديه عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما ، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ ».رواه مسلم
وأَعظَمُ بِرٍّ يَقُومُ بِه الوَلَد. أَنْ يَكُونَ صَالحاً في دِيْنِهِ، كَرِيْماً في خُلُقِهِ، مُسْتَقِيْماً في هَدْيِهِ، رَفِيْقاً في كُلِّ شأَنِه. يَرَى الوالِدانِ مِنْهُ لِيْنَ جَانِبٍ، وحُسْنَ مَعْشَرٍ، وخَفْض جَناح.
وما اكتَوَى كَبِيْرٌ بأَلَمٍ :كما يَكتَوِيْ والِدٌ كَبِيْرٌ يَرى بينَ أَولادِهِ قَطِيْعَةً وشِقاقاً
عباد الله :كبار السن الأكارم :هم الخيرُ والبركةُ في حياتنا ، ويدل على ذلك قولُه عليه الصّلاةُ والسّلام: "خيرُكم من طالَ عمرُه وحَسُنَ عملُه". وقوله عليه الصّلاةُ والسّلام: "البركةُ مع أكابرِكم".فهنيئًا لمن ضمّتْ بيوتُهم كبارَ السّنّ ، فهم نورُ عيونِنا وتاجُ رؤوسِنا وبركةُ عيشِنا، وبهجةُ حياتِنا، كم تفيّأْنا بظلالِهم، وكم غمرونا بكرمِهم ونوالِهم ، كم رفعوا لنا من صادقِ الدّعوات، فَفُتّحتْ لنا ببركتِها أبوابُ التوفيقِ والرّزقِ والخيرات،وحُفظنا بها من الشرور والأخطارِ والفتن والآفات، فعلينا- عباد الله- أنْ نكرمهم، بإظهارِ اهتمامِنا بهم، وحُبِّنا لهم، وحفاوتِنا بهم، وتودُّدِنا إليهم، فكم هم بحاجةٍ إلى من يجالسُهم ، ويعيشُ همومَهم ومشاعرَهم، ويخاطبُهم بلغتِهم :يسمعُ منهم، يستشيرُهم ويستأذنُهم تقديرا لهم، ويصبرُ عليهم ويدعو لهم ،
واحذروا- أيها الكرام- أنْ تخدِشوا كرامتَهم أو تجرحوا أحاسيسَهم ، وأشعروهم بأنّه لا فضلَ لكم عليهم، وأنَّ المنّةَ لهم عليكم، اِخفضوا لهم الجناح وأطيبوا معهم الكلام، وأبعدوهم عن الجدالِ والخصام، وتلمّسوا حاجاتِهم وسدُّوها، وأحضروها لهم قبلَ أن يطلبوها، ردّوا لهم بعضَ الجميل، وكافؤُوهم على ما قدّموه من تضحياتٍ ولو بالقليل، فقد أدَّوْا ما عليهم وبقيَ ما لهم .
عباد الله :ومِنْ حُقُوقِ الكبار- أيضا- الْعِنَايَةُ بِصِحَّتِهِمْ، ومصاحبتُهم في الزِّيَارَاتِ الطبية والْعَائِلِيَّةِ،وَالْخُرُوجُ بِهُمْ لِلْمُتَنَزَّهَاتِ إِذَا أَحَبُّوا ذَلِكَ وَرَغِبُوا فِيهِ،، وَجَعْلُهُمْ فِي صُدُورِ الْمَجَالِسِ ، مع إشراكِهم فِي الْحَدِيثِ بِطَرْحِ الْأَسْئِلَةِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُحِبُّونَهُ وَيَرْغَبُونَهُ، لَا سِيَّمَا فِي مَاضِي حَيَاتِهِمْ، مما فيه نَفْعٌ لِلْحَاضِرِينَ.
عباد الله : قَضَاءُ حَوَائِجِ الكَبِير؛ مِنْ سُنَنِ الأَنْبِيَاءِ، وصِفَاتِ الأَوْفِيَاء!فَعِنْدَمَا جَاءَتْ (بَنَاتُ الشَّيْخِ الكَبِيرِ) إلى مُوسَى عليه الصلاة والسلام : ﴿قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا﴾.
وخَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه في سَوَادِ اللَّيْلِ، فَدَخَلَ بَيْتًا، فَرَآهُ طَلْحَةُ رضي الله عنه فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ البَيْتِ؛ فَإِذَا بِـ(عَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ)، فقال لها طَلْحَةُ: (مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَأْتِيكِ؟)، فقالت: (إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي، وَيُخْرِجُ عَنِّي الأَذَى!).
أسأل الله أن يعيننا ويوفقنا لأداء حقوقه وحقوق عباده إنه سميع مجيب
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
أما بعد : فمن حقوقِ كبارِ السن الواردةِ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء في حديث أنسٍ بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: جاء شيخٌ كبيرُ السن يريد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القومُ عن أن يوسعوا له، يعني: تأخر الصحابة رضي الله عنهم في أن يوسعوا له مكانًا ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا؛ فَلَيْسَ مِنَّا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ومن أعجب الأحاديث الواردة في إكرام كبار السن قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"إنّ من إجلالِ الله إكرامَ ذِي الشيبةِ المسلم".رواه أبو داود. فتعظيمُ كبارِ السن وتوقيرُهم والرفقُ بهم من كمال تعظيم اللَّه وإجلاله، وذلك لحرمة كبيرِ السن عند اللَّه تعالى.
عباد الله :مِنْ عِنَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِبَارِ السِّنِّ ونصحِه لهم: أَنْ حَذَّرَهُمْ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَجَمْعِ الْمَالِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الْحَيَاةِ، وَحُبُّ الْمَالِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ قَلْبَ الشَّيْخِ كَامِلُ الْحُبِّ لِلْمَالِ، مُحْتَكِمٌ فِي ذَلِكَ كَاحْتِكَامِ قُوَّةِ الشَّابِّ فِي شَبَابِهِ.
وَكَانَ يُذَكِّرُهُمْ بِاللَّهِ لِقُرْبِ أَجَلِهِمْ؛ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. يُقَالُ: أَعْذَرَ إِلَيْهِ؛ إِذَا بَلَّغَهُ أَقْصَى الْغَايَةِ فِي الْعُذْرِ، وَمَكَّنَهُ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ اعْتِذَارٌ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: (أَيْ: أَعْذَرَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِعْذَارِ، الَّذِي لَا إِعْذَارَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ السِّتِّينَ قَرِيبٌ مِنْ مُعْتَرَكِ الْمَنَايَا، وَهُوَ سِنُّ الْإِنَابَةِ، وَالْخُشُوعِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَرَقُّبِ الْمَنِيَّةِ، وَلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى).
*****
المرفقات
1728547514_توقير كبار السن.doc