تَوْقِيْرُ الكَبِيْر
عبدالعزيز بن محمد
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أيها المسلمون: خَرَجَ الإِنسانُ إِلى الدُّنيا ضِعِيْفاً.. كَما هِلالِ الشَّهْرِ أَولَ لَيْلَةٍ. ورُويداً رُويداً، يَنْمُو الإِنسانُ وَيَقْوَى، ويَكْبُر ويَشْتَدّ. كالبَدْرِ فاقَ بَهاءً يَومَ مُنْتَصَفٍ، وأَكْمَلُ العُمْرِ طَوْراً حِينَ يَنْتَصِفُ {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
ولا يَدُومُ شَبابٌ، ولا يَبْقَى نَشاطٌ، ولا تَمْتَدُّ قُوَّة، بِدايَةُ العُمْرِ ضَعْفٌ، وآخِرُ العُمْرِ ضَعْفٌ، وأَوْسَطُ العُمْرِ قَدْ يُعْتَلَّ بالعِلَلِ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}
نَشاطُ المرءِ كائِنٌ بَينَ ضَعْفَين، ضَعْفِ الطُّفُوْلَةِ وضَعَفِ الكِبَرْ. ضَعْفُ الطُفُولَةِ ضَعْفُ نَشْأَةٍ يَتَدَرَّجُ مِنْهُ إِلى قُوَّة. وضَعْفُ الشَّيْخُوخَةِ.. ضَعْفُ مَنْ أَبْلَتْه بالِيَةُ السِنين. * ضَعْفُ الشَّيْخُوخَةِ.. ضَعْفٌ كُسِيَ بِوقار، وجُلِّلَ بِبَهاءَ، وتُوِّجَ بِجَلال.
* ضَعْفُ الشَّيْخُوخَةِ.. ضَعْفُ مَنْ شَقَّ الحَياةَ وخاضَ غِمارَها. وكابَدَ الأَيامَ وخَبَرَ أَغْوارَها. * ضَعْفُ مَنْ قَطَعَ مَسِيرَةً طَوِيْلَةً في الحَياة مُتَقَلِّباً بَينَ سَرائِها وضَرائِها، وبينَ نَصَبِها ولأَوائِها، حَتَى انَتَهى مَطافُ العُمُرِ إِلى ضِفافِ الضَعْف، وحَطَّت بِهِ مُكابَدَةُ السنينِ إِلى ساحِلْ السُكُون. * ضَعْفُ الشَّيْخُوخَةِ.. تَحَوُّلٌ مِنْ حَالٍ إِلى حَال. وَحَالُ المؤْمِنِ في حالِ الكِبَرِ مِنْ أَكْمَلِ الأَحوَال. وإِذا امْتَزجَ قَلْبُهُ بالإِيمان.. رَقَّ وخَشَع، ولانَ وخَضَعْ، وأَقْبَلَ عَلى اللهِ وانْتَفَع. * ضَعْفُ الشَّيْخُوخَةِ فُتُورُ أَعضاءٍ وفُتُوَّةُ قَلْب، كَمْ تَحامَلَ شَيْخٌ كَبِيْرٌ عَلى نَفْسِهِ يُجَرْجِرُ إِلى مَعالِيْ الأُمورِ خُطَاهُ، في وَقْتٍ وَهَنَ الفَتى القَوِيُّ عَن النُهوُضِ لِمُكْرُمَة. كَمْ شَيْخٍ كَبَيْرٍ.. أَنَاخَ عَلَيْهِ الزَمانُ بِكَلْكَلِه، تَراهُ يَهُبُّ إِلى المَسْجِدِ في كُلِّ فَرْضٍ يُلَبِي الدَّعْوَةَ يُجِيِبُ النِداءَ. ومَفتُولُ السَّوَاعِدِ عَاقِرُهُ الوَهَن. ضَعْفُ الشَّيْخُوخَةِ ضَعْفُ أَعْضاءٍ لا ضَعْفُ قَلْب، وانْحِناءُ ظَهْرِ لا انكسارُ كَرامَة.
* ضَعْفُ الكَبَيِرِ يُضْعِفُ في المواقِفِ جَهْلَه، ويُضاعِفُ في المُهِماتِ عَزْمَه، ويُكْبِرُ في الناسِ مَقامَه. ضَعْفُ الكَبِيْرِ رِتْبَةٌ نالَها، ومَكانَةٌ أَدْرَكَها، وسِنٌّ بَلَغَها. فَلَهُ عَقْلٌ عَقَلَ بِهِ عَنِ الزمانِ دُرُوسَه. حَوَى مَعارِفَ لا تُنالُ بَمِدَرَسَةٍ غَيرَ مَدْرَسَةِ الحياة. خَبَيْرٌ بالتَّجْرُبَةِ، مُدْرِكُ بالممارَسَةِ، فَطِنٌ بِما واجَهَهُ مِنْ مَواقِفِ الحَياة.
عَقْلُ الكَبِيْرِ وِعَاءٌ لا يُسْتَهَانُ بِه. كَمْ سَفَّهَ فَتَى رأَيَ شَيْخٍ وازْدَراه، دَارَتِ الأَيامُ عَجْلى أَثْبَتَتْ صِدْقَ رُآه.
الشَيْخُ الكَبِير لَهُ في مَرَاتِبِ الإِكْرَامِ قَدْرٌ مُقَدَّم، ولَه في مَنَازِلِ التَوقِيْرِ صَرْحُ جَلال. تَوقِيْرُ الكَبِيْرِ مِيْزانٌ مِنْ مَوازِينِ المُرُوءَةِ، ومَعْدِنٌ مِنْ مَعَادِنِ الوَفاءَ. ولا يُخْسِرُ المِيزانَ مَنْ بالعَدْلِ سَار.
مُجْتَمَعٌ بالإِسْلامِ يَرْسُمُ هَدْيَهُ مُجْتَمَعٌ يَـحَفِظَ للكَبِيْرِ قَدْرَه. عن أَبي مُوسَى رضي الله عنه أَن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ)رواه أبو داود
تَرْبِيَةُ النَّشْءِ عَلى احتِرامِ الكِبارِ تَرْبِيَةٌ كَرِيْمَةْ، لا يُغْفِلُها مَنْ لَهُ في الفَضْلِ مَنْزِلْ، ولا يَتَجَاهَلُها مَنْ لَهُ في المروءَةِ دارْ. تَرْبِيَةُ النَّشْءِ عَلى احتِرامِ الكِبارِ تُصْنَعُ في بُيُوتٍ لَها في الفَضْلِ سَبْقٌ، ولَها في رَبْوةِ الأَخْلاقِ قَرَار.
تَرَى فَتَىً في مُقْتَبَلِ العُمْرِ بَهِيَّاً يُبْصِرُ شَيخاً كَبِيْراً قَدْ دَنا، فَيَدْنُو مِنْهُ بِرِفْقٍ، ويُحَيِّيِهِ بِلُطْفٍ، ويُعامِلُهُ بِأَدَبْ، ويَخْدِمُهُ بِلَباقَة. يُكْرِمُ شَيْبَتَه، ويُبْقِيْ هَيْبَتَه، ويُوَقِرُ مَقامَه.
يُقَدِّمُهُ في المَجْلِسِ، ويُباسِطُهُ في الحَدِيْثِ، ويُؤْثِرُهُ بالإِكْرام، ويُلاطِفُهُ بالمُعامَلَة. فَتَعْلَمُ أَنَّ وَراءَ هَذَا الفَتَى تَرْبِيَةً بَرَعَ فِيْ الرِّعَايَةِ مُنْتِجُها، وأَحسَنَ في السِّقَايَةِ سَاقِيْها. وأَن وَراءَ هذا الفَتَى وَالِدٌ عَلى حُسْنِ الأَدَبِّ أَقامَه، وعَلى كَرِيْمِ الأَخلاقِ رَبّاه. فَنِعْمَ الوالِدُ وما وَلَد، ونِعْمَ المُتَرَبِّيْ ومَنْ رَبَّاه.
وتَرَى شاباً في رَيعانِ الشَّبابِ قَوِيّاً مَبْسُوطَ القامَةِ، مُكْتَمِلَ النَّشاطَ. مُتَكِئٌ عَلى الأَرِيْكَةِ، مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ وجَنْبَهُ للرَّاحَة، يُبْصِرُ شَيْخاً قَد دَنا يَدُبُّ في المَشْيِ دَبِيْباً، جِسْمُهُ قَدْ وَهَنْ، وعَظْمُهُ قَدْ رَقّ، وقُواهُ قَدْ ضَعُفَت. فَلا يَهُبُّ إليهِ ولا يُقْبِل، ولا يَتَقَدَّمُ لَه ولا يَتَوَدَّد. لا يُدْنِيْ لَه أَرِيْكَةً، ولا يُكْرِمُهُ بِمَجْلِسٍ، ولا يتَلَطَّفُ لَهُ بِقَول. عُدِمَ المُرُوءَةَ بَلْ أَضَلَّ طَرِيْقَها. وتَنَكَّبَ الدَرْبَ القَوِيْمَ وهاما.
* فِي المَجَالِسِ وفي الاجْتِمَاعَات، وفي الأَعْرَاسِ وفي المُناسَباتِ تَعْرِفُ رَجاحَةَ القَومِ إِنْ عَرَفُوا لِلْكَبِيْرِ فيهم قَدْرَهُ، فَما أَخَّرُوه وما احْتَقَرُوهُ، وما تَقَدَّمُوا بَينَ يَدَيْهِ في مَقام إِكْرامٍ وما سَبَقُوه. لَمَّا قَدِمَ عَبْدُالرَّحْمنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وحُوَيِّصَةُ ابْنَا مسْعُودٍ رضي الله عنهم إِلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأَنِ عَبدِ اللهِ بنِ سَهْلٍ رضي الله عنه حِيْنَ قُتلَ في خَيٍبَر. فَذَهَبَ عَبْدُالرَّحْمنِ يَتَكَلَّمُ ــ وهُوَ أَحدَثُ الثلاثَةِ سِنّاً ــ فَقَالَ لَه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: (كَبِّرْ، كَبِّرْ) ــ أَيْ دَعِ الأَكبَرَ يَتَولى الحَدِيثَ ــ فَسَكَت عَبدُ الرحمنِ، فَتَكَلَّمَا..) متفقٌ عَلَيهِ دَرْسٌ نَبَوِيٌّ. يَحْفظُهُ مَن لَهُ في الشِّرِيْعَةِ فَقِهٌ، ويَعِيْهِ مَنْ لَهُ في المُروءَةِ قَدَمْ.
* وعِندَ أَبَوابِ المَساجِدِ تَتَجَلَّى صُوَراً مِن تَرْبِيَةٍ مُتَبايِنَة. طِفْلٌ يَسْبِقُ مَنْ يَكْبُرُه لَيْشْرِعَ أَمامَهُ البابَ باحتِرام. وطِفْلٌ يَسْبُقُ مَنْ يَكْبُرُهُ لَيمضِيْ أَمامَهُ دُونَ أَيِّ اهتِمام. وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا ** عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} بارك الله ولي ولكم..
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأَشْهَدُ أَن لا إِله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشهدُ أَن محمداً عبدهُ ورسولُهُ النبي الأَمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آلِهِ وأَصحابِه أجمعين. أَما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون.
أَيُّهَا المُسْلِمُوْن: حالُ الكَبِيْرِ بَعْدَ أَن حَلَّ بِهِ الضَّعْفُ ولَفَّه. حالٌ تَدْعُوا للرأَفَةِ والرِّفقِ والشَّفَقَة، يُدارى لَه الخَاطِرُ، ويُلانُ لَهُ الجَانِبُ، ويُخْفضُ لَه الجَناح، ويُعامَلُ بالإِحسان. قَالَ إِخوةُ يُوسُفَ حِينَ أَتَوا يُوسُفَ عليه السلامُ مُتَوَسِلين {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وقَالَتْ المَرْأَتانِ لِمَوسى عليه السلامُ حِيْنَ وَرَدَ مَاءَ مَدْيَن {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} فالكَبِيْرُ لَهُ في نُفُوسِ الشُرَفاءِ قَدْرٌ، ولَهُ في نُفوسِ النُجَباءِ تَوقِيْر.
الكَبِيْر لَه حَقٌّ يَرْتَقِي لِمقامِ عُمْرِه، ولَهُ رِعايَةٌ تُوازِيْ ضَعْفَ حالِه. لا يُغْفَلُ أَمْرُهُ ولا تُنْسَى حُقُوقُه، يُحْتَمَلُ مِنْهُ ما لا يُحْتَمَلُ مِنْ غَيْرِه، يُغْضَى عَنْ كَثِيْرٍ مِنْ عَثَرَاتِهِ، ويُتَجاوَزُ عَنْ كَثِيْرٍ مِنْ انْفِعالاتِه. فَمَنْ عَرَفَ للكَبِيْرِ قَدْرهُ، فَقَدْ ادَّخَرَ لِنَفْسِهِ قَدْراً سَيُعامَلُ بِمِثْلِهِ إِنْ امْتَدَّتْ بِهِ الأَعوام.
* ولَئِن كَانَ إِجلالُ الكَبِيْرِ مِنَ المُسْلِمينَ حَقٌّ وعِبادَة. فإِنَّ إِجلالَ الوالِدَينِ إِذا كَبُرا أَعظَمُ حَقٍّ وأَجَلُّ عِبادَةٍ. حَقُ الوالِدَينِ أَعظَمُ الحقوقِ بَعدَ حَقِّ اللهِ ورَسُولِه {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}
كِبَرُ الوالِدَينِ دَيْنٌ كَبِيْرٌ، وَوَفَاءُ الدَيْنِ يُعْيِي مَنْ خُذِلْ. والِدٌ ووالِدَةٌ أَصَابَهُما الكِبَرُ، قَدَّمَا في سالِفِ العُمُرِ مِن العَطاءِ ما أَفْنَيا بِهِ شَبابَهما، وأَوهَنَا بِهِ قُوَّتَهما. كَافَحَا وَبَذَلا، هّذَّبَا ورَبَّيا، ضَحَّيا وعِمِلَا، لَقِيَا مِنْ شِدَّةِ الحياةِ ما لَقِيا، وواجَها مِنْ آلامِها ما لاقَيا، حَتَى وَهَنَ مِنْهُما العَظْمُ، واشْتَعَلَ الرأَسُ شَيْباً. وحَطَّا في مَرْحَلَةِ الضَّعْفِ رِحالَهما. فالوَفاءُ مِن الوَلَدِ لوالِدَيْهِ سَعْيٌ مَبرورٌ وعَمَلُ مَشْكُورٌ. تُضاعَفُ لَهُ به الحَسَناتُ، وتُعَظَّمُ لَه بِهِ الأُجُور. {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}
وأَعظَمُ بِرٍّ يَقُومُ بِه الوَلَد. أَنْ يَكُونَ صَالحاً في دِيْنِهِ، كَرِيْماً في خُلُقِهِ، مُسْتَقِيْماً في هَدْيِهِ، رَفِيْقاً في كُلِّ شأَنِه. يَرَى الوالِدانِ مِنْهُ لِيْنَ جَانِبٍ، وحُسْنَ مَعْشَرٍ، وخَفْض جَناح. وتآلُفُ الأَولادِ وتَعاطُفُهُم. خُلُقٌ يُبْهِجُ قُلُوبَ الوالِدَيْنِ.
وما اكتَوَى كَبِيْرٌ بأَلَمٍ كما يَكتَوِيْ والِدٌ كَبِيْرٌ يَرى بينَ أَولادِهِ قَطِيْعَةً وشِقاقاً
أَبَنِيَّ إِنِّي قد كَبِرْتُ وَرَابَنِي ** بَصَرِي وَفِيَّ لِمُصْلِحٍ مُسْتَمْتَعُ
أُوصِيكُمُ بِتُقَى الإِلَهِ فَإِنَّهُ ** يُعْطِي الرَّغائِبَ مَنْ يَشَاءُ ويَمْنَعُ
وبِبِرِّ وَالِدِكُمْ وَطَاعَةِ أَمرِهِ ** إِنَّ الأَبَرَّ مِنَ البَنِينَ الأَطْوَعُ
إِنَّ الكَبِيرَ إِذا عَصَاهُ أَهْلُهُ ** ضَاقَتْ يَدَاهُ بأَمرِهِ ما يَصْنَعُ
اللهم..
المرفقات
1728543103_تَوْقِيْرُ الكَبِيْر.docx