توقير الكبير
هلال الهاجري
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أَمَا بَعْدُ:
أتعلمونَ لماذا توسَّلَ زكريا عليهِ السَّلامُ بِكِبَرِ سِنِّهِ عندما أرادَ الولدَ، وكَانَ قد بلغَ من الكِبَرِ عِتيَّاً، وامرأتُهُ عاقرٌ لا تَصلحُ للوِلادةِ، حِينَ: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)؟، ذلكَ لأنَّ الطَّلبَ يُشبُهُ الخَيالَ والمُستحيلَ، فيَحتاجُ أن يتَوسَّلَ بشيءٍ إلى اللهِ جَليلٌ، فذكرَ قبلَ دُعائهِ أنَّه قد وَهنَ عظمُهُ في عبادتِه، وشَابَ رأسُه في طاعتِه، ومن كانَ كذلكَ فهو عندَ اللهِ حبيبٌ، وإجابةُ دُعائهِ من اللهِ قَريبٌ، وهكذا كِبارُ السِّنِّ في الإسلامِ، هم خيرُ الأنامِ، بشهادةِ رسولِ الإسلامِ، عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فعِندما سُئلَ: أيُّ النَّاسِ خيرٌ؟، قالَ: (مَن طالَ عُمرُهُ، وحَسنَ عَملُهُ).
إنَّهم الفئةُ العزيزةُ الغاليةُ، التي لها المكانةُ العاليةُ، هم في البُيوتِ مصدرُ السَّعادةِ والسُّرورِ، وهم في العوائلِ أعمدةُ الحِكمةِ والنُّورِ، قد ذَهبَتْ قُوَّتُهم، وجاءَ ضَعفُهم وشَيبَتُهم، كما قالَ تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)، فكَم من نَصرٍ ورِزقٍ جاءَ من دُعائهم وصلاتِهم، كما في الحديثِ: (هلْ تُنْصَرونَ وَتُرْزَقُونَ إلا بضعفائِكمْ؟، بدعوتِهم وإخلاصِهم).
قد شابتْ رؤوسُهم من تَجاربِ الزَّمنِ وشَريطِ الذِّكرياتِ، وتوقَّدِتْ عقولُهم من مواقفِ ومواعظِ مَدرسةِ الحياةِ، إذا تكلَّمَ سَمِعتَ في حديثِه التَّاريخَ والحَوادثَ والخَبَرَ، وإذا سكتَ رأيتَ على وجهِه الأسرارَ والعِبرَ، فإذا كُنتَ عِندَهم فاصمُتْ، وإذا تَكلموا فأنصِتْ، وأطفئ جوالَكَ، وأجِّلْ أشغالَك، فذلكَ من توقيرِهم الذي هو من تَعظيمِ اللهِ تعالى، كما قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إنَّ من إجلالِ اللَّهِ -أيْ: تَبجيلِهِ وتَعظيمِهِ- إِكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلمِ)، وذلكَ بالتَّوقيرِ والاحترامِ، وإنزالِه شَريفَ المَقامِ.
اسمعوا إلى وصيةِ اللهِ تعالى بعدَما أوصانا بأعظمِ وصيةٍ، وهي عبادتُه وحدَه لا شَريكَ له، ماذا قالَ بَعدَها؟: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، فأوصى بِهما إذا بَلَغا الكِبرَ، أتعلمونَ لماذا؟، لأنَّ كبيرَ السِّنِّ يَلتفتُ فلا يَرى الأحبابَ، ويُنادي فلا يُجيبُ الأصحابُ، قد ذهبَ الأهلُ والأصدقاءُ، وقد ماتَ العَشيرُ والجُلساءُ، فعِندَها يَحزنُ القَلبُ ويضيقُ الصَّدرُ، ويحتاجونَ إلى مُعاملةِ الإحسانِ والصَّبرِ، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
والكبيرُ هو الذي له الحقُّ في أن يُوصلَ ويُزارَ، ويجتمعُ عندَه في المنزلِ الكِبارُ والصِّغارُ، فعِندَما دَخلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَاتحاً مُنتصِراً، فإذا بأَبي بَكْرٍ رضيَ اللهُ عَنهُ آخِذًا بَيَدِ أبيهِ أَبِي قُحَافَةَ، ذلكَ الشيخُ الكَبِيرُ، يَسُوقُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلمَّا رَآهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لَهُ مُعاتِباً: (أَلَا تَرَكْتَهُ حَتَّى نَكُونَ نَحْنُ الَّذِي نَأْتِيهِ)، هكذا كانتْ أخلاقُ إمامِ المتَّقينَ، وخاتمِ النَّبيينَ، مع الكِبارِ والمُسنينَ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَا بَعْدُ:
البُيُوتُ التي فِيهَا كَبيرُ السِّنِّ، بُيُوتٌ يَكسُوهَا الوَقَارُ، وتَشِّعُ فِي أَرجَائهَا الأَنوارُ، كَم فِيهَا مِن ذِكرٍ ودُعَاءٍ، وكَم فيهَا مِن بَركَةٍ وعَطَاءٍ، فَاملؤوا حَيَاتَهُ بالسَّعَادةِ والسُّرورِ، والبَهجَةِ والحُبُورِ، ولا يُتركُ في آخرِ عُمرِه حبيسَ الجُدرانِ، وَلا يُهمَلُ وَحيداً أسيراً للأحزانِ، فهل هذا هو البِّرُّ والإحسانُ؟، وهل هذهِ وصيةُ العزيزِ الرَّحمنِ؟، التي خلَّدَها على مَرِّ الدُّهورِ قُرآناً، (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا).
بل يَتأكدُ الاحترامُ والتَّوقيرُ، عِندَما يَضعُفُ الكبيرُ، فيَخونُه البصرُ، ويغدُرُ بهِ السَّمعُ، وتَتنكَّرُ له الذَّاكرةُ، كما قالَ تعالى: (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً)، فعِندَها لا يَحسنُ أن يُختَبروا في ذاكرتِهم، حتى لا يُحرَجوا، فلا يُقالُ لهم: هل تعرفونَ هذا الإنسانَ؟، أو هل تَذكرونَ ذاكَ الزَّمانَ؟، فتَضيقُ صُدورُهم بالنِّسيانِ، بل ينبغي حِينَها أن نُبادرَ بِالتَّعريفِ بأسمائنا، وأن نُسعِدَهم بأخبارِنا وأخبارِ أبنائنا، فإن أصبحوا لا يستطيعونَ التَّعرَّفَ علينا، فنحنُ لا نزالُ نذكرُهم ونَعرفُ حقَّهم علينا.
أيَّها الأحبَّةُ .. ألمْ يَأتِ وقتُ ردِّ الجميلِ، قَبلَ أن يُبادِرَ موعدُ الرَّحيلِ، هل نَسينا سَهرَ اللَّيالي، هل غَفلنا عن الأيامِ الخوالي، فقد كانتْ سعادةُ الأمَّهاتِ في رؤيةِ تِلكَ البَسَماتِ، وكانتْ فرحةُ الآباءِ في البَذلِ والعطاءِ، فمتى عسى أن نوفيَهم بَعضَ حقِّهم وشُكرِهم، وكلُ ما نَنعمُ بهِ اليومَ من تَضحيةِ عُمرِهم، فكما أَكرَمونا صِغاراً، فيَنبغي أَن نُحسِنَ إليهم كِباراً، فَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ.
اللهمَّ اجزِ وَالدينا عَنا خَيرَ الجَزاءِ، اللهمَّ ارحمهُما كَما رَبُّونا صِغَاراً، اللهمَّ نَسألُكَ أن تُباركَ في كِبارِ السِّنِّ، وأن تُعْليَ قَدرَهم، وأن تَرزقنا بِرَّهم والإحسانَ إليهم، اللهمَّ اجعلنا ممنْ طَالَ عُمرُه وحَسنَ عَملُه، اللهمَّ آمنا في دورِنا وأصلح أئمَتنا وولاةَ أُمورِنا، اللهمَّ اغفر للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حَسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عَذابَ النَّارِ.
المرفقات
1728498657_توقير الكبير.docx
1728498686_توقير الكبير.pdf