توديع عام واستقبال العام الجديد - خطبة للشيخ عبدالعزيز الراجحي
محمد بن عبدالله التميمي
توديع عام واستقبال العام الجديد
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، أحمده سبحانه جعل في تعاقب الليل والنهار عبرة لأولي الأبصار، وجعل الشمس ضياءاً والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، منه المبتدئ وإليه المنتهى والمآب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل من تعبد لله وأناب صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
أيها الناس يقول الله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} يبين الله سبحانه وتعالى أنه جعل الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، وأن في ذلك العبرة لمن أراد التذكر وأراد شكر الله عز وجل، وأن يقضي عمل الليل إذا فات بالنهار، وأن يقضي عمل النهار إذا فات بالليل، فله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى .
فاتقوا الله عباد الله وتبصروا في هذه الأيام والليالي فإنها مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة حتى تنتهي إلى أخر سفرنا، وكل يوم يمر بنا فإنه يبعدنا من الدنيا ويقربنا من الآخرة .
إخواني ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها وفي ذلك أعظم الاعتبار، فإن طلوعها ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار وإنما هي طلوع ثم غيوب وزوال، ألم تروا إلى هذه الشهور تهل فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال ثم تنمو رويدا رويدا كما تنمو الأجسام حتى إذا تكامل نموها أخذت في النقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان سواء {فاعتبروا يا أولي الأبصار} ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عاماً بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد ثم تمر به الأيام سراعاً فينصرم العام كلمح البصر فإذا هو في أخر العام وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد فإذا به قد هجم عليه الموت يؤمل الإنسان بطول العمر ويتسلى بالأماني فإذا بحبل الأماني قد انصرم وببناء الأماني قد انهدم.
أيها المسلمون إننا في هذه الأيام نودع عاماً ماضياً شهيدا، ونستقبل عاماً مقبلاً جديدا، فليت شعري ماذا أودعنا في العام الماضي، وماذا نستقبل به العام الجديد، ليحاسب العاقل نفسه ولينظر في أمره، فإن كان قد فرط في شيء من الواجبات فليتب إلى الله وليتدارك ما فات، وإن كان ظالماً لنفسه بفعل المعاصي والمحرمات والمخالفات فليقلع عنها قبل حلول الأجل وقبل فوات الآوان، وإن كان ممن من الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات عليها إلى الممات.
فاتقوا الله يا عباد الله وخذوا من تجاربكم ، وتصرم الأيام والأعوام عبرة درساً يذكركم بإن لكل شيء ما عدا الله سبحانه وتعالى بداية ونهاية، فهذه الجمعة هي أخر جمعة في هذا العام الهجري، وغداً سيطوى سجله ويختم عمله ،فليقف كل منا مع نفسه وقفة قصيرة محاسباً لها، ماذا أسلفت في عامها الماضي، فإن يكن خيراً ازداد ولا شيء خير من الخير إلا ثوابه ،وإن كان غير ذلك أقلع وأناب فلا شي شر من الشر إلا عقابه، وإنما تمحى السيئة بالحسنة، ليقف كلٌ منا مع نفسه هنيهة من الزمن ، ليسألها عن موقفها من فريضة الصلاة، وماذا عملت في أداء الزكاة ،وأين هي من المحافظة على حقوق الناس ومن تمسكها بالصدق والوفاء وكريم الأخلاق ونبيل الفعال، ليسألها عن شعورها عند ذكر الكبير المتعال، ليسألها عن كسبها الحسي والمعنوي أهو حرام خبيث أم هو مما أحل الله من الطيبات.
عباد الله حاسبوا أنفسكم، ليحاسب كل منا نفسه فنحن اليوم أقدر على العلاج منا غدا، وما ندري ما يأتي به الغد، حاسبوها فنعم الختام لعامنا بالحساب الدقيق، والتوبة النصوح، والعزم الصادق، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
إخواني ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي.
وليست التوبة مجرد قول باللسان من غير تخلي عن المعاصي والذنوب، إنما الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وإنما التوبة الصادقة ندم على ما مضى من الذنوب وإقلاع عن المعاصي والعيوب والسيئات وإنابة إلى الله بإصلاح العمل، ومراقبة لله سبحانه وتعالى علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية، فحققوا الإيمان بالتوبة فإنكم في زمن الإمكان.
أيها المسلمون غداً سوف يشع فجر عام هجري جديد، تستفتح فيه صفحات بيضاء من صفحات الحياة، لا يدري أحد ماذا سيسطر فيها إلا الله، فطوبى لعبد اغتنم فرص هذه الأيام بما يقربه إلى مولاه .
طوبى لعبد شغلها بالطاعات وتجنب المعاصي، طوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال.
طوبى لعبد استدل بتقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لإولي الأبصار.
وعظ النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال: "اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" .
وبيان ذلك أن في الشباب قوة وعزيمة، فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة، وفترت العزيمة، وفي الصحة نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه، وضاقت نفسه، وثقلت عليه الأعمال وفي الغنى راحة وفراغ فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب المعيشة لنفسه ولعياله، وفي الفراغ استعداد للعمل وقدرة عليه، فإذا اشتغل الإنسان لم يتمكن من العمل ولم يتهيأ له، وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال، فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان.
فاتقوا الله أيها المسلمون فيما تستقبلونه من صفحات بيض لا تلوثوها بالشر ولا تودعوها إلا خيرا.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال في خطبته: "أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم إن المؤمن بين مخافتين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الممات" وجاء في الأثر أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: "إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا".
عباد الله اعتبروا ما بقي من أعمالكم بما مضى منها، واعلموا أن كل آت قريب، وأن كل موجود منكم زائل فابتدروا الأعمال، وخير ما أحثكم عليه وأوصيكم به ونفسي تقوى الله تعالى، وتذكر ما أسلفنا تذكراً يدعونا إلى التوبة من قبيح الفعال، والإنابة الصادقة إلى ذي العزة والجلال، يقول الله جل شأنه: {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة او مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون}، ويقول سبحانه : {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون} .
اللهم اختم لنا بالصالحات، وأعذنا من الشك والشرك والشقاق والنفاق والطغيان، وهب لنا الخير والسعادة والأمان وأعذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن اللهم بارك لنا في القرآن وأنفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ووفقنا للعمل الصالح والتوبة النصوح، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فتوبوا إليه واستغفروه يتب عليكم ويغفر لكم إنه هو التواب الرحيم الغفور.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، سبحانه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأعوانه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي والمخالفات، فإن أجسامكم على النار لا تقوى، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا ،وتأهبوا للعرض الأكبر على الله { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} حاسبوا أنفسكم فنعم الحساب فنعم الحساب فإنه يدعو إلى إصلاح ما فسد من النفس، ويدعو إلى تدارك ما فرط منها، حاسبوا أنفسكم لتعلموا مدى ربحكم وخسارتكم ،وإذا كان أصحاب الأعمال التجارية يضعون حساباً لأموالهم يعرفون من خلاله ربحهم وخسارتهم كل عام مالي ويضعون ميزانية لهم في كل عام مالي يعرفون به ربحهم من خسارتهم، فجدير بالمسلم أن يحاسب نفسه في كل يوم في كل عام وفي كل شهر وفي كل عام في أخر كل عام وفي أخر كل شهر وفي أخر كل يوم وفي كل يوم وليلة، جدير بالمسلم أن يحاسب نفسه وأن يجدد توبة نصوحاً، وأن يكون على استعداد دائم للقاء ربه عز وجل، هكذا المسلم الحازم اللبيب الذي يرجو فكاك نفسه وسلامتها من عذاب الله ،هو الذي يحاسب نفسه في كل يوم وفي كل عام وفي كل شهر، يجدد توبة نصوحاً يحاسب نفسه في أدائه للصلاة هل أداها كما أمر الله وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم هل أداها عن إخلاص هل أداها عن متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل أداها عن خشوع، يحاسب نفسه هل أدى زكاة ماله طيبة بها نفسه يحاسب نفسه، هل أدى صيام رمضان كما أمر الله، يحاسب نفسه هل أدى حج بيت الله الحرام كما أمره الله، هل بر والديه كما أمره الله، هل وصل رحمه كما أمره الله، هل أدى الأمانات والواجبات التي أوجبها الله عليه كما أمر الله، يحاسب الإنسان نفسه هكذا.
المحاسبة التي يحاسب الإنسان بها نفسه في هذه الدنيا يخف عليه الحساب يوم القيامة، ومن لم يحاسب نفسه في هذه الدنيا، فإنه يحاسب يوم القيامة، والله تعالى قائم على كل نفس بما كسبت، والله رقيب، وليس بغافل سبحانه وتعالى، وللإنسان موقف بين يدي الله عز وجل في هذه الدنيا حينما يقف بين يديه للصلاة، وموقف يقفه بين يديه يوم القيامة فمن أحسن في هذا الموقف في موقفه في عبادات ربه وفي وقوفه بين يديه للصلاة فمن أحسن خفف عليه ذلك الموقف، ومن أساء في هذا الموقف شدد عليه في ذلك الموقف، فعلينا أن نحاسب أنفسنا وعلينا أن نجدد توبة نصوح وأن نؤدي ما أوجب الله علينا.
والتوبة النصوح ليست كلمة يقولها الإنسان بلسانه، ولكن التوبة: هي إقلاع عن المعاصي وترك وتخلي عن المعاصي الذي يكون الإنسان متلبساً بها، إن كان متلبساً بالتعامل بالربا يتخلى عن تعامل الربا، إن كان متلبساً بإضاعة الصلاة يتخلى عن إضاعة الصلاة ويحافظ عليها، إن كان متلبساً بعقوق الوالدين يتخلى عن عقوق الوالدين ويبر والديه، إن كان متلبساً بأكل الرشوة يتخلى عن أكل الرشوة، وهكذا يتخلى عن المعاصي ليس هناك توبة إلا بالتخلي.
أما أن يدعي التوبة وهو مقيم على المعاصي مصر عليها فليست هذه توبة، لابد من التخلي عن المعاصي التي كنت متلبس بها لابد أن تتخلى عنها وتبتعد عنها جانباً وتتخلى عنها وتبتعد عنها.
ثم شرط أخر وهو ندم على ما مضى وتأسف وتحسر حتى لا يكون الإنسان مستمرياً للمعصية، ثم عزم صادق جازم على عدم العودة إليها ثم رد للمظالم إذا كانت بينك وبين الناس.
إذا كانت مظالم تتعلق بأبدان الناس وأبشارهم وأجسامهم تسلم نفسك لهم حتى يقتصوا منك أو تصطلح معهم على مال أو يسمحوا لك، إن كان مالاً تؤدي حقوق الناس المالية، إن كان عرضاً تتحلله منها أو تدعو لهم بظهر الغيب إذا لم تتمكن.
فعلينا أن نجدد توبة نصوح في كل وقت ولاسيما في أخر كل عام هجري وفي أخر كل شهر وفي أخر كل يوم وفي أخر كل ليلة، علينا أن نجدد التوبة النصوح في كل وقت وفي كل زمان وفي كل وقت.
توبة الله على عباده هي الفريضة الواجبة على كل إنسان في كل وقت فرضها الله تعالى على الجميع، قال الله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}، وقال عليه الصلاة والسلام : "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، وقال تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً}
اسأل الله أن يوفقني وإياكم للتوبة النصوح والعمل الصالح، وأن يوفقنا للعمل الصالح الذي يرضيه، وأن يوفقنا لأداء ما أوجب الله علينا وترك ما حرم الله علينا وأن يوفقنا للخير للازدياد من الخير من الأعمال الخيرية والتنافس في الأعمال الصالحات، وأن يوفقنا لتلاوة القرآن بتدبر وخشوع وخضوع ورغبة.
وأحسن الحديث وأحسن الكلام كلام الله عز وجل وشر الأمور محدثاتها، فعلينا أن نتلو كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نتلوهما ونتعلم معانيهما ونتفقه في أحكامهما، وذلك أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، والزموا جماعة المسلمين الزموا جماعة المسلمين في معتقداتهم، وفي عباداتهم، وفي بلدانهم وأوطانهم، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ عنهم في الدنيا شذ في النار يوم القيامة.
ألا وصلوا على محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أمركم بذلك حيث قال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} وقد قال عليه الصلاة والسلام (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا)
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
المرفقات
الشيخ-عبدالعزيز-الراجحي-توديع-عام-واس
الشيخ-عبدالعزيز-الراجحي-توديع-عام-واس