تنبيه الجماعة والفرد بأحكام الشتاء والبرد
خالد علي أبا الخيل
1437/03/04 - 2015/12/15 08:45AM
تنبيه الجماعة والفرد بأحكام الشتاء والبرد
التاريخ: الجمعة: 29/ 2 /1437 هـ
الحمد لله مصرف الشهور والأعوام، ومدبر الليالي والأيام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له على الدوام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بيّن لأمته الشتاء وما فيه من الأحكام، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، لا سيما الخلفاء الأربعة: الصديق، والفاروق، وذو النورين، وعلي، ما تلاحم الغمام، وغرد الحمام.
أما بعد،.
عباد الله: اتقوا من أُمرتم بتقواه، ومن هو أهل التقوى والمغفرة، جل في علاه.
عباد الله: في هذه الدقائق المعدودة، وهذه اللحظات المحسوبة، نأخذ بعض الوقفات الماسة، من المسائل الشتوية الهامة، ونحن نعيش في هذه الأيام البرد القارص، والشتاء الضارس، ونُحس بنفثات برده، ونستنشق نسمات هوائه، إن الله عز وجل سبحانه وبحمده، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الأَبْصَارِ) (النور: 44)، فهذا فصلٌ للصيف، وذاك فصلٌ للشتاء، وذاك للربيع، ورابع للربيع.
ومن حكمة الله: اختلاف الأحوال، والتدرج في دخول المواسم على التوال، فصيف، ثم خريف، ثم شتاء، ثم ربيع، ونأخذ من ذلك العبر والتفكر في آيات الله ومخلوقاته، وكذا سرعة مرور الأيام وانقضائها وانطوائها، وأن الدنيا لا تدوم على حال، ودوام الحال من المحال، وتذكروا لو كان الزمان كله صيفًا، أو كان شتاء، فهل تستقر الحال وتدوم؟ وتصلح الحال على ما يرام وما يروم؟ وهل يزاول المرء الأعمال؟ ويمارس أحواله بانسجام واعتداله؟ فالحمد لله الملك العلام، الكبير المتعال.
إن مما يشعر به الناس من البرد القارص، باختلاف مناطقهم ومناخهم، وهو نفس من أنفاس جهنم، ففي الصحيحين: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب: أكل بعضي بعضًا. فجعل لها نفسين –وفي رواية: أذن لها بنفسين- نفس في الشتاء، ونفس في الصيام، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها)، فالنار تنطق نطقًا حقيقيًا، وتخاطب رب العزة حقًا وصدقًا، فكلما اشتد البرد وهبوب الرياح الباردة، تذكروا أن ذلك من نفس جهنم، أعاذني الله وإياكم من عذاب جهنم.
والمرء –عباد الله- لا يتحمل بردًا ولا حرًا، فهو مخلوق ضعيف، فعند أحمد: عن خولة بنت قيس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ابن آدم إن أصابه البرد قال: حس. وإن أصابه الحر قال: حس)، (وخُلق الإنسان ضعيفًا)، فتذكر ضعفك أمام خالقك ورازقك، وإياك أن تعصي القوي المتين، وأنت مخلوق من ماء مهين.
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل
نعيمك في الدنيا غرور وحسرة
***
*** وجاء رسول الموت والقلب غافل
وعيشك في الدنيا محال وباطل
والبرد يذكر بالله وعظمته، فذات مرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الشتاء، فجعل الورق يتهافت، فقال: (يا أبا ذر)، قلت: لبيك يا رسول الله. قال: (إن العبد ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله، فتهافت عنه ذنوبه، كما يتهافت هذا الورق على هذه الشجرة)، رواه أحمد.
وتذكر وأنت تنعم باللباس الدافي، والمسكن الهادي، واللحاف الهاني، فاحمده أولًا وآخرًا على ما يسر وسهل، واشكره على ما أنعم وأفضل، وتذكر ثانيًا إخوانًا لك، لا يجدون لباسًا، ولا يرتدون لحافًا، ولا يلبسون كساء، برد قارص، وليل مظلم دامس، وأنت تفصّل ما شئت من الثياب، وتملك من اللحاف والوقاية ووسائل التدفية، فانظر إلى إخوانك الفقراء والمحتاجين، والمساكين والمعوزين، لا سيما الأقربين، فهم أولى بالتفقد والعطاء المتين، وعند الترمذي: (ومن كساه على عري كساه الله من خضر الجنة).
خرج صفوان بن سُليم في ليلة باردة بالمدينة، فرأى رجلًا عاريًا، فنزع ثوبه وكساه إياه، فرأى بعض أهل الشام في المنام أن صفوان بن سُليم دخل الجنة بقميص كساه، فقدم المدينة وقال: دلوني على صفوان. فقص عليه ما رأى.
ورأى مِسعر أعرابيًا يتشرق في الشمس وهو يقول:
جاء الشتاء وليس عندي درهم
قد قطع الناس الجباب وغيرها
***
*** ولقد يُخص بمثل ذاك المجرم
وكأني بفناء مكة محرم
فنزع مسعر جبته فألبسه إياها.
ورُفع إلى بعض الوزراء الصالحين أن امرأة معها أربعة أطفال، أيتام، وهم عراة جياع، فأمر رجلًا أن يمضي إليهم ويعطيهم ما يصلحهم من كسوة وطعام، ثم نزع ثيابه، وحلف: لا لبستها ولا دفيت، حتى تعود وتخبرني أنك كسوتهم، وأشبعتهم. فمضى وعاد وأخبره، وهو يرعد من البرد، فلبس حينئذ ثيابه.
وعلينا –معشر المسلمين- بوصية عمر الشتوية، فقد كان إذا حضر الشتاء، كتب إلى الجند بالوصية: أن الشتاء قد حضر، وهو عدو، فتأهبوا له أهبته، من الصوف والجوارب والخفاف، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا، فإن البرد عدو سريع دخوله، بعيد خروجه.
فعلينا أخذ الحذر والحيطة، والوقاية خير من العلاج.
ومن القواعد المقررة: أن الرفع أسهل من الدفع، فدفع البرد باللباس واللحاف والخفاف، أسهل من رفعه بعد دخوله والتفاف.
وفي الشتاء نتذكر أن إسباغ الوضوء على المكاره سبب لتكفير السيئات، ورفع الدرجات، كما في مسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟)، قالوا: بلى. قال: (إسباغ الوضوء على المكاره).
هذا: ومن الأحكام، فاستمعوا إليها بتعقل وإلمام:
من الرخص الشتوية: ما يتعلق في الخفاف والجوارب، فاسمعوا يا رعاكم الله، وانتبهوا وفقكم الله، رؤوس أقلام، وشيء من الأحكام:
أن المسح رخصة للمقيم، يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، وأن الواجب إدخال القدمين على طهارة كاملة، وتبدأ مدة المسح عليها من أول مسح، فإذا لبس الخف الفجر ومسح عليها عند صلاة الظهر، فابتداؤه من المسح عند صلاة الظهر، ومن تمت مدة مسحه وأحدث، فلا يجوز له المسح، ولو مسح أعاد الوضوء والصلاة، ومن تمت مدة مسحه ولم يُحدث فله أن يُصلي بالوضوء الأخير ما شاء حتى يُحدث، وللمرء أن يمسح على الكنادر شريطة ألا يخلعها من قدميه، ويمسح أعلى الخف دون عقبه، أو أسفله، فلا يمسحهما، ومن لبس خفًا ثم أضاف إليه آخر قبل أن يمسح على الأول فله المسح عليه[ ]، وإذا لبس خفًا ثم أحدث، ثم لبس آخر، فالحكم للأول، ولا يمسح إلا في حدث أصغر، وأما الحدث الأكبر كالجنابة فيجب خلعه، ويجوز المسح على الخف المخرق المشقوق اليسير، ما دام اسم الخلف به عالقًا.
ومن الجمال والكمال: تجديد الخفاف، دفعًا للروائح، وحفاظًا على النقاء والروائح.
وكذا مما ينبغي أن يُعلم: أنه يُلاحظ على بعض الناس ممن عليه فانلة ذات أكمام، أو كوت، أو كم سخيف ضيق أنهم لا يستوعبون غسل اليد كلها، فيتركون المرفق وما حوله، إما لضيق الأكمام، أو لكثرة اللباس، أو لثقلها، والواجب استيعاب اليد بالغسل، من رؤوس الأصابع إلى المرافق، ولا بأس بتسخين الماء واستعمال السخانات، ليؤدي المرء عبادة ربه، على أحسن حال.
واجتنبوا –بارك الله فيكم-: اللثام على الفم والأنف، حال الصلاة، فبعض الناس يغطي وجهه، أو نصفه، أو فمه، وهذا من مكروهات الصلاة.
ولا بأس –إخوة الإسلام-: بلبس القفازين، وهما شراب اليدين، في الصلاة عند الحاجة، ولا تعتبر حائلًا بين المصلى والمصلي.
ومن الأحكام –إخوة الإسلام-: جواز الجمع بين الصلاتين إذا دعت الحاجة والمصلحة المحققة، كالبرد القارص الشديد، أو هبوب الرياح الشديدة، أو هطول الأمطار الغزيرة، أو وجود الثلوج الباردة.
ومن الأحكام –أمة سيد الأنام-: جواز التيمم عند عدم الماء، أو التضرر من استعماله مع وجوده، فيضرب المرء يديه بالأرض ضربة واحدة، يمسح بهما وجهه، وظاهر كفيه، على تراب طاهر، أو صعيد من الأرض.
ومن المسائل: أنه يجوز الاستجمار بالأحجار، ونحوها كالمناديل والخرق، مع وجود الماء، فيستجمر بثلاثة أحجار، ويقطع على وتر، ثلاثًا أو خمسًا، ويستجمر حتى يُنقي المحل من الأثر.
ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، لا سيما صلاة الفجر، كأن يكون عليه جنابة، أو احتلام، أو يخشى مفارقة الفراش الدافئ، ويكره القيام لأجل البرد، فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، بحال من الأحوال.
ومن المسائل الشتوية –جعلني الله وإياكم من خير البرية-: أن الفريضة لا يجوز فعلها على الراحلة، إلا إذا خشي خروج الوقت، ولا يستطيع النزول، كأن يكون على طائرة، أو أمطار، أو وحل في الأرض.
ويجوز الجماع في ليالي الشتاء، حتى ولو كان الإنسان ليس عنده ماء، أو يتعذر استعماله، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية.
ومما يجدر التنبيه عليه: أخذ الحذر والحيطة عند ترك المدافئ، والمواد الكهربائية، أو النارية، مشتعلة مشتغلة، حال النوم، أو بُعد الرقيب، أو وضعها عند الأبناء الصغار، أو الغفلة عنها، لما في ذلك من الخطر والاحتراق، والتلف والاختناق، ففي الصحيحين: (إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها)، وفي رواية: (لا تتركوا النار في بيوتكم)، وكذا مثله: ترك الجمر في مكان مغلق، لا توجد فيه تهوية، فعواقبه سيئة.
ومن كان عليه غسل وشق عليه استعمال الماء، جاز له التيمم.
ومما يُرشد إليه الأطباء: كثرة شرب الماء، لا سيما في الشتاء، دفعًا للضرر والبلاء.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأصدق القائلين.
ومن تلكم الوصايا والإشارات، والتذكير والتنبيهات: تفقد المحتاجين، لا سيما العمال والخدم والسائقين، دفئوا صبيانكم، وكبار سنكم، فالدفع أسهل من الرفع، وليكن لك نصيب من المساهمة والصدقة، والملابس الشتوية الخارجية والداخلية، كالجوارب والخفاف، على من تراه محتاجًا متألمًا، وأنت في طريقك أو نزهتك.
احذر الخروج من المنازل الدافئة إلى الأماكن الباردة مباشرة، بلا حذر وحيطة، وغطاء وكسوة.
ومما يُذكر فيشهر، ويُعلم فيُظهر: ما نراه ونشاهده في صلاة الفجر، في هذه الأيام البادرة الشديدة، والقيام من الفرش الوطيئة، وإيقاظ الصغار لهذه الفريضة، ومفارقة الأماكن الدافئة، إيقاظ الآباء والأمهات لأبنائهم، فرحمتهم والشفقة عليهم هو تربيتهم وتعليمهم، إن هذا –أيها الإخوة- لأكبر دليل على إيمان العبد بربه، ويقينه بوعده، (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة)، فشكرًا لهؤلاء الآباء وتلك الأمهات على البر والوفاء، وعلى من تقاعس وتكاسل أن يتقي الله في نفسه، وفي أولاده وذريته.
وثم تنبيه: هل تذكرت نعمة المأوى، والسكن، واللباس؟ هل تذكرت وأنت عائد إلى بيتك كم ممن يبيتون في العراء، في الليلة الباردة الظلماء؟ هل تذكرت وأنت تلبس من الثياب وتعدد، وألوان الكساء وتحدد، من يتسلل البرد إلى أجسادهم النحيلة، وينخر البرد إلى عظامهم الهزيلة، فشكرت الله؟ هلا إذا وضعت جنبك على فراشك الدافئ، وغطائك الهادئ عرفت هذه النعمة، وتذكرت من يلتحف السماء، ويطرده الجوع والظمأ، ولهذا يعلنها مدوية المصطفى، فكان إذا آوى إلى فراشه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)، رواه الترمذي وصححه، وفي سورة النعم يذكر عباده فيقول سبحانه: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (النحل: 81): أي جعل قُمُصًا من الكتاب، والقز، والقطن، والصوف، تمنعكم وتحفظكم، وجعل سرابيل وهي الدروع، تقيكم حروبكم، وسرابيل تقيكم البرد الشديد، فتتخذون منها لباسًا يمنعكم ويحفظكم، فالحمد لله، فالحمد لله، لا نحصي ثناء عليه.
ويجب التحذير والتنبيه من نفحات البرد، فانظر إلى عمر كيف حذر أهل الشام من البرد؟ فكيف لو رأى عمر حالهم في هذا الزمان، في وقت تسلط الأعداء، وأنواع البلاء، من التشريد والقتل والبرد القارص، وقلة الكساء والملابس، فرحماك ربنا بهم رحماك، فرحماك ربنا بهم رحماك، وكذا اللاجئين والمستضعفين، واليتامى والمرشدين.
وليل صقيع زمهرير رياحه
لها صبية جوعى البطون يتيمة
من الجوع والإملاق والبرد والضنا
إلهي: أغثهم واكشف البرد وانتصر
***
***
***
*** خلال الخيام الباليات صوافر
وأرملة حيرى لها الجفن ساهر
مصائب تُنسي الأولات الأواخر
لهم أنت للمظلوم يا رب ناصر
فتذكروا إخوانكم الضعفاء في البرد القارص، واليوم الشاتي، وساهموا في عونهم ودعمهم، وإطعامهم وكسوتهم، (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فالصدقة عند الحاجة والمجاعة تفضل عليها في تلك الحالة.
أيها المسلمون: المرء لا يتحمل في هذه الحياة حالة من الحالات، فالمرض يمرضنا ويؤلمنا، والحر يؤذينا ويؤزمنا، فلنتذكر حالنا بعد موتنا، ونستعد لما أمامنا، فما أجمل صفات جنة ربنا: (لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا)، فهي الراحة، والأنس والسعادة، ولا برودة ولا حرارة.
والله أعلم.
التاريخ: الجمعة: 29/ 2 /1437 هـ
الحمد لله مصرف الشهور والأعوام، ومدبر الليالي والأيام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له على الدوام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بيّن لأمته الشتاء وما فيه من الأحكام، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، لا سيما الخلفاء الأربعة: الصديق، والفاروق، وذو النورين، وعلي، ما تلاحم الغمام، وغرد الحمام.
أما بعد،.
عباد الله: اتقوا من أُمرتم بتقواه، ومن هو أهل التقوى والمغفرة، جل في علاه.
عباد الله: في هذه الدقائق المعدودة، وهذه اللحظات المحسوبة، نأخذ بعض الوقفات الماسة، من المسائل الشتوية الهامة، ونحن نعيش في هذه الأيام البرد القارص، والشتاء الضارس، ونُحس بنفثات برده، ونستنشق نسمات هوائه، إن الله عز وجل سبحانه وبحمده، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الأَبْصَارِ) (النور: 44)، فهذا فصلٌ للصيف، وذاك فصلٌ للشتاء، وذاك للربيع، ورابع للربيع.
ومن حكمة الله: اختلاف الأحوال، والتدرج في دخول المواسم على التوال، فصيف، ثم خريف، ثم شتاء، ثم ربيع، ونأخذ من ذلك العبر والتفكر في آيات الله ومخلوقاته، وكذا سرعة مرور الأيام وانقضائها وانطوائها، وأن الدنيا لا تدوم على حال، ودوام الحال من المحال، وتذكروا لو كان الزمان كله صيفًا، أو كان شتاء، فهل تستقر الحال وتدوم؟ وتصلح الحال على ما يرام وما يروم؟ وهل يزاول المرء الأعمال؟ ويمارس أحواله بانسجام واعتداله؟ فالحمد لله الملك العلام، الكبير المتعال.
إن مما يشعر به الناس من البرد القارص، باختلاف مناطقهم ومناخهم، وهو نفس من أنفاس جهنم، ففي الصحيحين: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب: أكل بعضي بعضًا. فجعل لها نفسين –وفي رواية: أذن لها بنفسين- نفس في الشتاء، ونفس في الصيام، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها)، فالنار تنطق نطقًا حقيقيًا، وتخاطب رب العزة حقًا وصدقًا، فكلما اشتد البرد وهبوب الرياح الباردة، تذكروا أن ذلك من نفس جهنم، أعاذني الله وإياكم من عذاب جهنم.
والمرء –عباد الله- لا يتحمل بردًا ولا حرًا، فهو مخلوق ضعيف، فعند أحمد: عن خولة بنت قيس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ابن آدم إن أصابه البرد قال: حس. وإن أصابه الحر قال: حس)، (وخُلق الإنسان ضعيفًا)، فتذكر ضعفك أمام خالقك ورازقك، وإياك أن تعصي القوي المتين، وأنت مخلوق من ماء مهين.
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل
نعيمك في الدنيا غرور وحسرة
***
*** وجاء رسول الموت والقلب غافل
وعيشك في الدنيا محال وباطل
والبرد يذكر بالله وعظمته، فذات مرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الشتاء، فجعل الورق يتهافت، فقال: (يا أبا ذر)، قلت: لبيك يا رسول الله. قال: (إن العبد ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله، فتهافت عنه ذنوبه، كما يتهافت هذا الورق على هذه الشجرة)، رواه أحمد.
وتذكر وأنت تنعم باللباس الدافي، والمسكن الهادي، واللحاف الهاني، فاحمده أولًا وآخرًا على ما يسر وسهل، واشكره على ما أنعم وأفضل، وتذكر ثانيًا إخوانًا لك، لا يجدون لباسًا، ولا يرتدون لحافًا، ولا يلبسون كساء، برد قارص، وليل مظلم دامس، وأنت تفصّل ما شئت من الثياب، وتملك من اللحاف والوقاية ووسائل التدفية، فانظر إلى إخوانك الفقراء والمحتاجين، والمساكين والمعوزين، لا سيما الأقربين، فهم أولى بالتفقد والعطاء المتين، وعند الترمذي: (ومن كساه على عري كساه الله من خضر الجنة).
خرج صفوان بن سُليم في ليلة باردة بالمدينة، فرأى رجلًا عاريًا، فنزع ثوبه وكساه إياه، فرأى بعض أهل الشام في المنام أن صفوان بن سُليم دخل الجنة بقميص كساه، فقدم المدينة وقال: دلوني على صفوان. فقص عليه ما رأى.
ورأى مِسعر أعرابيًا يتشرق في الشمس وهو يقول:
جاء الشتاء وليس عندي درهم
قد قطع الناس الجباب وغيرها
***
*** ولقد يُخص بمثل ذاك المجرم
وكأني بفناء مكة محرم
فنزع مسعر جبته فألبسه إياها.
ورُفع إلى بعض الوزراء الصالحين أن امرأة معها أربعة أطفال، أيتام، وهم عراة جياع، فأمر رجلًا أن يمضي إليهم ويعطيهم ما يصلحهم من كسوة وطعام، ثم نزع ثيابه، وحلف: لا لبستها ولا دفيت، حتى تعود وتخبرني أنك كسوتهم، وأشبعتهم. فمضى وعاد وأخبره، وهو يرعد من البرد، فلبس حينئذ ثيابه.
وعلينا –معشر المسلمين- بوصية عمر الشتوية، فقد كان إذا حضر الشتاء، كتب إلى الجند بالوصية: أن الشتاء قد حضر، وهو عدو، فتأهبوا له أهبته، من الصوف والجوارب والخفاف، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا، فإن البرد عدو سريع دخوله، بعيد خروجه.
فعلينا أخذ الحذر والحيطة، والوقاية خير من العلاج.
ومن القواعد المقررة: أن الرفع أسهل من الدفع، فدفع البرد باللباس واللحاف والخفاف، أسهل من رفعه بعد دخوله والتفاف.
وفي الشتاء نتذكر أن إسباغ الوضوء على المكاره سبب لتكفير السيئات، ورفع الدرجات، كما في مسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟)، قالوا: بلى. قال: (إسباغ الوضوء على المكاره).
هذا: ومن الأحكام، فاستمعوا إليها بتعقل وإلمام:
من الرخص الشتوية: ما يتعلق في الخفاف والجوارب، فاسمعوا يا رعاكم الله، وانتبهوا وفقكم الله، رؤوس أقلام، وشيء من الأحكام:
أن المسح رخصة للمقيم، يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، وأن الواجب إدخال القدمين على طهارة كاملة، وتبدأ مدة المسح عليها من أول مسح، فإذا لبس الخف الفجر ومسح عليها عند صلاة الظهر، فابتداؤه من المسح عند صلاة الظهر، ومن تمت مدة مسحه وأحدث، فلا يجوز له المسح، ولو مسح أعاد الوضوء والصلاة، ومن تمت مدة مسحه ولم يُحدث فله أن يُصلي بالوضوء الأخير ما شاء حتى يُحدث، وللمرء أن يمسح على الكنادر شريطة ألا يخلعها من قدميه، ويمسح أعلى الخف دون عقبه، أو أسفله، فلا يمسحهما، ومن لبس خفًا ثم أضاف إليه آخر قبل أن يمسح على الأول فله المسح عليه[ ]، وإذا لبس خفًا ثم أحدث، ثم لبس آخر، فالحكم للأول، ولا يمسح إلا في حدث أصغر، وأما الحدث الأكبر كالجنابة فيجب خلعه، ويجوز المسح على الخف المخرق المشقوق اليسير، ما دام اسم الخلف به عالقًا.
ومن الجمال والكمال: تجديد الخفاف، دفعًا للروائح، وحفاظًا على النقاء والروائح.
وكذا مما ينبغي أن يُعلم: أنه يُلاحظ على بعض الناس ممن عليه فانلة ذات أكمام، أو كوت، أو كم سخيف ضيق أنهم لا يستوعبون غسل اليد كلها، فيتركون المرفق وما حوله، إما لضيق الأكمام، أو لكثرة اللباس، أو لثقلها، والواجب استيعاب اليد بالغسل، من رؤوس الأصابع إلى المرافق، ولا بأس بتسخين الماء واستعمال السخانات، ليؤدي المرء عبادة ربه، على أحسن حال.
واجتنبوا –بارك الله فيكم-: اللثام على الفم والأنف، حال الصلاة، فبعض الناس يغطي وجهه، أو نصفه، أو فمه، وهذا من مكروهات الصلاة.
ولا بأس –إخوة الإسلام-: بلبس القفازين، وهما شراب اليدين، في الصلاة عند الحاجة، ولا تعتبر حائلًا بين المصلى والمصلي.
ومن الأحكام –إخوة الإسلام-: جواز الجمع بين الصلاتين إذا دعت الحاجة والمصلحة المحققة، كالبرد القارص الشديد، أو هبوب الرياح الشديدة، أو هطول الأمطار الغزيرة، أو وجود الثلوج الباردة.
ومن الأحكام –أمة سيد الأنام-: جواز التيمم عند عدم الماء، أو التضرر من استعماله مع وجوده، فيضرب المرء يديه بالأرض ضربة واحدة، يمسح بهما وجهه، وظاهر كفيه، على تراب طاهر، أو صعيد من الأرض.
ومن المسائل: أنه يجوز الاستجمار بالأحجار، ونحوها كالمناديل والخرق، مع وجود الماء، فيستجمر بثلاثة أحجار، ويقطع على وتر، ثلاثًا أو خمسًا، ويستجمر حتى يُنقي المحل من الأثر.
ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، لا سيما صلاة الفجر، كأن يكون عليه جنابة، أو احتلام، أو يخشى مفارقة الفراش الدافئ، ويكره القيام لأجل البرد، فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، بحال من الأحوال.
ومن المسائل الشتوية –جعلني الله وإياكم من خير البرية-: أن الفريضة لا يجوز فعلها على الراحلة، إلا إذا خشي خروج الوقت، ولا يستطيع النزول، كأن يكون على طائرة، أو أمطار، أو وحل في الأرض.
ويجوز الجماع في ليالي الشتاء، حتى ولو كان الإنسان ليس عنده ماء، أو يتعذر استعماله، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية.
ومما يجدر التنبيه عليه: أخذ الحذر والحيطة عند ترك المدافئ، والمواد الكهربائية، أو النارية، مشتعلة مشتغلة، حال النوم، أو بُعد الرقيب، أو وضعها عند الأبناء الصغار، أو الغفلة عنها، لما في ذلك من الخطر والاحتراق، والتلف والاختناق، ففي الصحيحين: (إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها)، وفي رواية: (لا تتركوا النار في بيوتكم)، وكذا مثله: ترك الجمر في مكان مغلق، لا توجد فيه تهوية، فعواقبه سيئة.
ومن كان عليه غسل وشق عليه استعمال الماء، جاز له التيمم.
ومما يُرشد إليه الأطباء: كثرة شرب الماء، لا سيما في الشتاء، دفعًا للضرر والبلاء.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأصدق القائلين.
ومن تلكم الوصايا والإشارات، والتذكير والتنبيهات: تفقد المحتاجين، لا سيما العمال والخدم والسائقين، دفئوا صبيانكم، وكبار سنكم، فالدفع أسهل من الرفع، وليكن لك نصيب من المساهمة والصدقة، والملابس الشتوية الخارجية والداخلية، كالجوارب والخفاف، على من تراه محتاجًا متألمًا، وأنت في طريقك أو نزهتك.
احذر الخروج من المنازل الدافئة إلى الأماكن الباردة مباشرة، بلا حذر وحيطة، وغطاء وكسوة.
ومما يُذكر فيشهر، ويُعلم فيُظهر: ما نراه ونشاهده في صلاة الفجر، في هذه الأيام البادرة الشديدة، والقيام من الفرش الوطيئة، وإيقاظ الصغار لهذه الفريضة، ومفارقة الأماكن الدافئة، إيقاظ الآباء والأمهات لأبنائهم، فرحمتهم والشفقة عليهم هو تربيتهم وتعليمهم، إن هذا –أيها الإخوة- لأكبر دليل على إيمان العبد بربه، ويقينه بوعده، (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة)، فشكرًا لهؤلاء الآباء وتلك الأمهات على البر والوفاء، وعلى من تقاعس وتكاسل أن يتقي الله في نفسه، وفي أولاده وذريته.
وثم تنبيه: هل تذكرت نعمة المأوى، والسكن، واللباس؟ هل تذكرت وأنت عائد إلى بيتك كم ممن يبيتون في العراء، في الليلة الباردة الظلماء؟ هل تذكرت وأنت تلبس من الثياب وتعدد، وألوان الكساء وتحدد، من يتسلل البرد إلى أجسادهم النحيلة، وينخر البرد إلى عظامهم الهزيلة، فشكرت الله؟ هلا إذا وضعت جنبك على فراشك الدافئ، وغطائك الهادئ عرفت هذه النعمة، وتذكرت من يلتحف السماء، ويطرده الجوع والظمأ، ولهذا يعلنها مدوية المصطفى، فكان إذا آوى إلى فراشه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)، رواه الترمذي وصححه، وفي سورة النعم يذكر عباده فيقول سبحانه: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (النحل: 81): أي جعل قُمُصًا من الكتاب، والقز، والقطن، والصوف، تمنعكم وتحفظكم، وجعل سرابيل وهي الدروع، تقيكم حروبكم، وسرابيل تقيكم البرد الشديد، فتتخذون منها لباسًا يمنعكم ويحفظكم، فالحمد لله، فالحمد لله، لا نحصي ثناء عليه.
ويجب التحذير والتنبيه من نفحات البرد، فانظر إلى عمر كيف حذر أهل الشام من البرد؟ فكيف لو رأى عمر حالهم في هذا الزمان، في وقت تسلط الأعداء، وأنواع البلاء، من التشريد والقتل والبرد القارص، وقلة الكساء والملابس، فرحماك ربنا بهم رحماك، فرحماك ربنا بهم رحماك، وكذا اللاجئين والمستضعفين، واليتامى والمرشدين.
وليل صقيع زمهرير رياحه
لها صبية جوعى البطون يتيمة
من الجوع والإملاق والبرد والضنا
إلهي: أغثهم واكشف البرد وانتصر
***
***
***
*** خلال الخيام الباليات صوافر
وأرملة حيرى لها الجفن ساهر
مصائب تُنسي الأولات الأواخر
لهم أنت للمظلوم يا رب ناصر
فتذكروا إخوانكم الضعفاء في البرد القارص، واليوم الشاتي، وساهموا في عونهم ودعمهم، وإطعامهم وكسوتهم، (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فالصدقة عند الحاجة والمجاعة تفضل عليها في تلك الحالة.
أيها المسلمون: المرء لا يتحمل في هذه الحياة حالة من الحالات، فالمرض يمرضنا ويؤلمنا، والحر يؤذينا ويؤزمنا، فلنتذكر حالنا بعد موتنا، ونستعد لما أمامنا، فما أجمل صفات جنة ربنا: (لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا)، فهي الراحة، والأنس والسعادة، ولا برودة ولا حرارة.
والله أعلم.