تنبيه الأنام لعظم شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام.
عبد الله بن علي الطريف
تنبيه الأنام لعظم شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام.1445/11/9هـ
الحمد لله الذي جعل الحج إلى بيته الحرام أحدَ أركان الإسلام، ومبانيه العظام، وخففَ عن عباده فأوجبه على المستطيعين، وعافا بفضله وكرمه عن العاجزين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا..
أما بعد أيها الإخوة: يقول الله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ). [الحج:32] في هذه الآية حث الله تعالى على تعظيم شعائره، وجعله من التقوى، وفسر الشيخ السعدي رحمه الله شعائر الله: بأنها أعلام دينه الظاهرة، التي تعبد الله بها عباده، وشعائر جمع شعيرة بمعنى علامة.. وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، والتقوى واجبة على كل مكلف، وأضاف الله تعالى التقوى إلى القلوب؛ لأن القلب هو محل التقوى كما جاء عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.. رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وإذا خشع القلب واتقى خشعت سائر الجوارح.
ويقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ..) [المائدة:2] قال بعض المفسرين شعائرُ اللهِ أوامرُه وفرائضُه، ومعنى ذلك: أن كل ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ وما تعبدنا الله تعالى به فهو من شعائره، فيدخل في ذلك الشعائر الظاهرة والباطنة؛ لأن الدين باطنٌ وظاهرٌ، ويدخل في ذلك الشعائر العملية والشعائر الاعتقادية، والأركان والواجبات والمستحبات، فكل ما شرعه تبارك وتعالى فهو من شعائره، والمسلم مأمورٌ بأن يعظمَها وألا يحلها؛ وذلك بأن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وهكذا يكون التعظيم على هذا المعنى. وقوله: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ أي: لا تحلوا مُحَرَمَ شعائر الله.
أيها الإخوة: والحج من أعظم شعائر الله وتعظيمه من الوجبات، وتعظيمه وجوه منها: وجوب المبادرة بأدائه للمستطيع إليه سبيلاً على الفورِ، قالَ اللهُ تعالى: (وَلِلهِ عَلَى الناسِ حِجُ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَ اللهَ غَنِيٌ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97]. قال المفسرون: في قوله: (عَلَى الناسِ) دليلُ الوجوبِ، خصوصًا إذا ذُكر المستحِقُ. ثم أتْبَعَه بقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِن اللهَ غَنِي عَنِ الْعَالَمِينَ) ليبينَ أن مَن لم يعتقدْ وجوبَه فهو كافرٌ، وأنه إنما وَضعَ البيتَ وأوجبَ حَجَه ليشهدوا منافعَ لهم لا لحاجتِه إلى الحجاجِ كما يحتاجُ المخلوقُ لمن يقصدُه ويُعظمُه؛ لأن اللهَ غنيٌ عن العالمين.. وقال سبحانه: (وَأَتِموا الْحَج وَالْعُمْرَةَ لِلهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة:196] قال: الشيخ السعدي: يُستدلُ بقوله تعالى: (وَأَتِموا الْحَج وَالْعُمْرَةَ) على أمورٍ، أحدُها: وجوبُ الحجِ والعمرةِ، وفرضيتُهما. الثاني: وجوبُ إتمامِهما بأركانِهما، وواجباتِهما، التي قد دل عليها فعلُ النبيِّ ﷺ وقولُه: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».
وقالَ شيخُ الإسلامِ رحمَه اللهُ: "وقد اتفاقُ الصحابةِ والسلفِ أن الحجَ يجبُ على الفورِ. أي إذا توفرت شروطُه وجبَ وعلى المسلمِ المبادرةُ به وعدمُ تأخيرِه.. وشروطُ وجوبِ الحجِ: البلوغُ، والعقلُ، والحريةُ، والاستطاعةُ بالبدنِ والمالِ، ويشترطُ للمرأةِ زيادةً على ذلك وجودُ المحرمِ".
وقالَ رحمَهُ اللهُ: بعدما سَاقَ الأَحاديثَ التي تَدلُ على التَغليظِ في تأخيرِ الحجِ مع توفرِ شروطِه: "وَهَذَا التَّغْلِيظُ يَعُمُّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوَاتُ، وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ -أي الفوات- فَفِي تَأْخِيرِهِ تَعَرُّضٌ لِمِثْلِ هَذَا الْوَعِيدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا لَحِقَهُ هَذَا؛ لِأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَحُجُّونَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُصَلُّونَ، وَإِنَّمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً" .أهـ. شرحِ العمدةِ..
أحبتي: لقد تأملتُ هذا الحديثِ وهو قولَ النَّبِيِّ ﷺ: «تَعَجَلُوا إلَى الْحَجِ -يَعْنِي الْفَرِيضَةَ- فَإِنَ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وهو حديث حسن.. فتوقفتُ عنده متسائلاً هل أدركَ المسلمونَ ما عناهُ النَّبِيُّ ﷺ من الأمرِ بأداءِ الحجِ على الفورِ، أي من حينِ اكتمالِ شروطِه فيهم فيبادرون.؟ وهل أولوا ما يدلُ عليه من تَوْجِيهٍ اهتمامَهم فجعلوا الحجَ هدفاً يسعونَ لتحقيقِهِ في أنفسِهم ولمن ولاهم اللهُ أمرَهم.؟
ومن وجوه تعظيم شعيرة الحج حرص من عزم على الحج أن يكون حجّه مبرورًا، لقولِ النَّبِيِّ ﷺ: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه والحج المبرور يكون وفق ما سَنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ وأكدَهُ بقوله مع فعله، يَقُولُ جَابِرٌ رضي الله عنه: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» رواه مسلم. فيكون تعظيم شعائر الله في الحج بتعلم أعمال الحج، أو مرافقة من يتقنها.. أسأل الله أن يتقبل من الحاجين حجهم، وأن يبارك لنا في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: لقد وفق الله هذه البلاد حكومة وشعبًا لخدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، وقدمت الحكومة الغالي والنفيس في التوسعة وإيجاد المرافق والطرق وغيرها؛ لتستوعب الأعداد المتزايدة من الحجاج والمعتمرين من شتى أنحاء العالم، ومهما بلغت التوسعات فلن تكفي بلا وضع تنظيمات لإدارة الحشود الضخمة من البشر من قاصدي بيت الله الحرام، فحُدْدِت نسب أعداد الحجاج القادمين من جميع الدول بالاتفاق معها..
وحدد حجاج الداخل من المواطنين والمقيمين فقد بإلزام مريد الحج باستخراج تصريح لضبط العدد، وإعطاء الفرصة لمؤدي الفريضة، ووضعت إجراءات معينة لمن أراد الحصول على هذا التصريح.. وصدرت فتوى هيئة كبار العلماء وفقهم الله في وجوب الالتزام بأخذ ترخيص لمن أراد الحج، وذكروا أن التزام قاصدي المشاعر المقدسة بذلك يتفق والمصلحة المطلوبة شرعاً، والشريعة جاءت بتحسين المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وطلب استخراج تصريح للحج يساعد في تنظيم حركة الحجاج وتنقلاتهم؛ كي يؤدوا مناسكهم بكل يسر وسكينة وسلامة وأمان، منذ وصولهم إلى الحرمين الشريفين حتى مغادرتهم.. ثم إن التزام مريدي الحج بالتصريح يحقق مصالح جمة من جودة الخدمات المقدمة للحجاج في أمنهم وسلامتهم وسكنهم وإعاشتهم، ويدفع مفاسد عظيمة من الافتراش في الطرقات الذي يعيق تنقلاتهم وتفويجهم وتقليل مخاطر الازدحام والتدافع المؤدية إلى التهلكة.
ثم إن الالتزام باستخراج التصريح للحج هو من طاعة ولي الأمر بالمعروف الواجبة بقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59]. لقولِ النَّبِيِّ ﷺ: «عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ» وقَولِهِ ﷺ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» رواهما مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. والنصوص في ذلك كثيرة، كلُها تؤكد وجوب طاعة ولي الأمر في المعروف وحُرمة مخالفة أمره.. والالتزام باستخراج التصريح من الطاعة في المعروف، يثاب من التزم به ويأثم من خالفه ويستحق العقوبة المقررة من ولي الأمر.
أيها الإخوة: والحج بلا تصريح لا يقتصر ضرره على الحاج نفسه وإنما يتعدى ضرره إلى غيره من الحجاج الذين التزموا بالنظام، ومن المقرر شرعاً أن الضرر المتعدي أعظم إثماً من الضرر القاصر، وفي الحديث المتفق عليه قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» رواه مسلم عن جَابِرً. والبخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.. ونصت الفتوى على: "أنه لا يجوز الذهاب إلى الحج دون أخذ تصريح ويأثم فاعله لما فيه من مخالفة أمر ولي الأمر الذي ما صدر إلا تحقيقًا للمصلحة العامة" وذكرت الفتوى أنه "وإن كان الحج حج فريضة ولم يتمكن المكلفُ من استخراج تصريح الحج فإنه في حكم عدم المستطيع قال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16] وقال سبحانه؛ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران:97]..
ومن أعظم الذنوب التي تهاون به بعض الناس، دخول مكة لمن نوى الحج بملابسه حتى لا يعلم المفتشون أنه محرم، وهو قد أهل بالحج أو العمرة؛ ليدخل مكة ثم إذا أمن من التفتيش لبس ملابس الإحرام.. اللهم اهدنا سبل الرشاد وارزقنا الطاعة وجنبنا العناد. وصلوا وسلموا...