( تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ ... )
مبارك العشوان 1
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيْهِ، وَنَعُوْذُ بِهِ تَعَالَى مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أيُّهَا النَّاسُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عِبَادَ اللهِ: أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الأَعْمَــالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ ؟ قَالَ: تُعِينُ صَانِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ ).
عِبَادَ اللهِ: كَفُّ الشَّرِّ عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى الحَدِيثِ عَنْ هَذِهِ الصَّدَقَةِ؛ كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ أَنْ نَتَوَاصَى بِكَفِّ الْأَذَى، وَنُرَبِّيَ أَولَادَنَا أَلَّا يُؤْذُوا أَحَدًا.
فَإِيْذَاءُ المُسْلِمِ مُحَرَّمٌ؛ أيًّا كَانَ هَذَا الأَذَى؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ.) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
إِيْذَاءُ المُؤْمِنِينَ مَعْصِيَةٌ، ذَمَّ اللهُ جَلَّ وَعَلَا أَصْحَابَهَا، وَتَوَعَّدَهُمْ؛ قَالَ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } الأحزاب 58
إِيْذَاءُ النَّاسِ خَسَارٌ وَإِفْلَاسٌ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ.) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَمَّا سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَــالَ: ( مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: ( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.)
وَالبَوَائِقُ: الغَوَائِلُ وَالشُّرُورُ وَالأَذَى.
يَقُولُ شَيخُ الإسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: فَإِذَا كَانَ هَذَا بِمُجَرَّدِ الْخَوْفِ مِنْ بَوَائِقِهِ؛ فَكَيْفَ مَنْ فَعَلَ الْبَوَائِقَ مَعَ عَدَمِ أَمْنِ جَارِهِ مِنْهُ ؟
كَفُّ الأَذَى حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الطَّرِيقِ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ. ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَاحْفَظُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - حُقُوقَ إِخْوَانِكُمْ، وَاحْذَرُوا أَذِيَّتَهُمْ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيْهِ مِنَ الْآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيْمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ. أَمَّا بَعْدُ:
فَاحْذَرُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - أَذِيَّةَ إِخْوَانِكُمْ بِأَيِّ نَوعٍ مِنَ الأَذَى سَوَاءً كَانَ بِقَولٍ أَوْ بِفِعْلٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ، وَسَوَاءً كَانَ أَذَىً حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا؛ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ.) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَصُوَرُ إِيْذَاءِ العِبَادِ كَثِيْرَةٌ؛ مِنْهَا مَا هُوَ وَاضِحٌ جَلِيٌّ، وَمِنْ أَشَدِّهِ: إيْذَاءُ المُسْلِمِ فِي دِيْنِهِ، بِسَبِّهِ أَوْ تَنَقُّصِهِ، أَوْ تَلْبِيْسِهِ وَبَثِّ الشُّبَهِ حَوْلَهُ؛ أَوِ الْمَنْعِ مِنَ الطَّاعَاتِ، أَوِ الْإِلْزَامِ بِالمُحَرَّمَاتِ.
وَمِنْ أَشَدِّهِ: إِيْذَاؤُ المُسْلِمِ فِي نَفْسِهِ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ، وَإيْذَاؤُهُ فِي عِرْضِهِ بِاعْتِدَاءٍ أَوْ قَذْفٍ، وَإِيْذَاؤُهُ فِي مَالِهِ بِسَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ غِشٍّ أَوْ جَحْدٍ أَوْ مُمَاطَلَةٍ.
وَمِنْ أَشَدِّ الأَذَى: إِيْذَاءُ القَرِيْبِ لِقَرِيْبِهِ؛ الوَلَدُ لِوَالِدَيْهِ، وَالوَالِدَانِ لِأَوْلَادِهِمَا، وَالزَّوْجَانِ لِبَعْضِهِمَا، وَالإِخْوَةُ وَالأَخَوَاتُ لِبَعْضِهِمْ.
وَمِنْ أشَدِّهِ: إِيْذَاءُ القَوِيِّ لِلضَّعِيْفِ.
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ صُوَرِ الإِيْذَاءِ: السُّخْرِيَةُ بِالعِبَادِ وَاحْتِقَارُهُمْ وَالطَّعْنُ فِي أَنْسَابِهِمْ؛ وَلَمْزُهُمْ وَتَعْيِيْرُهُمْ بِأَخْطَاءٍ ارْتَكَبُوهَا.
وَمِنْهَا إِيْذَاءُ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَطُرُقَاتِهِمْ وَالأَمَاكِنِ العَامَّةِ لَهُمْ بِالتَّفْحِيْطِ وَرَفْعِ أَصْوَاتِ الأَغَانِي وَالمُوسِيْقَى، وَإِلقَاءِ القَاذُورَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ ) قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ.) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ: إِيْذَاءُ المُصَلِّينَ بِالرَّوَائِحِ الكَريْهَةِ كَالثُّومِ وَالبَصَلِ وَالدُّخَانِ وَغَيْرِهَا.
وَمِنْ صُوَرِ الإيْذَاءِ: مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ؛ يُرِيْدُ إِيْذَاءَ صَاحِبِهِ وَالنَّيْلَ مِنْهُ؛ فَيَتَّخِذُ المِزَاحَ سُلَّمًا؛ وَيَحْتَّجٌّ بِأَنَّهُ يُمَازِحُهُ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَعْضِ صُوَرِ إِيْذَاءِ العِبَادِ لِنَحْذَرَهَا، وَغَيْرُهَا كَثِيْرٌ، يَصْعُبُ حَصْرُهَا، وَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَعَلَيْهِ بِوَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ... ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أَحْسِنُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - إِلَى النَّاسِ، وَتَوَاصَوا بِالإِحْسَانِ إِلَيهم وَنَفْعِهِمْ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنْ لَمْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ فَاحْذَرُوا الإِسَاءَةَ وَالأَذَى، إِنْ لَمْ تنْفَعْوهُمْ فَلَا تَضُرُّوهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَسُرُّوهُمْ فَلَا تُحْزِنُوهُمْ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }الأحزاب 56
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.