تقويم أداء الخطيب .. الشيخ عبدالحق معزوز
الفريق العلمي
من المقرر عند العقلاء أن الأعمال العظام والمهام الجسام لا تغني سلامة غاياتها ونبل مقاصدها عن السبر العميق والفحص الدقيق لمسيرتها؛ وذلك لاقترانها بالنشاط البشري والجهد الإنساني الذي يعتريه النقص ويشوبه الضعف.
ولاسيما إذا سلطت عليه أشعة النقد واقترن بحوافز ومعطيات تستلزم التأمل والنظر حيث تبدو الهنات وتتجلى الثغرات، مما يساعد على فتح آفاق البحث لمعالجة الحاضر واستشراف المستقبل، فلا يقعدها الاعتزاز بعطائها وجسيم مهامها فتغض الطرف عن أخطائها ولا تعترف بتقصيرها.
ويعتبر حقل الخطابة أحد الميادين الفسيحة التي تشوبها الاجتهادات الخاطئة والتطبيقات القاصرة لاتصاله الوثيق بأطياف من ألوان البشر غير المعصومين، ولا يمكن بحال إسباغ حلل العصمة والتدثر بمسوح الكمال لأي خطيب كان إلا من عصم الله من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما غيرهم فعرضة للخطأ ومحل للتقصير.
إن مهمة الخطيب لا تقتصر على مجرد إلقاء الكلمات ومعالجة مهام الخطابة، بل تجاوزت إلى وظائف الإصلاح والتربية ومسؤوليات البناء الإنساني والمشاركة في تنمية المجتمع، وهذا لن يكون إلا بخطباء حكماء أكفاء مصلحين، ولذلك فهم مدعوون إلى مراجعة شاملة تعم النفس والنهج، والمادة والواقع، بوقفة صادقة للتقويم والتصويب، إذ بصلاحهم ونضج تجربتهم يعم النفع وتستقيم الأحوال بحول من بيده الحال والمآل.
فنحن مدعوون بجدية وتجرد وإخلاص للنظر في أدائنا، ووضع ذلك تحت طائلة النقد العلمي والتقييم الموضوعي - نستنير بإخواننا ممن حازوا قصب السبق وخاضوا غمار الخطابة وأكسبتهم التجارب ما لا تجده في طيات الكتب وصفحات المؤلفات، يحملون الهم نفسه ويقصدون الغاية ذاتها، تلكم سبيل الأنبياء والمرسلين: الدعوة إلى الله على بصيرة - فتعقد مجالس جماعية بصيغة دورية مدعمة بالبحوث العلمية والدورات التدريبية والمناقشات الصريحة بعيدًا عن المجاملات الكاذبة، لتخليص النفس من الذنوب وتبصيرها بالعيوب، لضمان استمرار العمل سليمًا معافًى من الأخطاء السابقة، استمرارية تنشد الكمال الممكن والاطلاع على الجديد ومواكبته.
إن الاستمرار في النقد شرط للبقاء في الطريق الصحيح، فإنه مهما كان الخطيب حاذقًا فطنًا مفوهًا فإن تصوراته لا بد أن تخطئ وتصرفاته لا بد أن تزل، فيلزمه التشخيص والتمحيص والتفحيص لاكتشاف علل الخطابة عنده، إذ استمرار أخطائه يمثل ألغامًا ومخاطر حقيقية سوف تنفجر وتقضي عليه أولًا وعلى دعوته تبعًا.
إن العمل على تكريس الأخطاء والتستر عليها وعدم كشفها ومعالجتها، وإحاطتها بسور من القدسية وكأن خطبة الخطيب وحي معصوم فنخلط بين الوحي والفهم، وبين النص والنهج، وبين قول الشارع وفهم الشارح، إن ذلك سبب في تراجع عطاء الخطيب وضعف مردوديته وتأثيره.
إن المراجعة تمنع من الوقوع في الأخطاء المتكررة التي قام البرهان وثبت الدليل على فداحتها، والتي يمنع الإعجاب والغرور والغفلة أحيانًا من ملاحظتها والاعتراف بها، كما تفوت الفرصة على الأعداء الذين يتصيدون هنات الخطباء وعثراتهم ويتوسلون بسببها إلى ضرب الدعوة الإسلامية وتجفيف منابعها، كما تسهم في تحسين الأداء وتطوير القدرات والاستفادة من تجارب الغير، وتلافي أسباب ما حدث عند البعض من فشل حتى صارت الخطبة تقليدًا وعادة ووظيفة يؤديها بكل جفاء وبرود، لا يستشعر أهميتها، ولا يستحضر غاياتها، ولا يتعايش وكلماتها، ولا يتتبع صداها.
إن طرح مثل هذا الموضوع ليس تنقيصًا لقدر المنابر ومعتليها، فأنا منهم وابن أمتهم، لكنها دعوة أوجهها إلى إخوة أحبة على المنابر للمراجعة وقبول المراجعة، فليس كل ما يرد في الخطبة قطعي الدلالة بل فيه وبطبيعته ما هو محل للنقد والمراجعة والتقويم وإعادة النظر والتصويب، في الفهم أو النقل أو أسلوب الإلقاء والعرض أو الأولوية... وما ينبغي أن يرافق تلكم المراجعة المخلصة أي ارتياب أو خوف أو رعب من أن ذلك فسق أو عدوان على القيم الدينية، بل ذلك سبيل للنضج الحضاري والارتقاء بالمستوى الخطابي والتجدد والتجديد؛ ليسهم الخطيب في المجال التنموي الباني والعمران الإنساني، وينخرط في قضايا الأمة والإنسانية.
:: مجلة البيان العدد 340 ذو الحجة 1436هـ، سبتمبر - أكتوبر 2015م.