تقوى الله في اللسان
تركي الميمان
عنوان الخطبة: تقوى الله في اللسان
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزوجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131] ومن لم يعمل بهذه الوصية فسوف يخسر ويهلك ويندم.
عبادالله: الحياة ليس لها معنى إلا بتقوى الله عزوجل في القلوب؛ فكثير من الناس يظن أن معنى الحياة أن يأكل ويشرب ويتمتع ، فهذا جَهِل مفهوم الحياة، فما هذه إلا حياة بهيمية، لأن الكافر يأكل ويشرب ويتمتع؛
فالحياة الطيبة أن تخرج من الظلمات إلى النور، ومن الغواية إلى الهداية، (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122]
ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: من اعتقد أنه سوف يهتدي بغير هدى الله الذي أنزل به كتابه، وأرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا.
فالحياة كل الحياة أن تحيا بالقرآن، أن تحيا بالإيمان.
قيل لابن مسعود رضي الله عنه: ما حق تقوى الله؟ قال: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
ولذلك قال عز من قائل: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]
وجاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما قال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت
فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ( رفعت الأقلام وجفت الصحف ) [رواه الترمذي وقال حديث صحيح(2516)]
وتقوى الله تعالى تكون في اللسان، وأعظم ما ابتلي به المرء لسانه. ولذلك قال بعض أهل العلم: تسعة أعشار الذنوب من اللسان.
واللسان هو الذي يجرُّ على المؤمن الذنوب والخطايا، ولذلك يقول سبحانه:
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]
قال ابن كثير: ( مَا يَلْفِظُ) أي ابن آدم (مِنْ قَوْلٍ)أي ما يتكلم بكلمة (إِلَّا لَدَيْهِ
رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي إلا وله من يرقبها معد لذلك يكتبها لا يترك كلمة ولا حركة كما قال تعالى: ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12] فيكتب الملك كل شيء من الكلام.[تفسير ابن كثير]
ووصف الله عز وجل المؤمنين المتقين فقال: ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون:3] .أي عن الباطل، وهو يشمل الشرك والمعاصي، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال. [تفسير ابن كثير]
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: " أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك "[رواه الترمذي وقال حديث حسن].
وعن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: " لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه "...ثم قال في آخر الحديث: " ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: " كف عليك هذا " قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: " ثكلتك أمك، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟ " [رواه الترمذي وقال:حديث حسن صحيح]
فنعوذ بالله من أضرار اللسان، ولذلك عرف الصالحون ضرره، وعلموا أنه لا يمكن أن تأتي تقوى الله إلا باجتناب ضرر هذا اللسان.
ذكر الإمام مالك في الموطأ: " عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه،
أنه دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه - أي: يجره بشدة- فقال له عمر: مه! غفر الله لك، فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد ".
هذا وهو أبو بكر الصديق صاحب الإنفاق في سبيل الله وخليفة رسول الله، إذاً فماذا نقول نحن.
وقال رجل:" رأيت ابن عباس آخذاً بثمرة لسانه -يعني:ممسكاً به-وهو يقول: ويحك قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، قال:فقال له رجل:يا بن عباس! ما لي أراك آخذاً بثمرة لسانك تقول: كذا وكذا؟! قال ابن عباس: بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه " يعني: لا يغضب على شيء من جوارحه أشد من غضبه على لسانه.
[والأثر أخرجه ابن المبارك و أحمد و أبو نُعيم ، وأيضاً أخرجه أحمد في كتاب الزهد ، والمتن بمجموع طرقه حسن].
وقال النووي في الأذكار: "بلغنا أن قس بن ساعدة ، و أكثم بن صيفي اجتمعا فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟! فقال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته: ثمانية آلاف عيب، فوجدت خصلةً إن استعملتها سترت العيوب كلها، قال ما هي؟ قال: حفظ اللسان ".
وقال إبراهيم التيمي: " أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمع منه كلمةً تعاب"، الله المستعان! عشرين عاماً ما سمع منه كلمةً تعاب، [والأثر ذكره ابن سعد في الطبقات] .
فاتقوا الله رحمكم الله والزموا الصدق والطيب من القول فربكم إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين...
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه،
عباد الله: اعلموا أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى محرم أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء.[رياض الصالحين ص 519]
وإذا أردتم أن تعلموا عظم الكلمة التي تخرج من أفواهكم – نفعا وضررا- فاسمعوا هذا الحديث؛ روى الإمام احمد عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ، قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ "
قَالَ: فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: "كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ " [رواه أحمد، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح]. [مسند أحمد ط الرسالة 25/ 180]- [سنن الترمذي ت شاكر 4/ 559]
قال بعض السلف: جعلت على نفسي بكل كلمة أتكلم بها فيما لا يعنيني صلاة ركعتين فسهل ذلكّ عليّ، فجعلت على نفسي بكل كلمة صوم يوم
فسهلّ عليّ، فلم أنتهِ حتى جعلت على نفسي بكل كلمة أن أتصدق بدرهم
فصعب ذلك فانتهيت.
ولو أدب الإنسان نفسه بكل كلمة تكلم بها فيما لا يعنيه، بأن يتصدق ببعض المال، لاستطاع بإذن الله أن يحفظ لسانه.
وإني أعرف رجلاً أفتى بفتيا فوقعت خطأً، فتصدق بثلاثة آلاف ريال، من أجل أن لا يُقدِم على الفتيا بغير علم .
فالله الله في حفظ اللسان؛ تحفظ اللسان من اللعن والبذاء والفحش، ومن الإسراف في المزاح الذي لا يرضي الله عز وجل، ومن كثرة اللغو بغير ذكر الله عز وجل، ومن الغيبة والنميمة، والاستهتار والاستهزاء، خاصة بالأخيار
والعلماء والدعاة، فإن هذا هو النفاق الظاهر الذي لا نفاق بعده.
وتذكر: ( وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
فاتقوا الله تعالى في ألسنتكم،" ولا تكثروا من الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " ،( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء:36]
ثم صلوا وسلموا على الهادي البشير...
موضوع الخطبة: تقوى الله في اللسان
اسم الخطيب: تركي بن علي الميمان
المسجد : جامع العجلان
المكان: الخبراء
تاريخ الخطبة 13/3/1434هـ
استفدت من كتاب/التقوى الغاية المنشودة - للشيخ/ عائض القرني
المشاهدات 4613 | التعليقات 2
خطبة جميلة و مؤثّرة مدعّمة بالشواهد والنصوص ، ويُسعدنا والله تواصلكم معنا في الملتقى ، حتى نستفيد من إبداعاتكم أستاذ تركي .
و كعادتنا في تفعيل المناصحة في الملتقى و تكميل بعضنا لبعض : حبذا لو نزعتم أخي قول شيخ الإسلام ابن تيمية - وهو قول حق - ففيه نوعٌ من القسوةِ لا يتناسبُ هنا مع " لغةِ الإشفاقِ " التي خُطّت عليها الخطبة !
انظُر [ ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: من اعتقد أنه سوف يهتدي بغير هدى الله الذي أنزل به كتابه، وأرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا ] :eek: !! . ماذا سيكون موقف السامع لهذا الكلام وقد انبسطت نفسُهُ للمقدّمة ؟!
و الخطبة جهدٌ يستحق الثناء والشكر ، فلا تحرمنا من إبداعاتك .
أبو حاتم إسماعيل بوفار
بارك الله في فضيلة الشيخ تركي بن علي الميمان ووفقك الله لكل خير : ما أعظم قول ربي حول هذا الموضوع الخطير وما أروع قول نبينا صلى الله عليه وسلم عن ذلك وكذا كلام أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن خلال ذلك يتبين أن أعظم ما ينبغي أن يعتني به المرء هو نفسه التي بين جنبيه فيربيها على الهدى والخير ومن أعظم الجوارح بعد القلب حتى تُزكى هذه الأنفس هو هذا الجرم الصغير ولكنه الخطر الكبير ألا وهو اللسان وإن المتأمل فيما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليُدرك أن أعظم ما يُقيم به المرء لسانه هو توحيد الله تبارك وتعالى باستشعار رقابة الله سبحانه على هذا اللسان وأنه عز وجل يسمع ما يُقال ويرى ما عليه الإنسان في السر والإعلان وهذه المسألة تحتاج إلى تربية عظيمة على ذلك والكلام فيها يطول ولعل له مقامات أخرى بإذن الله وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
تعديل التعليق