تقديم محبة الله سبحانه وتعالى- على المعاصي

سليمان بن خالد الحربي
1446/01/25 - 2024/07/31 20:19PM

الخُطْبة الأُولَى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُه ونستعينه ونستغفره، ونَعُوذُ بالله مِن شُرُور أنفُسِنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنْ سَارَ على نَهْجِهِ واقْتَفَى أَثَرَه إلى يوم الدين، وسَلم تسليمًا كثيرًا.

أَمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].

مَعْشَرَ المصَلِّين: قد يُبْتَلَى المرءُ بمعصية مِن المعاصي لا تكاد تُفَارِقُه، وهو مع هذا يسأل اللهَ الخَلاصَ منها، غير أنها لم تكن سببًا لترك أَمْرٍ من أوامر الله، ولم تَقِفْ حاجزًا أمام القيام بطاعة الله، فهذا سَبِيله الإنابةُ والدعاءُ إلى رَبِّه، والحرصُ على الزيادة من الخير، والشأن كل الشأن حينما تكون المعصية سببًا لِتَرْك الواجبات، وتضييع الأوامر الشرعية، فبسبب هذه المعصية صَارَ مُضَيِّعًا لدِين الله أو بعضه من الفرائض، بل قد تكون لمحبة لمبَاحٍ من المباحات تُؤَدِّي إلى هذا الشيء نفسه من تَرْك الواجبات الشرعية، هنا لا بد من وَقْفَة حازمة، لا تَقْبَل التأجيلَ والتأخيرَ والانتظارَ، فلا بد من مُحاسبة النَّفْس حينما تَرَى هذه المعصيةَ أو هذا المباحَ قد جَرَّ عليك ضَيَاعَ واجباتك فهنا الأمر مختلف، ومختلف جِدًّا، لا بد من التضحية بكل شيء.

يُذَكِّرنا هذا المعنى بقِصَّة يوسف-عليه السلام- لما عَرَضَتْ له النِّسْوَةُ، أَدْرَكَ أن هذه المعصية ستكون نُقْطَةَ تَحَوُّل كبيرٍ في مسيرته وحياته، ولن ينتهي أبدًا، ولهذا قال في دُعائه لرَبِّه: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[يوسف:33]، وتَأَمَّلْ كلمةَ {أَصْبُ}، وهو إفراط الحُبِّ والشوق، أي إنني سأكون مُقَيَّدًا ذليلًا بِذُلِّ المعصية والهَوَى، فما كان الله إلا سميعًا عليمًا، {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 34]، هذا هو الطلب الصادق، وهذا هو الشعور الإيماني الكامل، أَتُرَى مَنِ ابتُلِيَ بمعصية يستحضر هذا المعنى؟! أتُرَاه يستحْضِر الإدمانَ عليها؟! أَتُرَاه يستحضر ذُلَّهُ بسببها؟! لو اسْتَحْضَرَ لَنَجَا.

ومِثْل ذلك ما حَصَلَ لنبيِّ الله سليمانَ-عليه السلام- لما عُرِضَتْ عليه الخيلُ الجِيَادُ السريعة وهو مُعْجَب بجمالها وسُرْعَتها، فما زالت تُعْرَضُ عليه حتى غَابَتِ الشمسُ، وأَلْهَتْهُ عن ذِكْر الله. فقال نَدَمًا على ما مَضَى منه، وتَقَرُّبًا إلى اللهِ بما أَلْهَاهُ عن ذِكْرِه، وتقديمًا لحُبِّ اللهِ على حُبِّ غَيْرِه: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص:32]، والمراد الخيل؛ لأنها من جملة المال {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص:32]، فقال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33]، فجعل يَعْقِرُها([1]) بسيفه، في سُوقِها([2]) وأعناقها. 

أَتُرَى مَن فاتَتْه فريضةُ الله في وقتها يَلْتَفِتُ إلى أسباب تَرْكه للفريضة، ثم يقف موقفًا حازمًا إما بسبب رُفْقَة أو شيء آخر، هذا هو الصِّدْق والمحاسبة المثْمِرَة، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث عائشة –رضي الله عنها- أنها قالت: أهدى أبو جهم بن حذيفة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خَمِيصَة([3]) شَامِيَّة لها عَلم، فشَهِدَ فيها الصلاةَ، فلما انصرف قال: «اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ([4]) أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاَتِي، كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلمهَا، وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِي»([5])، وفي رواية أحمد في مسنده: فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْخَمِيصَةَ هِيَ خَيْرٌ مِنَ الْأَنْبِجَانِيَّةِ، قَالَ: فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلمهَا فِي الصَّلَاةِ»([6])، ليستِ القضيةُ عنده أيُّهما أفضل، إنما الأمر أَشَدُّ من ذلك عنده، فإن هذا الكساءَ أَلْهَاهُ وأَخَلَّ عليه صلاتَه، فلا يمكن أن يَسْتَسْلم ويَقِفَ منتظرًا ومُسَوِّفًا، فما كان منه إلا أن رَدَّ الهديةَ، مع أنه لا يَرُدُّ الهديةَ، وأَخْبَرَ أبا جَهْمٍ بسبب رَدِّها، وطَيَّبَ خَاطِرَه بأن قال له: أعطني كِساءً لا خُطُوطَ فيه، وعلى هذا سار أهل الإيمان.

حينما تقف معصيةٌ من المعاصي أو مباح من المباحات حَجَرَ عَثْرَةٍ أمام القيام بأمر الله أو طاعة من طاعاته فهنا لا يمكن التوقف والانتظار؛ بل الحالة تستدعي الفورية في القرار بأن تتخلص مما وَقَفَ أمامك وفي طريقك عن القيام بالأمر. إن هذه المحاسبة هي ما مَيَّزَ الله به المؤمنين الصادقين أَهْلَ اليمين، قال الحسن -رحمه الله-: (إن المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلا يلومُ نفسَهُ على كلِّ حالاته، يَسْتَقْصِرُها في كل ما يَفْعَلُ، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ، وإنَّ الفاجرَ يَمْضِي قُدُمًا لا يعاتبُ نفسَه)([7]).

وقال ابن القيِّم -رحمه الله-: (وهلاكُ القلب من إهمالِ محاسبَتِها -أي النفس-  ومِن موافَقَتِها واتِّباع هواها)([8]).

فعجيب حال هذا الغافل؛ يُوقِنُ بالموت ثم ينساه، ويتَحَقَّق من الضَّرَر ثم يغشاه، أَيَخْشَى الناسَ واللهُ أَحَقُّ أن يخشاه، يَغْتَرُّ بالصحة ويَنْسَى السَّقَم، ويَفْرَح بالعافية ولا يَتَذَكَّر الالم، يَزْهُو بأيام الشباب ويَنْسَى الهَرَم، يَطُولُ عمره ويزداد ذَنْبُه، يبيضُّ شعرُه ويسودُّ قلبُه، يَجْمَع المالَ من المتشابِه والحرام، ويَسْعَى بقَدَمَيْه إلى التفريط والإجرام، ناسيًا نزولَ الموت وحُلُولَ الأجل، وشِدَّة الكَرْب وانقطاعَ العمل، حينما يتلجلج اللسان، ويَبْكِي الأَهْل والإخوان، وهذا المحتضَر لا يستطيع الكلام، قد شَخَصَ بَصَرُه، وبَدَا له عَمَلُه، فإمَّا يُبشَّرُ بِرَوْحٍ ورَيْحَانٍ أو جَحِيمٍ ونِيرَانٍ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40].

بارَكَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحَكِيم، أقُولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذَنْبٍ وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخُطْبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشُّكْر على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى جنته ورِضْوانه، صَلَّى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

مَعَاشِرَ الإِخْوَة: كَمْ مِنْ رَجُل وقفتِ المخَدِّرات والخمورُ أمامه حاجزًا عن طاعة ربه ولا يزال واقفًا دون حِرَاك وخَلَاصٍ! وكَمْ من رَجُل وقَفَتِ امْرَأَتُه وزوجته عائقًا عن بِرِّ أُمِّه وأبيه وهو لا يُحَرِّك ساكنًا! وكَمْ من رجل مَنَعَتْهُ صُحْبَتُه الفاسدةُ عن الصلاة والمحافظة عليها! وكَمْ من رَجُل اعتادَ تَرْك صلاة الفجر بسبب طُولِ السَّهَر ولا يزال في عِناده! وكم من رجل تَسَبَّبَ مالُه المحَرَّم بِعَدَمِ قبول صدقته وبِرِّه وإحسانِه ولم يفعل شيئًا! نماذج كثيرةٌ من المعاصي والمباحات التي تسببت لتضييع أوامر الله، والتي لا يجوز أن يُسَوِّفَ العبدُ فيها التوبةَ، أو أن يَقِفَ مَوْقِفَ المتَفَرِّج.

ليستِ القضيةُ أنك واقع في معصية تسأل الله التخلص منها وتتوب وترجع، كَلَّا، إن القضية هنا أن الأمرَ تَجَاوَزَ إلى أَشَدِّ من ذلك، وهو تضييع حدود الله، فتحتاج إلى تضحية، فَأَرِ اللهَ من نَفْسِك خيرًا، ولهذا تَأَمَّلُوا الحديثَ الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلم أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلم أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالم، فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ، أَتَاهُ الموْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لم يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ»([9]). 

فهذا عَمِلَ عَمَلًا وهو أنه هَاجَرَ وخَرَجَ فتوبته صادقة، فرَحِمَهُ رَبُّه وهَيَّأَ له أسبابَ الرحمة، فهناك فَرْقٌ كبير بين التَّمَنِّي وبين الصدق في التمني والرغبة.

إِذَا كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ      فَإِنَّ فَسَـادَ الـــــرَّأْيِ أَنْ تَتَرَدَّدَا

كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: (حَاسِبُوا أنفُسَكم قَبْلَ أن تُحَاسَبُوا، وزِنُوا أعمالَكُم قبل أن تُوزَنُوا، فإنه أَهْوَنُ عليكم في الحساب غدًا أن تُحَاسِبُوا أنفُسَكم اليومَ)([10]).

وقال سعيد بن مسعود -رحمه الله تعالى-: (إذا رأيتَ العبدَ تَزْدَادُ دنياه وتنقُص آخِرَتُه وهو بذلك راضٍ فذلك المغبونُ الذي يُلْعَب بوجهه وهو لا يَشْعُر)([11]).

والكَيِّسُ([12]) مَنْ دَانَ نَفْسَه([13]) وعَمِلَ لما بعدَ الموت، والعاجِز مَنْ أَتْبَعَ نفسَه هَوَاهَا وتَمَنَّى على الله الأمانِيَّ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].

 



([1]) أي: يذبحها. انظر: المعجم الوسيط (عقر).
([2]) جمع ساقٍ، وهي ما بين الرُّكبة والقدم. المعجم الوسيط (سوق).
([3]) الخميصة: ثوب أسود أو أحمر له أعلام. المعجم الوسيط (خمص).
([4]) كِساء يُتَّخَذ من الصوف، وله خَمْل، ولا عَلم له، وهي من أَدْوَن الثياب الغليظة، منسوبة إلى مَنْبِج المدينة المعروفة، أو إلى موضع اسمه أنبجان. انظر: النهاية (أنبجان).
([5]) أخرجه البخاري (1/84، رقم373)، ومسلم (1/391، رقم556).
([6]) أخرجه أحمد (11/150، رقم24827)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (2/137، رقم623).
([7]) التفسير البسيط للواحدي (22/476).
([8]) إغاثة اللهفان لابن القيم (1/78).
([9]) أخرجه مسلم (4/2118، رقم2766).
([10]) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/103، رقم306)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/52).
([11]) إحياء علوم الدين (3/209).
([12]) أي: العاقل. النهاية (كيس).
([13]) أي: أذلَّها واستعبدها. وقيل: حاسَبَها. النهاية (دين).

المرفقات

1722446337_تقديم محبة الله على المعاصي.docx

المشاهدات 318 | التعليقات 0