تقارب الزمان
محمد بن خالد الخضير
الخطبة الأولى
ان الْحَمْد لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"
أما بعدُ: فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ) صححه الألباني.
عبادَ الله، ألا ترونَ هذا التَّسارعَ العجيبَ في أيامِنا وشهورِنا بل وفي أعوامِنا، ما إن نستيقظُ من نومِنا في أولِ النَّهارِ، حتى نَدخلَ في مُعتركِ المَعاشِ، وتَدورُ بنا دوَّامةُ الحياةِ، وفجأةً، وإذا نحنُ على فُرُشِنا قد أنهكَنا التَّعبُ، قد انتهى يومُنا، ونبحثُ عن الرَّاحةِ لنبدأَ يوماً جديداً بنشاطٍ، فكيفَ بدأَ هذا اليومُ؟، وكيفَ انتهى؟، وماذا قدَّمنا فيه؟، وهل سيعودُ بعدَ ذلكَ؟، أسئلةٌ كثيرةٌ، نفِرُّ منها، ونصُدُّ عنها، فإلى متى؟.
أليستْ هذه الأيامُ من أعمارِنا، كما قالَ الحسنُ البصريُّ رحمَه اللهُ: (يا ابنَ آدمَ، إنما أنتَ أَيامٌ، كلما ذهبَ يومٌ: ذهبَ بعضُك)، ألم نتدبَّرْ قولَ خالقِنا سُبحانَه وتعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، فأصحابُ العُقولِ والأحلامِ، يتفكَّرونَ في مرورِ الأيامِ، ويعلمونَ أنَّها تُقرِّبُهم من الخِتامِ، فيملؤنها بخيرِ الأعمالِ والكلامِ.
تَفُتُّ فُؤَادَكَ الأَيَّامُ فَتَّا *** وَتَنْحِتُ جِسْمَكَ السَّاعَاتُ نَحْتَا
وَتَدْعُوكَ الْمَنُونُ دُعَاءَ صِدْقٍ *** أَلاَ يَا صَاحِ أَنْتَ أُرِيدُ أَنْتَا
وانظرْ إلى الأسابيعِ، ما إن يبدأُ الأسبوعُ، حتى نَصلَ إلى نهايتِه، وما إن ينزلُ خطيبُ الجمعةِ، حتى يصعدَ مرَّةً أخرى، وما إن ننتهي من سورةِ الكهفِ، حتى نُعيدَ قراءَتَها مرةً أُخرى، أسابيعُ تسيرُ سيراً حثيثاً لا هوادةَ فيه، فهل من وَقفةٍ لنسألَ أنفسَنا في خِضَّمِ تسارعِ عجلةِ الزَّمنِ، ماذا قدَّمنا لأنفسِنا في حياتِنا، وقفةٌ أمرَنا اللهُ تعالى بها في قولِه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، آيةٌ تستحقُّ منَّا التَّدبرَ والتأملَ طويلاً، لنكونَ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
وأما الشُّهورُ فعَجباً من الأعاجيبِ، فيبدأُ شهرُ رمضانَ، ولا نشعرُ إلا ونحنُ في عشرِ ذي الحِجَّةِ، ثُمَّ إذا نحنُ نصومُ عاشوراءَ، ثُمَّ يُهنىءُ بعضُنا بعضاً بقدومِ شهرِ رمضانَ الآخرَ، الأزمنةُ تتوالى
إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا *** وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا *** فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ فِي الْعَمَلِ
وأمَّا السُّنونُ فيا حسرتى على السِّنينَ، تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، كأنَّنا فيها على سفينةٍ تدفُعها الرِّيحُ دفعاً، وتسفعُ رؤوسَنا فيها شمسُ الغفلةِ سَفعاً، من سقطَ منها بكيناهُ ساعةً ثُمَّ نَسيناهُ، ومن بقيَ فيها انشغلنا عنهُ وتركناهُ، يحملُنا النَّهارُ إلى اللَّيلِ، ويُعيدُنا اللَّيلُ إلى النَّهارِ، وهكذا في عجلةٍ مُتسارعةٍ جِدَّاً، لا تنتظرُ الشَّمسُ فيها أحداً،
عجيبةٌ هذه الأيامُ، تمرُّ فيها أيامُ السَّعادةِ كأنَّها ساعاتٍ، وتزحفُ فيها ساعاتُ الحُزنِ كأنَّها سنواتٍ، تذهبُ السَّعادةُ بجمالِها، وترحلُ الهمومُ بجبالِها، وتبقى الذِّكرياتُ بأطلالِها.
يموتُ الميِّتُ فنبكي، ويولدُ المولودُ فنفرحُ، ويمرضُ المريضُ فنحزنُ، ويُعافى المُبتلى فَنَسعدُ، نغيبُ عن أصدقائنا قليلاً ثُمَّ نَراهُم في مكانٍ، فإذا قد ظهرَ على وجهِهم ورؤوسِهم آثارُ الزَّمانِ، نلتقي ثُمَّ نفترقُ ونحنُ لا نعلمُ هل سنتلقي مرةً أخرى أم لا؟، حياةٌ مليئةٌ بالمشاعرِ المُختلفةِ، ومعَ ذلكَ لا نريدُ سماعَ الأخبارِ الحزينةِ، ولا فَقْدَ أصحابِ المكانةِ الثَّمينةِ، ونحنُ نعلمُ أننا لو عمَّرنا فيها فسيتركُنا الأحبابُ، ويفارُقُنا الأصحابُ، ويَذهبُ والآباءُ والأمَّهاتُ، ولنَ يبقَ منهم إلا جميلَ الذِّكرياتِ.
بارَك اللهُ لي ولكُم في الكِتابِ والسّنّة، ونَفَعنا بمَا فيهمَا مِنَ الآياتِ والحِكمَة، أقول قولِي هذا، وأستَغفِر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد، أيها المسلمون، إن الأيام تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله، فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: ((من طال عمره وحسن عمله))، قال: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)) رواه الترمذي.
عباد الله إِنَّ يَومَ عَاشُورَاءَ يَومٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ، وَصِيَامُهُ عَمَلٌ صَالحٌ وَسُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ كَرِيمَةٌ؛ سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا عَن صِيَامِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: مَا عَلِمتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَامَ يَومًا يَطلُبُ فَضلَهُ عَلَى الأَيَّامِ إِلاَّ هَذَا اليَومَ.
وَقَد بَيَّنَ -عليه الصلاةُ والسلامُ- أَنَّ صِيَامَ هَذَا اليَومِ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ، فَقَالَ: "صِيَامُ عَاشُورَاءَ أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبلَهُ".
وَخَالِفُوا اليَهُودَ بِصِيَامِ التَّاسِعِ مَعَهُ؛ فَإِنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ- قَالَ: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابَلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ»،
وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتِه الغُرِّ الميامين
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ العهد لما فيه صلاح البلاد والعباد، اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على حُدود بلادِنا، اللهم كُن لهم مُؤيِّدًا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، وجازِهم بالحسنات والأجور، وأعِنهم على حمايةِ الثُّغور، ووفِّق جميعَ رجال أمنِنا في كل مكان
اللهم إنا نسألك نعيمًا لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، ولذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم يا حيُّ يا قيوم، يا ذا الجلالِ والإكرام، أعنَّا على ذِكرِكَ وشُكرِك وحُسن عِبادتك، واجعلنا ممن طال عُمُره وحَسُن عملُه، واجعل خيرَ أعمارنا أواخرِها، وخير أعمالنا خواتِمها، وخيرَ أيامنا يوم نلقاك فيه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل لنا وللمسلمين من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية، اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1689876577_تقارب الزمان 3-1-1445.doc
1689876577_تقارب الزمان 3-1-1445.pdf