تَـــــــــــــــــــراصُّـــــــــــــــوا
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحَمْدُ للهِ الذِيْ جَعَلَ لَنَا دِيْنًا هُوَ خَيْرُ الأَدْيَانِ، وَأَنْزَلَ لَنَا كِتَابًا هُوَ خَيْرُ الكُتُبِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُوْلاً هُوَ خَيْرُ الرُّسُلِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا. أَمَّا بَعْدُ:
تَرَاصُّوا بَعْدَ سَنَتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ، تَرَاصُّوا واحْمَدُوْا الحَمِيْدَ أَنَّ الجَائِحَةَ رَائِحَةٌ، وَالوَبَاءَ إِلَى فَنَاءٍ. تَرَاصُّوا؛ لِأَنَّ التَّرَاصَّ سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ.
{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ(19)فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[الانشقاق19-20] وَلَقَدْ رَكِبْنَا خِلَالَ الجَائِحَةِ ثَلاثَ طِبَاقٍ. ابْتُلِينَا وَلَطُفَ اللَّهُ بِنَا، ثُمّ اُبْتُلِينَا وَلَطُفَ اللَّهُ بِنَا، ثُمّ فرَّجَ اللَّهُ عَنَّا: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، ثُمَّ صَلُّوا بِمَسَاجِدِكُمْ مَعَ تَبَاعُدِكُمْ، ثُمّ تَرَاصُّوْا.
ولأَجْلِ (تَرَاصُّوْا) مُنِعَ مِنْ صَلَاةِ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ فِي الصَّفِّ.
لِأَجْلِ (تَرَاصُّوْا) كُرِهَتِ مَعَ السَّعَةِ الصَّلَاةُ بَيْنَ السَّوَارِي.
لِأَجْلِ (تَرَاصُّوْا) مُدِحَ مَنْ يَصِلُ الصَّفَّ وَيَسُدُّ الفُرَجَ.
كلُّ هَذَا لِأَجْلِ أَنْ تَقَرَّ عُيُوْنُنَا بِصَلَاتِنَا، وَلِنُقَابِلَ رَبَّنَا مُقْبِلِيْنَ، وَبِمُنُاجَاتِهِ مُتَلَذِّذِيْنَ.
وَاعْتَبِرُوُا بِفَرْحَةِ النَّاسِ يَوْمَ قَالَ إمَامُهُمْ: تَراصُّوْا، فَرَحًا بِسُنَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَاحْمَدُوا اللهَ عَلَى نِعْمَةِ إِحْيَاءِ السُّنَّةِ، وَحُبِّ السُّنَّةِ.
أَرَأَيْتَ كَيْفَ أَن حُبَّكَ لِسُنَّةِ التَّرَاصِّ فِي الصَّلَاةِ أوْقَدَ فِي قَلْبِكَ شُعْلَةَ الْحُبِّ لِمَنْ سَنَّ سُنَنَ الصَّلَاةِ.
فَهَلْ تَجِدُ أَنَّ قَلْبَكَ ازْدَادَ مَحَبَّةً لِمُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلمَ- الَّذِيْ هُوَ أَرْحَمُ بِنَا وأَحْرَصُ عَلَى تَعْلِيمِنَا وَهِدَايَتِنَا: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة128]
أَرَأَيْتَ كَيْفَ أَحْيَا اللَّهُ فِي قَلْبِكَ حُبَّ سَنَةٍ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ؟!
أَرَأَيْتَ كَيْفَ أَيْقَظَ غَفْلَةً فِي نَفْسِكَ بِالْحِرْصِ عَلَى الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ؟!
أمَّا مَنْ أَغْفَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ فَمَا تَزِيدُهُ هَذِهِ العِبَرُ إِلَّا كَسَلاً.
أيُّهَا المُؤمِنُونَ: التَّرَاصُّ يَكُونَ بَالتَقَارُبُ بِلَا عِوَجٍ وَلَا فُرَجٍ: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)([1]). وَلَيْسَ المُرَادُ بِالتَّرَاصِّ التَّلاصُقَ، وتَلَامُسَ كَعْبَيْهِ بِكَعْبَيْ جَارِهِ؛ فَهَذَا خَطَاٌ، وغُلُوٌّ فِي تَطْبِيقِ السُّنَّةِ، وَتَضْيِيْقٌ وَمُضَايَقَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ إِلْزَاقَ الرُّكْبَةِ بِالرُّكْبَةِ مُسْتَحِيلٌ([2]).
وَفِي تَسْوِيَةِ الصَّفِّ ثَلَاثُ سُنَنٍ: اسْتِقَامَةُ الصَّفِّ بِلَا عِوَجٍ، وسَدُّ الخَلَلِ بِلَا فُرَجٍ. وَوَصْلُ الصَّفِّ الأَوَّلِ فالأَوَّلِ.
وَمِنَ السُّنَنِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الصُّفُوفِ إِتْيَانُ الإِمامِ بِنَفْسِهِ بَيْنَ الصُّفُوفِ لِتَسْوِيَتِهَا، أو إِرسالُ مَنْ يَنُوْبُهُ. فَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَمُرُّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، يُسَوِّيْهِمْ([3]). وكَانَ عُثْمَانُ لَا يُكَبِّرُ، حَتَّى يَأْتِيَهُ رِجَالٌ قَدْ وَكَّلَهُمْ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، فَيُخْبِرُونَهُ أَنْ قَدِ اسْتَوَتْ، فَيُكَبِّرُ([4]). وَابْنُ عُمَرَ يَقُوْلُ: «لَأَنْ يَخِرَّ ثَنِيَّتَايَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِي الصَّفِّ خَلَلاً وَلَا أَسُدَّهُ([5]).
وهَذِهِ دَعْوَةٌ تَخُصُّ أَئِمَّةَ الْمَسَاجِدِ: أَنْ يُطَبِّقُوا سُنَّةَ سَدِّ الفُرَجِ، لا سِيَّمَا وَالنَّاسُ مَضَى لَهُمْ سَنَتَانِ مَعَ التَّبَاعُدِ. ولا يَكْتَفُوا بِكَلِمةِ (اسْتَوَوْا) دُوْنَ تَعْدِيْلٍ وَسَدٍّ، (فتَسْوِيَةُ الإِمَامِ للصَّفِّ واجِبَةٌ، وَالجَمَاعَةُ إِذَا لَمْ يُسَوُّوُا الصَّفَّ فَهُمْ آثِمُوْنَ)([6]).
الحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ إِحْيَاءِ وَحُبِّ السُّنَّةِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ أَتَى بِالسُّنَّةِ، أَمَّا بَعْدُ: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُوْلَ: مَا الفَوَائِدُ مِنْ تَسْوِيَتِنَا لِصُفُوفِ صَلَاتِنَا؟ فيُقَالُ: إِلَيْكَ عَشْرَ فَوَائِدَ:
(1) نَقْتَدِيْ برَسُولِنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذِيْ كَانَ يُسَوِّي الصُفُوفَ، حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ. بَلْ كَانَ يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ؛ يَمْسَحُ صُدُورَهُمْ وَمَنَاكِبَهُمْ([7]).
(2) نَتَشَبَّهُ بِالمَلائِكَةِ الكِرَامِ. قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ([8]).
(3) يَعْظُمُ أَجْرُنَا. قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:مَا مِنْ خُطْوَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ خُطْوَةٍ مَشَاهَا رَجُلٌ إِلَى فُرْجَةٍ فِي صَفٍّ فَسَدَّهَا([9]).
(4)تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُنَا: قَالَ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:مَنْ سَدَّ فُرْجَةً رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً([10]).
(5) يَصِلُنَا اللهُ وَيَزِيْدُ فِي بِرِّنَا: قَالَ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:مَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ([11]).
(6) يُثْنِيْ اللهُ عَلَيْنَا، وَالمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَنَا. قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ([12]).
(7) نَتَّقِيْ الإِثْمَ والوَعِيْدَ، فَقَدْ رَأَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ: عِبَادَ اللهِ! لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ([13]). وَهَذَا وَعِيْدٌ، وَلَا وَعِيْدَ إلَّا عَلى فِعْلِ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ([14]).
(8) نَقْطَعُ الطَّرِيْقَ عَلى الشَّيْطَانِ ألَّا يُفْسِدَ صَلَاتَنَا بِالوَسْوَسَةِ وَالشُّكُوْكِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لاَ تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ([15]).
(9)تَتَآلَفُ قُلُوبُنَا، فتَقَارُبُ الْأَبْدَانِ يَجْلِبُ تَقَارُبَ الْقُلُوبِ، وَصَلَاحُ الظَّاهِرِ لَهُ أَثَرٌ فِي صَلَاحِ الْبَاطِنِ. قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ([16]).
(10) نَتَعَلَّمُ النِّظَامَ وَالدِّقَّةَ فِي أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَفِي أَفْضَلِ الْبِقَاعِ. وَهَذَا تَنْبِيْهٌ لِمَنْ فُتِنَ بِحَضَارَةِ الْغَرْبِ وَالشّرْقِ أنَّ إِسْلَامَنَا يَحُثُّ عَلَى النِّظَامِ. وَكَمْ أَسْلَمَ مِنْ كَافِرٍ بِسَبَبِ مَنْظَرِ تَرَاصِّ صُفُوفِ الْمُصَلِّينَ أَمَامَ الْكَعْبَةِ.
فاللهم أَحْيِنَا عَلى السُّنَّةِ وَالْإِسْلَام، وأَمِتْنَا عَلَيْهِمَا.
اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى انْحِسَارِ الْوَبَاءِ، وَإلْغَاءِ التَّبَاعُدِ بِالْمَسَاجِدِ، وَالعَوْدَةِ الحُضُورِيَّةِ.
اللَّهُمَّ وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى وُلَاةٍ يَحْرِصُونَ عَلَى صِحَّتِنَا وَسَلَامَتِنَا وَحِمَايَتِنَا وَرِعَايَتِنَا، وَيَسْتَرْخِصُونَ المِلْيَارَاتِ فِي سَبِيلِ خِدْمَةِ الْمُسْلِمِينَ والحَرَمَيْنِ.
اللهم حسّنْ أخلاقَنا، وبارِكْ أرزاقَنا واقضِ ديونَنا. واجمعْ شؤونَنا، وأرخِصْ أسعارَنا.
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
([1])الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (4/ 178)
([2])الشرح الممتع (3/10). وانظر: لا جديد في أحكام الصلاة (ص: 11)
([3]) مختصرًا من صحيح البخاري (3700)
([4])موطأ مالك ت عبد الباقي (8)
([5])مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2473 )
([6]) الشرح الممتع (3/10)
([7])صحيح مسلم (436) وسنن أبي داود (664 )
([8])صحيح مسلم (430)
([9])المعجم الأوسط (5217)
([10])سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (995)
([11])سنن أبي داود (666). وانظر: التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 446)
([12])سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (995)
([13])صحيح مسلم (436)
([14])مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (13/ 22)
([15])سنن أبي داود (666)
([16])سنن أبي داود (664 )
المرفقات
1646885937_تراصُّوا.docx
1646885952_تراصُّوا.pdf
1646885968_للجوال - تراصُّوا.pdf