تعظيم قدر الصلاة

الخطبة الأولى

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُمْتَنِّ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَشَرْحِ صُدُورَهُمْ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِخْلَاصِ بِالتَّوْحِيدِ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَخَلْعِ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، أشهَدُ أَلَّا إلَه إلَّا الله، وأشهد أن محَمَّدًا عبد الله ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلَّمَ عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى أثرهم حثَّ خُطاه، أما بعد:

فَاتَّقُوا الله بِفعل مَا امركم بِهِ وَترك مَا نهاكم عَنهُ وادامة الذّكر لَهُ واستشعار الخشية مِنْهُ، وَإِنَّمَا يلازم الشَّيْطَان من غشى عَن ذكر الله فاحذروا الْغَفْلَة عَن ذكر الله فَإِنَّهَا أصلُ كلِّ بلية وجالبةُ كلِّ رزية.

عباد الله.. إنه لَا نِعْمَةَ أَعْظَمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ مِنْ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَالْخُضُوعِ لِرُبُوبِيَّتِهِ، ثُمَّ النِّعْمَةُ الْأُخْرَىَ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ خُضُوعًا لِجَلَالِهِ، وَخُشُوعًا لِعَظَمَتِهِ، وَتَوَاضُعًا لِكِبْرِيَائِهِ، وَلَمْ يَفْتَرِضْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ تَوْحِيدِهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِرُسُلِهِ، وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ فَرِيضَةً أَوَّلَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَمِمَّا دَلَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ وَمُبَايَنَتِهَا لِسَائِرِ الْأَعْمَالِ إِيجَابُهُ إِيَّاهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَإِخْبَارُهُ عَنْ تَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَزَّ قَرَّبَ مُوسَى نَجِيًّا، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْدَ افْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ عِبَادَتَهُ إِقَامُ الصَّلَاةِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى بِكَلِمَاتِهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعَبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، وَحَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ أَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ بِإِسْمَاعِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فَأَسْكَنَهُ بِوَادٍ لَيْسَ بِهِ أُنَيْسٌ دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحْرِمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}، وحكى عن إسماعيل {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}، ودَاوُدُ نَبِيُّ اللَّهِ وَصَفِيُّهُ لَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ وَأَرَادَ التَّوْبَةَ لَمْ يَجِدْ لِتَوْبَتِهِ مَفْزَعًا إِلَّا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}، ثُمَّ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَرَضَ الْخَيْلَ بِالْعَشِيِّ فَأَشْغَلَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَأَخَّرَ وَقْتُهَا، فَأَسِفَ وَنَدِمَ {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}، وَقَالَ تعالى فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} وَحَكَى جلَّ وعزَّ عَنْ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أَنَّهُ قَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}، ولما ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ الْأَنْبِيَاءَ نَبِيًّا نَبِيًّا، فَوَصَفَهُمْ ثُمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلَنَا مَعَ نُوحٍ وَمَنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} فَأُخْبِرَ عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ مَفْزَعَهُمْ كَانَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى "، وقد مَدَحَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فَبَدَأَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ قَبْلَ كُلِّ عَمَلٍ فَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فَمَدَحَهُمْ فِي أَوَّلِ نَعْتِهِمْ بِالْخُشُوعِ فِيهَا، ثُمَّ أَعَادَ ذِكْرَهَا فِي آخِرِ الْقِصَّةِ إِعْظَامًا لِقَدْرِهَا فِي الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ، وَلِمَا أَعَدَّ لِلْقَائِمِينَ بِهَا الْمُحَافِظَينَ عَلَيْهَا مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، وَنَعِيمِ الْمَآبِ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود.

الخطبة الثانية

عباد الله.. لَقَدْ شَدَّدَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْوَعِيدَ فِي تَرْكِهَا وَوَكَّدَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ أَخْرَجَ تَارِكَهَا مِنَ الْإِيمَانِ بِتَرْكِهَا، وَلَمْ تُجْعَلْ فَرِيضَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَامَةً بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ إِلَّا الصَّلَاةُ، فَقَالَ: «لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ» فَأَخْبَرَ أَنَّهَا نِظَامُ لِلتَّوْحِيدِ، وَأَكْفَرَ بِتَرْكِهَا كَمَا أَكْفَرَ بِتَرْكِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْ عَاهَدَ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادِ عَلَى الْإِيمَانِ فَقَالَ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَاةِ كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ».

عباد الله.. لقد وَكَّدَ اللَّهُ وجُوبَ الصلاة بِفَرْضِهَا في وقتها بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، فَقَالَ: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}، وتَوَعَّدَ بِالْعَذَابِ مَنْ أَضَاعَهَا أَوْ سَهَا عَنْهَا فَصَلَّاهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا أَوْ رَايَا بِهَا فَقَالَ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} والسهو عنها كما قال ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وابن عباس رضي الله عنهم: تأخيرها عن وقتها.

وإن المؤقِّت للساعة على ما بعد وقت الصلاة على خطَر، فالصلاة هي العهد فمن تركها فقد كفَر، أكثر ما يحصل ذلك في صلاة الفجْر، أفلا يُعْظِمُ هذا ربَّه، ويخاف ألا يرد الله عليه روحه التي إذا نام فهي بيد ذي الجلال والإكرام إن شاء أمسكها وإن شاء أرسلها، فأيُّ حال تَقدُمُ بها على ربك وقد عصيت أمره، فأضعت فرضه، فاللهَ اللهَ بالتوبة.

عباد الله ارغبوا فيما رغبكم فِيمَا الْملك القهار، من فضل الصَّلَاة على نبيه مُحَمَّد الْمُخْتَار، وَلَا تغفلوا عَن الصَّلَاة عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار، فَإِن الله ينجيكم بهَا من عَذَاب النَّار ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار، اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وصحابته أجمعين، وآله الطيبين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عنا وعن والدِيْنا والمسلمين، الأحياء منهم والميتين.

* مستفادة من كتاب تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي (المتوفى: 294هـ)