تعظيمُ عبادةِ الذّبحِ، وتعظيمُ شعيرةِ الأضحيةِ، ووصيةُ المسلمةِ بالحياء

عبدالمحسن بن محمد العامر
1445/12/10 - 2024/06/16 00:53AM

الحمدُ للهِ الرّبِّ المعبودِ تعظيماً وإجلالاً، المتفرّدِ بالوحدانيّةِ عزّةً وكمالاً، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ شهادةً لا تَقْبَلُ تأويلاً، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى على الخلقِ اختياراً وتفضيلاً؛ صلى اللهُ وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم تقديراً وتبجيلاً؛ إلى يومِ القيامةِ الأشدِّ تخويفاً وتهويلاً.

أما بعدُ فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ فإنها خيرُ الوصايا: "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا"

الله أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ

معاشر المؤمنين: يومُكمُ هذا يومٌ عظيم؛ عظَّمه اللهُ عزّ وجلَّ؛ على لسانِ رسولِه صلى اللهُ عليه وسلّم؛ إذْ قالَ عنه: "إنَّ أعظمَ الأيَّامِ عندَ اللَّهِ تبارَكَ وتعالَى يومُ النَّحرِ ثمَّ يومُ القَرِّ" رواهُ أبو داودَ وصحّحَه الألبانيُّ، هذا اليومُ العظيمُ شرعَ اللهُ فيه عباداتٍ عظميةً للحاجِّ ولغيرِ الحاجِّ، وسمّاهُ يومَ الحجِّ الأكبرِ فقالَ سبحانَه: "وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ" قالَ ابن كثيرٍ: (وهو يومُ النّحْرِ الذي هو أفضلُ أيّامِ المَناسَكَ وأظهرُها وأكثرُها جَمْعَاً)

وقدْ شرَعَ اللهُ فيه نَحرَ الأضاحي والهَدْيَ، وهذه عبادةُ الذّبحِ العظيمةُ التي عظّمها اللهُ فقالَ: "وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ"

فذبحُ الأضاحي ليسَ عادةً تُعمَلُ، ولا طقوساً تؤدّى، ولا شعاراتٍ ترفعُ؛ بل عبادُةٌ يُعظّمُ اللهُ فيها، ويُتقرّبُ إليه بها، قرَنَها اللهُ بالصلاةِ فقالَ عزَّ وجلَّ: "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" وأمرَ بِذِكْرِ اسمِه عندَ ذبحها، ونهى عن الأكلِ مما لم يّذكرِ اسمُه عليه فقالَ تعالى: "وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ"

ومِنْ تعظيمِ هذهِ الشعيرةِ العظيمةِ، أنْ حرّمَ اللهُ ذَبْحَ النّذورِ في أماكنِ الأصنامِ والأوثانِ، حِمايَةً لجنابِ التّوحيدِ، وسدّاً لكلِّ بابٍ يُخلُّ بالإخلاصِ في هذه العِبادَةِ، عن ثابتِ بنِ الضّحّاكِ رضيَ اللهُ عنه قالَ: "نذرَ رجلٌ على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ ينحرَ إبلًا ببوانةَ فأَتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال إنِّي نذرتُ أنْ أنحرَ إبلًا ببوانةَ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أكانَ فيها وثنٌ مِنْ أوثانِ الجاهليةِ يعبدُ قال لا فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أوفِ بنذركَ وأنهُ لا وفاءَ لنذرٍ في معصيةِ اللهِ تعالى ولا فيما لا يملكُ ابنُ آدمَ" رواه أبو داودَ وصحّحه الألبانيُّ.

وإنْ كانَ اللهُ طيّباً ولا يقبلُ إلا طيباً؛ ولا يُتَقرّبُ إليه إلا بالطيّباتِ والفضائلِ؛ فإنَّ الشركَ يحصلُ بذبحِ المحتقراتِ والمُستَقذراتِ؛ وما ذاكَ إلا لِعظمِ شأنِ عبادة الذّبحِ؛ فعنْ طارقِ بنِ شهابٍ رضيَ اللهُ عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلمَ قالَ: "مرَّ رجلان على قومٍ لهم صنمٌ لا يجوزُه أحدٌ حتى يُقرِّبَ له شيئًا فقالوا لأحدِهما : قرِّبْ قال: ليس عندي شيءٌ أقَرِّبُه قالوا : قربْ ولو ذبابًا فقرَّب ذبابًا، فخلُّوا سبيلَه فدخل النارَ وقالوا للآخرِ: قرِّبْ قال: ما كنتُ لأقربَ لأحدٍ شيئًا دونَ اللهِ عزَّ وجلَّ فضربوا عنقَه فدخل الجنةَ" رواه الإمامُ أحمدُ في كتابِ الزّهدِ وحسّنه الإمامُ ابن بازٍ.

وقدْ جمعَ اللهُ ورسولُه صلى اللهُ عليه وسلمَ بينَ الصّلاةِ وعبادَةِ الذّبحِ؛ فقالَ تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وصَلَّوْا صَلَاتَنَا، واسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وأَمْوَالُهُمْ، إلَّا بحَقِّهَا وحِسَابُهُمْ علَى اللَّهِ" رواه البخاريُّ.

وقدْ قرّرَ شيخُ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمه اللهُ أنّ عبادَة الذّبحِ أجلُّ وأفضلُ العباداتِ الماليّةِ فقالَ: (وَقَوْلُهُ: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ»: أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالنُّسُكُ الدَّالَّتَانِ عَلَى الْقُرْبِ وَالتَّوَاضُعِ وَالِافْتِقَارِ وَحُسْنِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى عُدَّتِهِ وَأَمْرِهِ وَفَضْلِهِ ؛ عَكْسُ حَالِ أَهْلِ الْكِبْرِ وَالنُّفْرَةِ وَأَهْلِ الْغِنَى عَنْ اللَّهِ الَّذِينَ لَا حَاجَةَ فِي صَلَاتِهِمْ إلَى رَبِّهِمْ يَسْأَلُونَهُ إيَّاهَا وَاَلَّذِينَ لَا يَنْحَرُونَ لَهُ خَوْفًا مِنْ الْفَقْرِ وَتَرْكًا لِإِعَانَةِ الْفُقَرَاءِ وَإِعْطَائِهِمْ وَسُوءِ الظَّنِّ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ.
وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى «قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» وَالنُّسُكُ هِيَ الذَّبِيحَةُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله، إلى أنْ قالَ رحمَه اللهُ: وَأَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ النَّحْرُ وَأَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ) انتهى كلامُه رحمَه اللهُ.

اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ

باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنّةِ، ونفعنا بما فيهما مِن العبر والحكمةِ.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم مِن كلّ ذنبٍ وخطيئةٍ إنّه كان غفّاراً.

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ على نعمةِ التوحيدِ، والشكرُ له على كلِّ فضْلٍ ومَزيدٍ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له الرّبُّ المجيدُ، وأشهدُ أنّ محمّداً عبدهُ ورسولُه المؤيّدُ بالمعجزاتِ خيرَ تأييدٍ، صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الوعيدِ.

اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ

أمّا بعدُ فيا عبادَ اللهِ: أتقوا اللهَ وعظّموا شعائره، كما قالَ جلّ شأنُه: "ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ"

ومِن تعظيمِ شعائرِ اللهِ: امتثالُ أمرِ اللهِ بعبادَةِ ذبحِ الأضاحي، وعدمُ تركها مع القدرةِ والاستطاعَة، قالَ صلى اللهُ عليه وسلّم: "مَن كان له سَعَةٌ ولم يُضَحِّ، فلا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانا" رواه ابنُ ماجه والإمامُ أحمدُ وصحّحَه الألبانيُّ

ومِن تعظيمِها: استسمانُها واستحسانُها واستعظامُها؛ كما قالَ ذلك ابن عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما.

وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ: كُنَّا نُسَمِّنُ الْأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسمّنون. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ومِن تعظيمِها: عدمُ الاكتفاءِ بما يجزئُ منها، بل الحرصُ على الأكملِ والأفضلِ، ومِن ذلكَ ذبحُ المُسنّةِ؛ قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "لا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً، إلَّا أنْ يَعْسُرَ علَيْكُم، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ" رواه مسلمٌ

اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ

أخواتي المسلماتِ: لقد شرّفكنَّ اللهُ بالإسلامِ، ورفعَ قدْرَكنَّ بالحياءِ، فحياءُ المرأةِ المسلمةِ حياتُها، وحياتُها في حيائِها قبلَ أنْ يكونَ في أزيائها، وحياءُ المرأةِ أصلٌ في خِلقتِها، وصِفَةٌ مِنْ ألزمِ صفاتِها، فلا تُعرفُ المرأةُ إلاّ بالحيَاءِ، وإذا ذُكرَ الحياءُ ذُكرَتِ المرأةُ، فهما صاحِبانِ مُتلازِمانِ، وقرينانِ لا يَنفكَّان، المرأة الحييَّة: هي امرأةٌ عَلمتْ أنّ اللهَ حييٌّ كريمٌ، وأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ أشدَّ حياءً مِنَ العذراءِ في خِدرها، وأنّ الملائكةَ الكرام كانت تَستحي مِنْ عثمانَ بنِ عفانَ - رضيَ اللهُ عنه - وأنّ الحياءَ شعبةٌ مِنَ الإيمانِ؛ فاستمسَكتْ بحيائها، وعاشتْ به، وماتَتْ عليه.

 هي امرأةٌ أيقنَتْ أنّ اللهَ - جلّ وعلا - مُطَّلعٌ عليها، رقيبٌ على فِعلِها، لا تغيبُ عنه غائبةٌ؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾؛ فاستحيَتْ مِنَ اللهِ - جلّ وعلا - أنْ يَراها حيثُ نهى، فأطاعتْ ما أمَرَ به - سبحانه - وتجنَّبَتْ ما نهى عنه، وبادَرتْ للتوبةِ عن كلِّ تقصيرٍ وزللٍ.
هي امرأةٌ صانَتْ نفسَها، وحَفِظتْ كرامَتَها، وتَسربَلتْ برداءِ العفَّةِ والحياءِ؛ فلا تُعرَفُ إلاّ بالفضيلةِ، ولا يُشارُ إليها إلا بخيرٍ، تَنأى بنفسِها عن مواردِ الرّيبَة ومظانِّ الفِتنةِ.
هي امرأةٌ لها نفسٌ كريمةٌ شريفةٌ رفيعةٌ أبيَّة، تَستحي مِن نفسِها؛ كأنَّ لها نَفسَينِ تَستحي بإحداهما أنْ تَطَّلعَ مِنَ الأخرى على ما يَعيبُ، فهي مُصانةٌ في سرِّها قَبْلَ عَلَنِها، وفي انفرادِها قبلَ تَجمُّعها، مُردِّدةً قولَ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -: "الحياءُ كلُّه خير" رواه مسلمٌ.

اللهم احفظ على نساءِ المسلمين دينهنّ وحياءَهنَّ، ووفقهنّ للخيرات وجنّبهنّ المنكرات، وارزقهنّ مِن خيري الدنيا والآخرةِ ما يرجونَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ

اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا اللهُ والله أكبرُ الله أكبرُ وللهِ الحمدُ

هذا وصلوا وسلموا ....

 

 

 

 

المشاهدات 496 | التعليقات 0