تعظيم شأن الدماء

عبدالله بن رجا الروقي
1435/02/08 - 2013/12/11 05:26AM
الخطبة الأولى
أما بعد فإننا في زمن قد تلاطمت فيه أمواج
الفتن وتحير في ظٓلمائها أصحابُ العقول والفِطَن.
فتنٌ تدع الحليم حيرانَ ؛ التبس فيها الحق بالباطل وتولى كِبرَ هذه الفتنِ دعاةُ جهنم الذين أخبرنا عنهم رسول الله ﷺ بقوله : دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
وإن من أعظم تلك الفتن ضرراً وأشدها على الناس وقعاً وخطراً سفكَ الدم الحرام بغير حق.
وقد أخبر النَّبيُّ ﷺ أنه ستأتي فتن في آخر الزمان يكثر فيها القتل والفتن حتى إن الرجل ليمر على القبر ويتمنى أن يكون فيه ، قال ﷺ : لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بالقبر فيقول : يا ليتني مكانه. رواه البخاري ومسلم.
وقال ﷺ : والذي نفسي بيده ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يدري القاتلُ في أيِّ شيءٍ قَتَلَ ، ولا يدري المقتولُ على أيِّ شيءٍ قُتِلَ. رواه مسلم.
وقد حدث ما أخبر به النبي ﷺ من كثرة القتل والتساهل فيه حتى إنك لاتدري علام يقتتل الناس ، وربما قاتل بعضهم بعضاً على أمور يسيرة ولكن الشيطان لم يتركهم حتى أوقعهم في سفك الدماء.
ومن هنا كان لابد من بيان شدة حرمة الدماء المعصومة وتحذير المسلمين من التساهل في الدماء فمن ذلك أن الله قرن القتل بالشرك به
وتوعد عليه بمضاعفة العذاب والخلود فيه مهاناً قال تعالى
﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾

ومن قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا قال تعالى :
﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾.

وجاء الوعيد الشديد الذي تنفطر له القلوب في
قتل المؤمن قال تعالى: ﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ﴾ .
قال العلامة ابن سعدي رحمه الله عند هذه الآية:
وذكر هنا وعيد القاتل عمداً وعيداً ترجف له القلوب، وتنصدع له الأفئدة، وينزعج منه أولو العقول، فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزءاه جهنم، أي فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجنهم بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار، فعياذاً بالله من كل سبب يُبعد عن رحمته. ا.هـ
وقد جاء الوعيد الشديد في قتل المعاهَد وهو كافر فكيف بالمسلم ، قال ﷺ : مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً. رواه البخاري.

ومما يبين عِظم حرمة الدماء ماجاء من التشديد في النهي عن الإشارة بالسلاح حتى لو كان من باب المزاح، قال ﷺ : لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده، فيقع في حفرة من حفر النار. متفق عليه.
وقال ﷺ : من أشار إلى أخيه بحديدة؛ فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه. رواه مسلم .
وأعظم من ذلك حمل السلاح على المسلمين؛ لقتالهم، قال ﷺ : من حمل علينا السلاح فليس منا. رواه البخاري .
وقد جاء الوعيد الشديد على المتقاتلين في الفتن قال ﷺ إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، قلت : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول ، قال : إنه كان حريصاً على قتل صاحبه . رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم : إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعاً.
أقول ماتسمعون وأستغفر الله....

الخطبة الثانية
أمابعد فقد بين النبي ﷺ عصمة دم المسلم والحرمةَ العظيمةَ له في أكبر اجتماع للمسلمين وذلك في يوم النحر قال ﷺ : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟" قالوا: نعم، قال: "اللهمّ اشهد، ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغٍ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" رواه البخاري ومسلم.
وقال ﷺ: كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله . رواه مسلم.
بل إن قتل المؤمن أعظم من زوال الدنيا كلها
قال ﷺ : والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا. رواه النسائي
فسبحان الله ما أعظم شأنَ الدماء وما أشدَ حرمتها.

ولجلالة قدر الدماء وشدة جُرم سافكيها فإنها أول مايُقضى فيه بين الناس قال ﷺ : أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" رواه البخاري ومسلم.

والمؤمن في سعة من دينه مالم يتلطخ بدم مسلم
فإذا وقع في ذلك فقد وقع في الحرج والضيق قال ﷺ: لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً.رواه البخاري.
وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما مبيناً أن قتل النفس المحرمة ورْطة عظمى:
إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حله. رواه البخاري.
فعلى المسلم أن يحذر أن يكون سبباً في سفك دم بغير حق.
ولله كم من دماء يُسألُ عنها من لم يضرب فيها بسيف ولا بسهم ، وإنما هي الكلمة التي تكون سبباً في ذلك فإن الفتنة أولها كلام وآخرها سهام.

عباد الله
إن أسباب النجاة من الفتن كثيرة أذكر منها ثلاثة أسباب أولها اللجوء إلى من بيده أزمة الأمور سبحانه وتعالى بالإقبال عليه بالدعاء
في أن ينجيك من الفتن يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: تكون فتن لايُنجي منها إلا دعاء كدعاء الغريق.
وإن من أعظم الأدعية ما كان يدعو به النبي ﷺ : اللهمَّ ! ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ . فاطرَ السماواتِ والأرضِ . عالمَ الغيبِ والشهادةِ . أنت تحكم بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون . اهدِني لما اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنِك إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ . رواه مسلم.
فحري بالمسلم الحرص عليه والإكثار منه.
ومن أسباب النجاة طلب العلم وأخذه عن العلماء الربانيين ، فإن العلم يكشف لصاحبه الملتبسات
وهو نور يبصر به في دياجي الظلمات ، ولهذا فإن الفتن إذا أقبلت لايعرفها إلا العلماء ، وإذا أدبرت عرفها العالم والجاهل.
ومن أسباب النجاة الإقبال على العبادات بأنواعها فإن لها فضيلة عظيمة وخاصة زمن الفتن قال ﷺ: العبادة في الهرج ، كهجرة إلي. رواه مسلم.
والهرج : الفتن ومنها القتل.
وفي الحديث فضل ظاهر للعبادة زمن الفتن فإنها كالهجرة وليس كالهجرة فقط بل كالهجرة إلى رسول الله ﷺ، فياله من فضل عظيم.
اللهم إنا نعوذ من الفتن اللهم ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب...
المشاهدات 1853 | التعليقات 0