تعظيم الله جلّ جلاله

عبدالرحمن سليمان المصري
1446/05/19 - 2024/11/21 23:44PM

تعظيم الله جل جلاله

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ الكبيرِ المُتعال ، ذي العظَمةِ والجَلال ، ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) ﴾الإسراء ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .    أما بعد :

أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131 .

عباد الله: إنّ الإيمان بالله تعالى مبني على التعظيم والإجلال له عزّ وجل ، فتعظيمُ الله في القلوب وإجلالُهُ في النفوس ، والتعرّفُ على آلائِهِ وأفضَالِهِ ، وقَدْرُهُ حقَّ قدرِهِ ؛ هو زادُ العابدين ، وقوّةُ المؤمنين ، و سياجُ المتَّقين.

والعظيمُ اسم من أسمائه عز وجل ، والعظمة صفته جل وعلا ، قال تعالى:﴿  وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ ، وقال تعالى في الحديث القدسي: " ‌الْكِبْرِيَاءُ ‌رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ ‌إِزَارِي ، ‌فَمَنْ ‌نَازَعَنِي

‌شَيْئًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ " رواه أحمد بسند صحيح.

فهو جلَّ جلالُه عظيمٌ في ذاته ، وفي أسمائه وصفاته ، عظيمٌ في رُبوبيتِه وأُلوهيتِه، وفي مُلكِه وخَلقِه، وفي جبروتِه وكبريائه، وفي هِبَتِه وعطائِه، وفي بِرِّهِ وإحسانِه، وكلُّ عظَمةٍ في الوجودِ فهي دليلٌ على عظمةِ خالقِهَا ومدبِّرهَا ، ذلَّت

لعظمته جميعُ الموجوداتِ، وخضعتْ لعزتِه جميعُ الكائناتِ، فالكلُّ تحتَ سلطانِه وقهرِه ، ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾آل عمران:83 ،

عباد الله : ربُّكم الذي تعبدون ، وله تصلّون وتصومون ، وإليه تسعون وتحفِدون ، ربٌّ عظيم ، له من صفاتِ الكمال والجلالِ ما يفوق الوصفَ والخيال، ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ الإسراء: 111.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ ‌يَجْعَلُ ‌السَّمَاوَاتِ ‌عَلَى ‌إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ

الْخَلَائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ؛ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ

بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ الزمر: 67 ، رواه البخاري .

عباد الله: وإنَّ مما يعين العبد على تحقيق عبودية التعظيم للرب جل جلاله ، معرفة أسماء الله الحسنى وصفاتهِ العلى بمعانيها ، ﴿ وَلِلَّهِ ‌الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ فالله المجيد  والكبير  والعظيم ،  فهو الموصوف بصفات المجد والكبرياء

والعظمة والجلال ، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء .

ومِنْ دَلائِلِ عَظَمَته سبحانه: أنه لا يقدر أحَدٌ أَنْ يَراه في هذه الدنيا ؛ قال صلى الله عليه وسلم "حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ، مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " رواه مسلم .

ولما سَأَل َ موسى عليه السلام  رؤية الله تعالى ﴿ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ  ﴾ قال ابن عباس

رضي الله عنهم ا : مَا تَجَلَّى مِنْهُ إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ .

عباد الله : والتفكّر في مخلوقات الله سبحانه والتبصُّر بآياته ؛ يزكي النفوس ويرسخ الإيمان في القلوب ، ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ وكلُّ عظمةٍ في الوجودِ فهي دليلٌ على عظمةِ

خالقِهَا ومُدبِّرهَا .

قال, صلى الله عليه وسلم : " ‌أُذِنَ ‌لِي ‌أَنْ ‌أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ ، مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ " رواه أبو داود وصححه الألباني .

وقد علم ملائكتَهُ أجمعون عظمتَهُ سبحانه ؛ فخافُوه وأذعنوا له ، وعظموه وسبحوه ، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ الأنبياء: 19، 20.

عباد الله: ولما أشرك بعض عباده به ، وادّعوا له الولد ؛ فزعت الموجودات من هذا الإفك العظيم، وأوشك الكون أن يضطرب ويختلط تعظيما لله تعالى ، وفَرَقَا منه أن يُشرِكَ بهِ بعضُ خلقِهِ ، لولا أن الله تعالى قدّر له أن يسكن وينتظم ،

قال تعالى:﴿  تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا  ﴾ مريم: 90 – 95 .

 

 بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا .        أما بعد :

عباد الله : أَمَرَ الله سبحانه عبادَهُ بتعظيمِه ، قال تعالى:﴿  فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾، وكلُ مُعَظَّمٍ في الدُنيا إنما يُعَظَّمُ لحالٍ دُونَ حال، وفي زمانٍ دونَ زمان، فمنهم من يُعَظَّمُ لجاهٍ أو سلطان، ومنهم مَنْ يُعَظَّمُ لعلمٍ أو مال، وربُّنَا تقدَّسَتْ

أسماؤُه يُعَظَّمُ في كُلِّ الأحوال ، وعقولُ البَشَرِ قاصرةٌ عن إدراكِ عظَمَتِه ، ﴿ولا يُحِيطُونَ بهِ عِلْمًا  ﴾طه:110 .

إنه العظيم جل جلاله: ابتلى إبراهيمَ بكلمات، وسمع نداء يونُسَ في الظلمات، واستجاب لزكريا فوهبه على الكبر يحي هادياً مهديا، وحناناً من لدنه وكان تقياً، أزال الكَرب عن أيوب، وألان الحديد لداود، وسخر الريح لسليمان، وفلق البحر

لموسى، ورُفع إليه عيسى، وشق القمر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، نجّى هوداً وأهلك قومه، ونجى صالحاً من الظالمين، فأصبحَ قومَهُ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وفدى إسماعيل بذبحٍ عظيم، وجعل عيسى

وأُمَهُ آيةً للعالمين ، ونجى لوطاً وأرسل على قومه حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ، ونجى شعيباً برحمته، وأهلك أهل مدين بعدله ،﴿ أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ هود:95، أغرق فرعون وقومه، ونجّاه ببدنه ليكون لمن خلفه آية، وخسف

بقارون وبداره الأرض ﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ القصص:82 .

عباد الله : إن المسلم متى آمن بأن الله عز وجل ؛ أكبرُ من كلِ شيءٍ، وأن كل شيءٍ مهما كَبُرْ ، يَصْغُر عند كبرياء الله وعظمته ، عَلِم عِلْم اليقين ، أن كبرياء الرب وعظمتَه ، وجلالَه وسائرَ أوصافه، أمرٌ لا يمكن أن تُحيطَ به العقول ، أو

تتصَوَّره الأفهام ، إن القلوب إذا عظَّمتِ الله ، عَظُمَ في النفوسِ شرعُ الله ، وعظُمت حُرمات الله ، وصَلَحت أحوالُ العباد ؛ ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ الحج: 32 ، فيا عجبا للمشركين كيف تركوا الخضوع والذلَ

للربِّ العظيمِ ، وصَرفوا رجاءهم وخوفهم ، إلى مخلوقاتٍ ضئيلةٍ ، وكائناتٍ ذليلة، لا تملك لنفسها شيئاً من  النَّفْع والضُّر، فضلاً عن أن تمنحه لغيرها، ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

الْعَالَمِينَ  ﴾الصافات.

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب : 56.

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

المرفقات

1732221838_تعظيم الله جل جلاله خطبة.docx

1732221839_تعظيم الله جل جلاله خطبة.pdf

المشاهدات 292 | التعليقات 0