تعظيم الصلاة وأخذ الزينة لها

محمد بن عبدالله التميمي
1445/10/23 - 2024/05/02 21:59PM

تعظيم الصلاة وأخذ الزينة لها

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جعل الصلاة عماد الدين، ومناجاة له جلَّ جلالُه وهو ربُّ العالمين، وصلةً قويةً بين عباده المؤمنين، أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسولُه القانتُ لربه، المقيمُ لفرضه، الذي كانت له الصلاةُ قرَّةُ العين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا للصلاة مقيمين وفي الخيرات مسارعين، صلى الله عليه وسلَّمَ وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فاتقوا الله تعالى عباد الله، وأعِدُّوا لِيوم لقاه، وأقيموا وحافظوا على الصلاة، وخذوا زينتكم لها واخشعوا فيها واستحضروا لذةَ المناجاة، ودوموا على ذلك جماعةً في مساجد الله، فإنها أول عملٍ يُحاسبُ عليه الإنسانُ في أُخراه.

عباد الله.. لقد مدح الله المؤمنين وأثنى عليهم في إقامتهم لصلاتهم، وخشوعهم فيها، ومحافظتهم عليها في غير ما آيةٍ من كتابه، وأخبر أنهم على هدايةٍ من ربِّهم، وَوَعَدَهُم الفلاحَ وهو حصولُ ما يطلبون مِنَ الفوزِ والكرامةِ وحُسنِ المآب، ودَفْعُ ما يَكْرَهُون من الإهانةِ والشقاءِ والعذاب، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ثم قال بعد صفاتٍ أُخَرُ قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}.

عباد الله.. الصلواتُ الخمسُ المفروضة مواعيدُ لمناجاة ملك الملوك سبحانه، والوقوف بين يديه جل جلاله، فيَتلُوا المصلي الآيات ويُعِظِّمُ ويُمجِّدُ ويَحْمَدُ ويُسَبِّح فاطرَ الأرض والسماوات ويَستعينُ به ويَدعوه ويُوحِّدُه، ورَبُّه تبارك وتعالى يُجيبُه، فمقامُ المصلي أشرفُ المقامات وأكبرها لذةً ورَوحانية.

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرف مقام المصلي: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ» أخرجه البخاري، وفي السنن أنه ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ أَمْرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا نَصَبْتُمْ وُجُوهَكُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ حِينَ يُصَلِّي لَهُ، فَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ وَجْهَهُ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ هُوَ يَنْصَرِفُ»، وفيها أيضًا أنه ﷺ قال: «لَا يَزَالُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ»  لذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد في صلاته قال الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وفي صحيح مسلم أنه ﷺ قال: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ».

وفي مقام المناجاة في الصلاة يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «الْمُصَلِّي يَقْرَعُ بَابًا، وَمَنْ يُدِمْ قَرْعَ بَابِ الْمَلِكِ يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ»، ويقول بكرُ المُزَني رحمه الله: «مَنْ مِثْلُكَ يَا ابْنَ آدَمَ خُلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمِحْرَابِ وَالْمَاءِ كُلَّمَا شِئْتَ دَخَلْتَ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ».

فإذا استشعر المصلي مناجاة الملكِ جلَّ جلالُه؛ خَضَعَ قَلبُه وخَشَعَ، وأَقْبَلَ على الصلاة بكلِّ جوارحِه فَخَشَعَتْ كلُّها، لذا يُشْرَعُ أن يقول في ركوعه: «اللهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي»، وهذا يزيد المؤمن تَلَذُّذًا بالصلاةِ وأُنْسًاً وطُمَأْنِيْنَة. قال محمد بن واسع: «ما بقي في الدنيا شيء ألذ من الصلاة في الجماعة».

عباد الله.. إن من أجلِّ مقاماتِ العبد شأنًا، وأرفعِها حالًا، وأعظمِها قدرًا= وقوفَه بين يدي ربه في صلاته، فذلك مقامٌ عظيم، مَن وعَى قدرَه أحسَن مقامه بين يدي الله سبحانه، وقد أخرج المَرْوَزي عن أبي هريرة رضي الله عنه: «إِذَا قَامَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ فِي مَقَامٍ عَظِيمٍ، وَاقِفٌ فِيهِ عَلَى اللَّهِ يُنَاجِيهِ وَيَرْضَاهُ، قَائِمًا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، يَسْمَعُ لِقِيلِهِ، وَيَرَى عَمَلَهُ، وَيَعْلَمُ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، فَلْيُقْبِلْ عَلَى اللَّهِ بِقَلْبِهِ وَجَسَدِهِ، ثُمَّ لِيَرْمِ بِبَصَرِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ خَاشِعًا، أَوْ لِيَخْفِضْهُ فَهُوَ أَقَلُّ لِسَهْوِهِ، وَلَا يَلْتَفِتْ وَلَا يُحَرِّكْ شَيْئًا بِيَدِهِ وَلَا بِرِجْلَيْهِ، وَلَا شَيْءٍ مِنْ جَوَارِحِهِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلْيُبْشِرْ مَنْ فَعَلَ هَذَا، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ». وذاك الشعورُ الإيمانيُّ العظيمُ سِرٌّ من أسرارِ اسْتِلْذَاذِهم بطولِ القيام؛ يقول مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ: «مَا تَلَذَّذَ الْمُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ الْخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ».

أيها المسلمون، وقوف المصلي في مصلاه إيذانٌ برحمة عظيمة من أرحم الراحمين، تستقبله وتغشاه إن هو شرع في صلاته وكان مقبلًا عليها بقلبه ووجهه؛ يقول النبي ﷺ: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه».

ولقد شرع الله -يا عباد الله- أَخْذَ الزِّينةِ للصَّلاة، وذلك مِن تعظيمِ الله، وأَثَرِ استحضار المناجاة، فإنَّ مَن عظَّم من يناجي ويقف بين يديه يَسْتعدُّ له، ويُحْسِّنُ ظاهره، قال الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبه؛ فإن الله أحق أن يتزين له»، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»، هذا مع ما لحُسْنِ الهيئة وجمال المظهر على النفس والناس من تأثيرٍ لا يُنكَر، وتعظيمٍ لله وإجلالا، وتعظيمٍ لبيتِ الله ولعبادِ الله.

بارك الله لنا ولكم في الآيات والذكر، ورزقنا الحمد والشُكر، وأسأله سبحانه لي ولكم وللمسلمين العَفْوَ والغَفْر ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾.

***

الخطبة الثانية

الحمد لله له الخلق والأمر، أحمده سبحانه وأشكره له الحمدُ والشكر، أشهد ألا إله إلا الله إلا الله وحده لا شريك له، أعوذ بك من الشرك والكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأخْيَر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغُر، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:

فإن الله تعالى قد شرَع للمسلمين في أعيادهم السنوية والأسبوعية -عيد الفطر والأضحى والجمعة- التَّجَمَّلَ في الـمَلْبَسِ والهيئةِ؛ وذلك لِيَظْهَرَ المسلمُ بالـمَظْهَرِ الَّذِي يَلِيْقِ به من نَظَافَةِ الـمَلْبَسِ وزكاء النَّفَس وطِيْب الرائحةِ، وفي ذلكَ تأكيدٌ للأُلْفَةِ بين المسلمين وإزالةٌ لأسباب النُّفْرَةِ والكَراهية فيما بينهم، ولا سيما في تلك المجامع وقد قال ﷺ أنه قال: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ»، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَخَذَهَا فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ» الحديثَ، فالتَّجَمُّلُ لِلْعِيْدِ بالجُبَّة ونحوها المشْلَحُ كان عادةً متقرِّرَةً عندهم، وكذا الجمعة، فلْيُظْهِر الإنسان هذا التهيؤ للجمعة وأخذُ الزينة لهذا المجمع، وإنَّه لأَشْرَفُ مِن مَحَافِلِ الدُّنْيَا وأَرْفَع. يقول الإمام الشافعي: وَأُحِبُّ أَنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ فِي الْأَعْيَادِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَمَحَافِلِ النَّاسِ، وَيَتَنَظَّفَ، وَيَتَطَيَّبَ.

المشاهدات 886 | التعليقات 0