تَعْظِيمُ أَمْرِ الْفُتْيَا 16 شَوَّالٍ 1434هـ

محمد بن مبارك الشرافي
1434/10/14 - 2013/08/21 17:48PM
تَعْظِيمُ أَمْرِ الْفُتْيَا 16 شَوَّالٍ 1434هـ
الْحَمْدُ للهِ الذِي أَظْهَرَ دِينَهُ الْمُبِين وَمَنَعَهُ بِسِيَاجٍ مَتِين ، فَأَحَاطَهُ مِنْ تَحْرِيفِ الْغَالِين وَانْتِحَالِ الْمُبْطَلِين وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِين . وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، سَخَّرَ لِدِينِهِ رِجَالاً قَامَ بِهِمْ وَبِهِ قَامُوا ، وَاعْتَزَّ بِدَعْوَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَبِهِ اعْتَزَّوا ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ،صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلامُهُ عَلَيْه ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِين ، وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين .
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ , وَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ تَكَاثَرَتْ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلامِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَالأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللهُ , فِي تَحْرِيمِ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ , وَفِي عِظَمِ جُرْمِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ , وَذَلِكَ لِمَا لَهُ مِنْ أَثَرٍ سَيِّئٍ وَنَتَائِجَ وَخِيْمَةٍ فِي إِضْلالِ النَّاسِ , وَالْوُقُوعِ فِي تَحْرِيفِ كَلامِ اللهِ أَوْ كَلامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مِمَّا يَجُرُّ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الشِّرْكِ وَانْتِشَارِ الْبِدَعِ الاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ , وَهَدْمِ الذِي خُلِقَتْ مِنْ أَجْلِهِ البَرِيَّة !
وَمَعَ الأَسَفِ فَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعِي خُطُورَةَ مَا يَفْعَلُ , وَلِذَلِكَ فَلَا يَنْتَهِي إِذَا نُهِيَ وَلَا يَرْتَدِعُ إِذَا نُوصِحَ !
قَالَ اللهُ تَعَالَى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ , وَبَدَأَ بِأَسْهَلِهَا وَهُوَ الْفَواحِشُ , ثُمَّ ثَنَّى بِمَا هُوَ أَشَدَّ تَحْرِيمًا مِنْهُ وَهُوَ الإِثْمُ وَالظُّلْمُ , ثُمَّ ثَلَّثَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمَاً مِنْهُمَا وَهُوَ الشَّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ , ثُمَّ رَبَّعَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمَاً مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِلَا عِلْم .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا) قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ سَعْدِيٍّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ : أَيْ : وَلا تَتَّبِعْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، بَلْ تَثَبَّتْ فِي كُلِّ مَا تَقُولُهُ وَتَفْعَلُهُ ، فَلا تَظُنُّ ذَلِكَ يَذْهَبُ , لا لَكَ وَلا عَلَيْكَ (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} , فَحَقِيقٌ بِالْعَبْدِ الذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ مَسْئُولٌ عَمَّا قَالَهُ وَفَعَلَهُ , وَعَمَّا اسْتَعْمَلَ بِهِ جَوارِحَهُ التِي خَلَقَهَا اللهُ لِعِبَادَتِهِ أَنْ يُعِدَّ لِلسُّؤَالِ جَوَابَاً ، وَذَلِكَ لا يَكُونَ إِلَّا بِاسْتِعْمَالِهَا بِعُبُودِيَّةِ اللهِ وَإِخْلاصِ الدِّينِ لَهُ وَكَفِّهَا عَمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ تَعَالَى .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَإِنَّ مِمَّا يُبِيِّنُ عِظَمَ أَمْرِ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ : أَنَّ أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِرَبِّهِ وَبِدِينِهِ مَا كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لا يَعْلَمُ , فَكَمْ نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنْ آيَةٍ فِيهَا الْفَتْوَى مِنَ اللهِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَلَمْ يُجِبْ , فَتَوَلَّى اللهُ الْجَوَابَ لِعِبَادِهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ اللهُ تَعَالَى (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) وَقَالَ تَعَالَى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) وقال عَزَّ وَجَلَّ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) وَهَكَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْقِصَّةَ : عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم ، فَقَالَ : أَيُّ الْبِلاَدِ شَرٌّ ؟
قَالَ : لاَ أَدْرِي فَلَمَّا أَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم قَالَ : يَا جِبْرِيلُ ، أَيُّ الْبِلاَدِ شَرٌّ ؟ قَالَ : لاَ أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي .
فَانْطَلَقَ جِبْرِيلُ ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ الله ، ثُمَّ جَاءَ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّكَ سَأَلْتَنِي أَيُّ الْبِلاَدِ شَرٌّ ؟ قُلْتُ : لاَ أَدْرِي ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقُلْتُ : أَيُّ الْبِلاَدِ شَرٌّ ؟ قَالَ : أَسْوَاقُهَا) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالأَلْبَانِيُّ .
فَيَا سُبْحَانَ اللهِ : أَعْلَمُ الْبَشَرِ وَأَعْلَمُ الْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يَتَوَقَّفَانِ وَلا يَتَكَلَّمَانِ فِيمَا لا يَعْلَمَانِ , فَمَا بَالُنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ يَكُونُ عِنْدَ الإِنْسَانِ مِنَّا نُتَفٌ مِنَ الْعِلْمِ فَيَتَصَدَّرُ الْمَجَالِسَ وَلا يَكَادُ يَتَوَقَّفُ فِي مَسْأَلَةٍ ! بَلْ وَيَتَطَاوَلُ عَلَى العُلَمَاءِ وَيُوَجِّهُهُمْ كَيْفَ يَقُولُونَ , وَمَاذَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَوَاقِفُهُمْ , وَرُبَّمَا تَكُونُ ثَقَافَتُهُ الدِّينِيَّةُ مِنَ الجَرَائِدِ أَوِ الْمَوَاقِعِ الإِلَكْتَرُونِيَةِ , وَمَعَ هَذَا لَا يَتَوَرَّعُ مِنَ الدُّخُولِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ ! حَتَّى وَصَلَ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَالِمُونَ إِلَى الكَلَامِ فِي الدُّوَلِ وَالرُّؤَسَاءِ , وَفِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْهَبُهُ كِبَارُ العُلَمَاءِ وَفُحُولُ الأَئِمَّة , وَمَا ذَاكَ وَاللهِ إِلَّا بِسَبَبِ قِلَّةِ العِلْمِ وِالدِّيَانَةِ !!!
قَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُفْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ , وَلَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْر .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَقَدْ كَثُرَ عَنْ سَلَفِ الأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا الْخَوْفُ مِنَ الْفَتْوَى وَالتَّهَيُّبُ مِنَ الدُّخُولِ , فِيهَا مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ , قَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ رَحِمَهُ اللهُ وَكَانَ مِنَ التَّابِعِينَ : أَدْرَكْتُ أَقْوَامَاً يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنْ الشَّيْءِ فَيَتَكَلَّمُ وَهُوَ يَرْعُدُ !
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ , وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ : اللَّهُ أَعْلَمُ , فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ : اللَّهُ أَعْلَمُ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتةٍ لَه : مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيُعَلِّمْهُ النَّاسَ , وَإِيَّاهُ أَنْ يَقُولَ مَا لا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَيَمْرُقُ مِنَ الدِّينِ , وَيَكُونُ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ . رَوَاهُ الدَّارَمِيُّ .
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَحْدَثَ رَأْيَاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْرِ عَلَى مَا هُوَ مِنْهُ إِذَا لَقِيَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ . رَوَاهُ الدَّارَمِيُّ أَيْضاً .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللهُ قَالَ : أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَاِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إِلَّا وَدَّ أَنْ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ , وَلا مُفْتٍ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا . رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
فَهَذِهِ - أَيُّهَا الإِخْوَةُ - جُمْلَةٌ مِنَ الأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَثُلَّةٌ مِنَ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَخُلَاصَةٌ لِكَلامِ سَلَفِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِ الْفَتْوَى , فَهَلْ فِي ذَلِكَ لَنَا مُقْنِعٌ ؟ وَهَلْ يَحْصُلُ لَنَا زَاجِرٌ عَنِ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَعَنِ الْفَتْوَى بِغَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلا مَعْرِفَةٍ ؟
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ الْوَاجِبَ حِينَئِذٍ أَنْ نَرُدَّ الأَمْرَ إِلَى أَهْلَهِ , وَنَرْجِعَ إِلَى الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ , الذِينَ عُرِفُوا بِالْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَأَمْضُوا سِنِيَّ أَعْمَارِهِمْ مَعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَقَدْ دَرَاتِ الْفَتْوَى عَلَى أَقْوَالِهِمْ , وَانْتَشَرَتْ كُتُبُهُمْ وَفَتَاوَاهُمْ فِي الآفَاقِ , قَالَ اللهُ تَعَالَى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون)
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَسْتَمِعُ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُ أَحْسَنَهُ , أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .

الْخُطَبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ , وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الفَتْوَى أَمْرُهَا عَظِيمٌ , كَانَ الْمُسْتَفْتِي مَطْلُوباً مِنْهُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الْمُفْتِي , وَالتَّأَدُّبُ مَعَهُ عِنْدَ الاسْتِفْتَاءِ , وَلِذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ قَدِيمَاً وَحَدِيثَاً آدَابَاً جَلِيلَةً وَطُرُقَاً جَمِيلَةً يَتَحَلَّى بِهَا الْمُسْتَفْتِي , وَهَذَا مِنْ رَفِيعِ الآدَابِ التِي زَخَرَ بِهَا دِينُنَا !
فَمِنْ ذَلِكَ : أَلَّا يَسْتَفْتِي إِلَّا مَنْ يَعْلَمُ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْفَتَوَى , وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ أَوْثَقَ الْمُفْتِينَ عِلْمَاً وَوَرَعَاً , لِأَنَّ هَذَا دِينٌ , وَلا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يُقَلِّدَ في دِينِهِ مَنْ لا يَعْلَمُ .
وَهُنَا يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ العَالِمِ الذِي هُوَ أَهْلٌ لِلْفَتَوَى وَبَينَ مَنْ دُونَهُ مِمَّنْ هُمْ عَلَى خَيْرٍ لَكِنْ لَيْسُوا مُتَأَهَّلِينَ لِلْتَصَدُّرِ وَالفَتْوَى .
فَلَيْسَ كَلُّ مَنْ حَمَلَ شَهَادَةً شَرْعِيَّةً صَارَ أَهْلاً لِلْإِفْتَاء , وَلَيْسَ كَوْنُ الشَّخْصِ صَاحِبَ قَلَمٍ سَيَّالٍ فِي التّعْبِيرِ عَنْ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّدِّ عَلَى أَعْدَاءِ الإِسْلامِ , لَيْسَ ذَلِكَ مُؤَهِّلاً لَهُ لِيَتَصَدَّرَ فِي قَضَايَا الْمُسْلِمِينَ العَامَة , وَكَذَلِكَ فَلَيْسَ الْخَطِيبُ الْمُفَوَّهُ أَوِ الدَّاعِيَةُ الْمُؤَثِّرُ هَوَ مَنْ يُسْتَفَتَى وَيَرْجِعُ النَّاسُ إِلَيْهِمْ !
فَيَجِبُ أَنْ تُرَدَّ الأَمُورُ - وَخَاصَّةً مَا كَانَ خَطِيراً وَلِعُمُومِ الأُمَّةِ - إِلَى الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ , مِمَّنْ شَابَتْ لِحَاهُمْ وَابْيَضَّتْ رُؤُوسُهُمْ فِي مَيْدَانِ العِلْمِ , مَعَ الاحْتِفَاظِ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عُرِفُوا بِالْخَيْرِ بِالاحْتِرَامِ وِالتَّقْدِيرِ , كُلٌّ بِحَسَبِ مَنْزِلَتِهِ اللائِقَةِ بِه .
وَأَمَّا مَنْ يَقُولَ : إِنَّ هَؤُلَاءِ كِبَارُ سِنٍّ وَلَايَفْهَمُونَ وَاقِعَ الأُمَّةِ , بِخِلَافِ الدَّاعِيَةِ الفُلَاِني مِمَّنْ يَعْرِفُ التَّقْنِيَةَ الْحَدِيثَةَ , وَلَهُ كَذَا وَكَذَا مِنَ الأَتْبَاعِ عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصُل !!! فَهَذَا وَاللهِ مِنْ أَخْطَرِ الكَلامِ وَمِنْ أَسْوَءِ الْمَنَاهِجِ , وَمِمَّا يُسَبِّبُ فِي عَزْلِ الأُمَّةِ عَنْ عُلَمَائِهَا !!!
وَأَقَلُّ مَا نَرُدُّ بِهِ هَذِهِ الشُّبْهَةَ : أَنْ نَقُولَ : تَعَالَ أَيُّهَا الفَقِيهُ لِلْوَاقِعِ وَاعْرِضْ قَضِيَّتَكَ وَفَهْمَكَ عَلَى كِبَارِ العُلَمَاءِ ثُمَّ دَعْهُمْ يَحْكُمُونَ , بِنَاءً عَلَى عِلْمِهِمِ الرَّاسِخِ وَبِمَا أَعْطَيْتَهُمْ , أَنْتَ مِنْ فِقْهِكَ لِلْوَاقِع .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنَ الآدَابِ التِي يُرَاعِيهَا الْمُسْتَفْتِي : أَنْ يُرِيدَ بِاسْتِفْتَائِهِ الْحَقَّ وَالْعَمَلَ بِهِ , بِخِلافِ مَنْ يُرِيدُ بِاسْتِفْتَائِهِ الرُّخَصَ وَإِفْحَامَ الْمُفْتِي وَضَرْبِ أَقْوالِ العُلَمَاءِ بَعْضِهَا بِبَعْض , فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفْتِي كَالْمَرِيضِ عِنْدَ الطَّبِيبِ فَيَقْصِدُ بِسُؤَالِهِ الْوُصُولَ إِلَى الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ لا تَتَبُّعَ الرُّخَصِ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ السَّيْئَةِ .
وَمِنَ الآدَابِ : أَنْ يَصِفَ حَالَهُ لِلْمُفْتِي وَصْفَاً دَقِيقَاً , وَيُبِيِّنَ مُلابَسَاتِ الْمَسْأَلَةِ وَلا يُخَبِّئُ شَيْئَاً , ولا يَنْصَرِفَ مِنْهُ إِلَّا وَقَدْ فَهِمَ الْجَوَابُ تَمَامَاً .
وَمِنَ الآدَابِ : أَنْ يَحْرِصَ الْمُسْتَفْتِي أَنْيُظْهِرَ تَوَاضُعَهُ وَاحْتِرَامَهُ وَتَقْدِيرَهُ لِمُفْتِيهِ فَلا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَقْطَعُ حَدِيثَهُ أَوْ يَقْسُو فِيسُؤَالِهِ , أَوْ يَقُولُ : قَدْ أَفْتَانِي فُلانٌ بِخِلافِذَلِكَ , لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ لِكُلِّ مُفْتٍ فَتْوَاهُ ، وَلَوْ لَمْ يَرْتَضِيهِ لَمْ يَسْأَلْهُ , فَمَا الْفَائِدَةُ مِنْ ذِكْرِذَلِكَ .
وَمِنْ جَمِيلِ أَدَبِ الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَدْعُوَ لِمُفْتِيهِ قَائِلاً : مَاتَقُولَ عَفَا اللهُ عَنْكَ , أَوْ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ، فَإِنَّهَا أَدْعِيَةٌ مُبَارَكَةٌ يَسْتَحِقُّهَا مَنْأَفْتَاكَ ، وَهُوَ مِنْ رَدِّ الْجَمِيلِ , وَهَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَان .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الآدَابِ الْجَمِيلَةِ وَمَجْمُوعَةٌ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ التِي يَنْبَغِي لَنَا التَّأَدُّبُ بِهَا مَعَ عُلَمَائِنَا وَوَرَثَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ اسْتِفْتَائِهِمْ !
فَاللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنِ اسْتَمَعَ الْقَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَهُ , اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمَاً نَافِعَاً وَعَمَلاً صَالِحَاً , اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَيْكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ , اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ عُلَمَائِنَا وَاغْفِرْ لِمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنْهُمْ وَاحْفَظْ مَنْ أَبْقَيْتَهُ حَيَّاً وَانْفَعْنَا بِعُلُومِهِمْ وَآدَابِهِمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ . وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ , والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
المرفقات

تَعْظِيمُ أَمْرِ الْفُتْيَا 16 شَوَّالٍ 1434هـ.doc

تَعْظِيمُ أَمْرِ الْفُتْيَا 16 شَوَّالٍ 1434هـ.doc

المشاهدات 2709 | التعليقات 3

جزاك الله كل خير ونفع بك وبعلمك


نفع ربي شيخ محمدبعلمك وكتاباتك والتي تلاقي إعجاب وتفاعل كثير من الأعضاء.
وإضافة إلى ما ذكرت أن ما أصاب المسلمين يوم أصابهم إلا حين أرجعوا الأمر إلا غير أهله وسـألوا عن الميراث من غيرا وارثه
كما أشكر الأخ شبيب القحطاني الذي يجوب المنتدى متفاعلا ومشاركا فهذه دعوة منه وجهاد وتعاون على الخير والبر والتقوى.


وإياك أخي الفاضل زياد
نسأل الله أن يوفق جميع إخواننا أعضاء المنتدى لكل خير وتقى وصلاح