«تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ »
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يقول الله تعالى :( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) ويقول :( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) فَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَسْتَقْبِلُ فَرِيضَةً عَظِيمَةً، وَرُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ دِينِهَا: فَرِيضَةُ الْحَجِّ رُكْنَ الْإِسْلَامِ، وَتَمَامَ النَّعَمَةِ، وَمُكَفِّرَ الذُّنُوبِ، وَجَالِبَ الْأَرْزَاقِ، وَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ ِفِيِ مُسْنَدِهِ ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ ، يَعْنِي الْفَرِيضَةَ ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ »
فَفِي هَذَا الْحَديثِ: حَثٌّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ مَتَى اِسْتَطَاعَ الْمُسلِمُ لِلْحَجَّ سَبِيلاً ، وَتَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ بَعْدَ التَّأْخِيرِ وَالتَّسْوِيفِ، وَالْقَلُوبُ الْمُؤْمِنَةُ لَتَسْتَجِيبُ لأمرِ اللهِ تَعَالَى بالحجِّ ، وَتَنْطَلِقُ شوقًا إِلَى بيتِهِ وَتُبَادِرُ فِيهِ ؛ طَلَبًا لِمَغْفِرَتِهِ، وَالْفَوْزَ بِجَنَّتِهِ، وَالْعِتْقَ مِنْ نَارِهِ.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ » رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدِ اهتَمَّ نَبِيُّكُم - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بِالحَجِّ اهتِمَامًا عَظِيمًا، وَحَثَّ عَلَيهِ حَثًّا كَرِيمًا، وَنَدَبَ إِلى تَعْجِيلِهِ، وَجَعَلَهُ مِن أَفضَلِ الأَعمَالِ وَأَحَبِّهَا إِلى اللهِ تَعَالَى
بَل عَدَّهُ جِهَادًا في سَبِيلِ اللهِ، وَأَخبَرَ أَنَّ الحُجَّاجَ ضُيُوفٌ لِرَبِّهِم، وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ بِتَكْفيرِ الْخَطَايَا وَمَغْفِرَةِ الذُنُوبِ ، فَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ » قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ » قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبرُورٌ » مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ ، أَفَلَا نُجَاهِدُ ؟ قَالَ : « لَا ! لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ » رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « العُمرَةُ إِلى العُمرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَينَهُمَا، وَالحَجُّ الْمَبرُورُ لَيسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةُ » مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَفي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « مَن حَجَّ هَذَا البَيتَ فَلَم يَرفُثْ وَلم يَفسُقْ رَجَعَ كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ » وَفَضَائِلُ الْحَجِّ كَثِيرَةٌ، وَفَضْلُ اللهِ أَكْثَرُ وَأَكْبَرُ؛ وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُعْرِفُهَا ثُمَّ يَرغَبُ عَنْهَا مِنْ أَقوَامٍ قَدْ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم بِالصِّحَّةِ وَاْلعَافِيَةِ وَالأَمنِ وَوَفرَةِ الأَموَالِ، بَلْ رُبَّمَا اِنْصَرَفُوا إِلَى رَحَلاتٍ وَأَسفَارٍ إِلى سَائِرِ البِلادِ وَالأَمصَارِ، وَقَد يَكُونُ مِنهَا شَيءٌ إِلى بِلادِ الكُفَّارِ، يَتَحَمَّلُونَ بِسَبَبِهِ التَّعَبَ وَيَحمِلُونَ الذُّنُوبَ وَالأَوزَارَ، في حِينِ أَنَّ تَعَبَهُم وَنَفَقَتَهُم فِي الحَجِّ مَكتُوبَةٌ لَهُم عِندَ رَبِّهِم، مَحفُوظَةٌ لَدَيهِ في مَوَازِينِ حَسَنَاتِهِم، وَمَعَ هَذَا يُفَرِّطُونَ فِيهَا؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ لها في عُمرَتِهَا: «إِنَّ لَكِ مِنَ الأَجرِ عَلَى قَدرِ نَصَبِكِ وَنَفَقَتِكِ » رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَه الأَلبَانيُّ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : « تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ »
رَوَاهُ النِّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ .
فَلَا تَظُنُّ أَنَّ النَّفَقَةَ الَّتِي تُنْفَقُ فِي الْحَجِّ تَقُلِّلُ الْمَالَ ، وَتُفْقِرُ صَاحِبَهَا ! لَا! يَا عِبَادِ اللهِ ؛ بَلْ
مَا تُنْفِقُهُ فِي الْحَجِّ يُعَوِّضُهُ اللهُ عَلَيْكَ وَيُضَاعِفُهُ لَكَ، وَيَنْفِي الْفَقْرَ عَنْكَ.
فَاتَّقَوْا اللهَ - أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ – وَبَادِرُوا بِالْحَجِّ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمَحْرُومَ حَقًّا مَنْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَنْ حَجِّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ بُخْلًا بِمَالِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ وَالْحِكْمَةِ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ فِي الْـحَجِّ مِنَ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ مَا يَـفُوقُ عَنِ الْوَصْفِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا وَأَجَلِّهَا، مَوْقِفُ عَرَفَةَ؛ فَهُوَ عُمْدَةُ الْـحَجِّ؛ فَعَلَى صَعِيدِ عَرَفَاتَ، يَـجْتَمِعُ جُـمُوعُ الْـحَجِيجِ فِي مَنْظَرٍ مَهِيبٍ، مُتَجَرِّدِينَ مِنَ كُلَّ سِـمـَةٍ إِلَّا سِـمَةَ الإسلامِ، لَا يـُمَيَّزُ فَرْدٌ عَنْ فردٍ، وَلَا قَبِيلةٌ عَنْ قَبِيلَةٍ، وَلَا جِنْسٌ عَنْ جنسٍ؛ لباسُهُمْ وَاحِدٌ، وَشِعَارُهُمْ وَاحِدٌ: لَــبَّــيْــكَ اللهُمَّ لَــبَّــيْــكَ، تَكْبِيـرٌ وَتَـهْلِيلٌ؛ فتُسْكَبُ الْعَبَـرَاتُ، وَتُقَالُ الْعَثَرَاتُ، وتُسْتَجَابُ الدَّعَوَاتُ، وَتُغْفَرُ السَّيِّــئَاتُ؛ فَمـَحْرُومٌ وَاللهِ مَنْ لَمْ يَتَذَوَّقْ طَعْمَهُ وَيَعِيِشُ لَحْظَتَهُ وَلَوْ مَرَّةً فِي حَيَاتِهِ، مَشْهَدٌ جليلٌ، لَا يَعْرِفُ عَظَمَتْهُ إِلَّا مَنْ وَقَفَهُ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: « مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ » رواهُ مسلمٌ.
فَاتَّقُوُا اللهَ – عِبَادَ اللهِ – وَبَادِرُوا بِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ ؛ فَالْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ فَضْلَ الْحَجِّ وَأَجْرَهُ وَقَدْ أَوْسَعَ اللهُ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَمَدَّ اللهِ لَهُ فِي عُمَرِهِ، وَمَتَّعَهُ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ.
اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ ، هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا » رَوَاهُ مُسْلِم.
المرفقات
إِلَى-الْحَجِّ-1-1
إِلَى-الْحَجِّ-1-1
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق