تطبيع الاحتساب 27/5/11438هـ

عبدالرحمن العليان
1438/06/24 - 2017/03/23 20:33PM
بسم الله الرحمن الرحيم


تطبيع الاحتساب

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، سبحانه وبحمده، من يهدِه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له مِن بَعْدِه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، شهادةَ الحقِّ يوم يقوم الأشهاد، والنجاةِ يومَ التناد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضلُ السادة، وأكرمُ العباد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أولي الهدى والرشاد، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد.. أما بعد:
فقد باء برضوانٍ من ربه من اتقاه حق تقواه، وعبده كأنه يراه.. التقوى هي لزومُ الأثر، والاستمساك بالعروة الوثقى، وذكرى الدارِ الآخرة، وإجابةُ داعي الله حيثما دعا إليه وذكّر بأمره.. التقوى صدقٌ وإخلاص، وطلبٌ واتباعٌ لسبيلِ الخلاص، جدٌّ وعزم، وقوةٌ وحزم، وانتصارٌ على النفس والهوى، فتلكم هي التقوى..
أيها المؤمنون: شرع الله شريعتَه الخاتِمة، وخصَّ هذه الأمةَ بخير دينٍ: دينِ القيمة؛ ليكون الدين كلُّه لله، وليعبَدَ في أرضه على نور منه سبحانه، وَأَوْدَعَ في هذه الشريعة القيِّمة أسبابَ بقائها وعلوِّها على غيرِها، واستعصائِها على رياحِ التغييرِ مهما اشتدَّتْ، وإبائِها على قفازات التدمير مهما تعدَّدَتْ، وتاريخُ الأمةِ الطويلُ شاهدٌ على هذه الحقيقة.
أجل؛ فقد حَفِظَ اللهُ الإسلامَ، الذي هو الدينُ عنده بحفظِه التام، فبقيَ شامخا يطاول الزمان، في مَنَعَةٍ من اللهِ وأمان، وجَعَلَ حَمَلَتَهُ خيرَ أمةٍ أخرجت للناس، وَأَكْرَمَ أمةٍ تَفِدُ عليه تعالى يوم العرضِ الأكبر بِأمرهم بالخير ودعوتِهم إليه، ونهيِهم عن الشر وتحذيرِهم منه.
إنها شعيرةٌ من شعائرِ الإسلامِ الظاهرة، وعمادٌ من عَمَدِه الشامخة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، أوضح أمْرَها النبيُّ الأمين -صلوات الله وسلامه عليه-، وقام بها صحابتُه المجتبَوْن، وسار على إِثْرِهِمُ في ذلكم العلماءُ بعلمهم، والدعاةُ بوعظهم، والمصلحون ببيانِهم، والناصحون بنُصْحِهم، وسائرُ المسلمين بتقواهم، فَنَفَوْا عن دينِ اللهِ غُلَوَّ الغالين، وانتحالَ المبطِلين، وتأويلَ الجاهلين، وردُّوا شبهاتِ القالين، وحفظوا سنة خير المرسلين صلى الله عليه وسلم.
ورحمةً من الله وفضلا، يقيِّظُ لهذه الأمةِ من يجدد لها دينَها كلما دَرَست معالمـُه.
إنها شعيرةُ الاحتسابِ في بيانِ الحق، وردِّ الباطل، والأخذِ على يدِ السفيه، وأطرِه على الحقِّ أطرا؛ ليبقى دينُ الله معظَّما في النفوس، ولتعيشَ المجتمعاتُ المسلمةُ على أساسٍ متين من العبوديةِ لله والطهارةِ والنقاء، ولو طُوِي بساطُ هذه الشعيرة وأُهمِلَ القيامُ بها؛ لتعطَّلَتِ الشريعة، وتلاشت الديانة في النفوس، وفشتِ الضلالة، وشاعت الجهالة، واتسع الخرق، وانطمس وجه الحق، واستشرى الفساد، وخَرِبَتِ البلاد، وهَلَكَ العباد،، وكان المعروف في كل عصر ومصرٍ منكرا، والمنكَرُ معروفا، وثَمَّ يستعصي الإصلاحُ على أهلِ الإصلاح، وتَسْتَحْكِمُ غُربَةُ الدين.
وما حلَّ الهوانُ واللعنُ بالأمم السابقة إلا يوم أَلِفُوا المنكرات، ورضوا واطمأنوا بها، وقلَّ النكيرُ لها، وعُدِمَ بينهم قائمٌ لله بالحق: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78- 79].
ويقول الحقُّ تعالى عنهم: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 62- 63].
أما هذه الأمةُ فبشعيرةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ نالتْ خَيْرِيَّتها، ومن زُلَالِهَا اسْتَقَتْ فَضيلَتَهَا.
وهي أخصُّ صفاتِ أهلِ الإيمان، ومن تمامِ الوَلايةِ لهم في الرحمن؛ إذْ هِيَ دليلُ مَحْضِ النصح، وحبِّ الخير للمؤمنين، ودفعٌ لغضبِ الله - تعالى - عنهم، وأخذٌ بحُجَزِهم عن النار {والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
وهي براءةٌ من حال المنافقين الآمرين بالمنكر الناهين عن المعروف الناسين أمرَ الله تعالى.
شعيرةٌ يُرَادُ منها أن تَعُمَّ الفضيلة، وتَخْتَفِيَ الرذيلة، ويَذِلَّ مَنْ خَالَفَ أمرَ اللهِ تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم؛ ولذا كان إنكارُ المنكَرِ واجبًا عينيّا على من عَلِمَه ورآه، وأمْكَنَه إنكارُه دون غيرِه من الناس بنص قول رسول الله - عليه الصلاةُ والسلام -: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) أخرجه مسلم في صحيحه.
أيها المؤمنون: وإذا كان لا بد للمجتمع المسلم من طائفة معيَّنة تقومُ بشعيرةِ الحُسْبَةِ على الوجهِ الذي أراده الله تعالى في قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] فإنه لا يمكن ولا يجوز بحال أن يغضَّ المجتمع بأكمله أبصاره، ويقبضَ أكفَّه عن إفسادِ المفسدين، ومجاهرة المجاهرين؛ اتكالا على هذه الجهة المسؤولة، التي تقوم مشكورة ببعض واجبها، وتعجز بالطبع عن كثيرٍ منه.
إن المجتمع المؤمن حقا هو الذي يكون فيه الاحتسابُ طبعا وأصلا، لا يستنكَرُ ولا يعاب، بل يسري في رحابه على قبولٍ وتِرْحاب، يبدِّد ظُلَمَ الفتن، ويُذِلُّ أهل النفاق والذين في قلوبهم زيغٌ، إنه الاحتساب الذي يبدأ من البيت الصغير؛ لينطلق إلى المسجد والمدرسة والجامعة والمعهد والمتجر والسوق ودور العمل، وحين يكون المجتمع متناصحا، محبا للناصحين، فما أتعس الرذيلة حينها ودهاقنتَها.
إنَّ الاحتسابَ المجتمعيّ أبلغُ أثرا، وأحمدُ عاقبة، وأدنى لبترِ الفساد والرذائل.. إن الهباتِ المجتمعيةَ الاحتسابية في هذه الحقبة الزمنية بسائر الوسائل المشروعة لَذَاتُ أثرٍ عظيم لا يستهانُ به، تضطر المنافقَ والذي في قلبه مرض إلى الاستخفاءِ بمنكره، والاعتذار عن قبح مجاهرته، وإنها ليزع الله بها من الشرور ما تقر به أعينُ المؤمنين.
وبخاصة حين يكون المنكر علنيا مجاهرا به على ملأ عريض من الناس، بل وحين تُنقَل تفاصيلُ بشاعته عبر وسائل التواصل المختلفة، في هتكٍ لحُجُب الفضيلة، في سعيٍ محموم لتطبيع الاختلاط بين الجنسين والغناء، والاستعزاز بالأجنبي ومخازيه، بل وفرضِ كل قبيح من القول ورديء من الفعل.
فلا مناص حيتئذ من الاحتساب العام، الذي يدفع الله به العذاب العام.. إن هذا الاحتساب ليؤكد أن السواد الأعظم من هذه البلاد بحمد الله مؤمنون، وأنهم على دينهم وحرمات الله غيورون، وللرذائل والمنكرات كارهون، ومن يرغب عن ذلك إلا سفه نفسه ورضي لها بالدون، وباعها بصفقة المغبون.
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}





الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على فضلِه وامتنانِه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وعلى الأنبياء إخوانه.. أما بعد:
فقد جعل الله تعالى في كتابه الكريم الذين يأمرون بالقسط من الناس ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر خير الناس، وكذا المؤمنون، إلا أن المنافقين الأذلين اتخذوهم شر الناس، وقالوا فيهم بهتانا عظيما.
إنهم قومٌ أخْرَجَ اللهُ أضغانَهُم، فإن تُرِكَت لهم شهواتُهم الآثمةُ رضوا، وإن حيل بينهم وبينها إذا هم يسخطون.. ولبئس ما قدَّمَتْ لهم أنفسُهم في رَفْضِهِمْ لشرعِ اللهِ تعالى وحكمِه.. جُرْأَةٌ فجَةٌ في خروجٍ عن قيم هذا المجتمع وأخلاقه، وافتياتٍ على وُلاةِ أمرِهِ وعلمائِه، وسخطٍ للسياسة العليا التي قامت عليها هذه الدولة.. ألا ساءَ ما يرجون! وما أقبحَ ما يبتغُون.
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [التوبة: 67].
واذكروا رحمكم الله أن ربكم سبحانه يدفعُ بالمصلحينَ العذابَ: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [هود: 116- 117].
وإن المنكراتِ لم تفشُ في مجتمعٍ مسلمٍ مرةً واحدة، إنما فَشَتْ لأن فاعلًا فعل، وآخر داهن وسكت، وإنه لا يُمْتَحَنُ امتحانُ من قال لا إله إلا الله بمثل أن يدعى إلى ترك مجاملة الخلق، رغبة في إحقاق الحق، وابتغاء ما عند الله تعالى.
ألا فاتقوا الله أيها المؤمنون؛ وقوموا بما أوجبَ اللهُ عليكم من الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر في بيوتكم وأسواقكم، وأعمالكم، وانصروا المحتسبين بدعائكم وحسن مقالكم.
قال سفيان الثوري رحمه الله: إذا أمرتَ بالمعروف شددتَّ ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق.
اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كمل صليت على إبراهيم وعلى إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد..
المشاهدات 832 | التعليقات 0