تصحيح المفاهيم والمصطلحات

محمد بن إبراهيم النعيم
1438/02/13 - 2016/11/13 13:34PM
خطبة د. محمد بن إبراهيم النعيم-رحمه الله- 30 /10/1415هـ





الحمد لله...


لقد كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يهتم بأمر الآخرة ويربط قلوب الناس بالآخرة، فهي الدار التي ليس بعدها دار، فإما في الجنة وإما في النار.
ولهذا أمرنا المصطفى –صلى الله عليه وسلم- أن نركز جل اهتمامنا نحوها وأن لا تغرنا الدنيا بزخارفها.

فعن زيد بن ثابت –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال "من كانت همه الآخرة جمع الله له شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت همه الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له" [رواه البيهقي].

ولحرص رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على جعل هَمِّ الناس هو هَمِّ الآخرة فحسب ، كان أحيانا يطرح على أصحابه أسئلة متنوعة في الحياة العامة، ليرى مدى نظرتهم وسعة مفاهيمهم نحو الدنيا والآخرة.

فتراه –صلى الله عليه وسلم- يسأل عن أسرق الناس في عرف الناس، وعن أعجز الناس، وعن أبخل الناس، ومن هو المحروم، ومن هو المفلس، ومن هو أكرم الناس، ومن هو الشديد، وغير ذلك من أسئلة عامة، ثم يعطيهم الجواب مغايرا لعرفهم الدنيوي، ليس إلا ليجعلهم يتوجهون بقلوبهم وجوارحهم نحو الآخرة لتكون أكبر همهم، وليوحد المسار الى الله عز وجل.

أيها الأخوة في الله: سأحاول في هذه الخطبة أن أقف معكم بعض الوقفات التربوية عند بعض المصطلحات التي طرحها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على أصحابه لنرى هل غَيَّرنا معها مفاهيمنا الى ما يريده منا رسولنا –صلى الله عليه وسلم- ؟ أم لا نزال نعيش في أطر دنيوية بحتة!
المفهوم الأول: عن أسرق الناس:

لا شك أن جريمة السرقة من الجرائم البشعة التي تمقتها جميع المجتمعات البشرية وما جُندت الشرطة في العالم إلا للحفاظ على أمن الناس، وعلى ممتلكاتهم من السرقات وعبث العابثين.

ولقد جاء الشرع بحكم صارم لكل من تسول له نفسه بالمساس بممتلكات الناس بقطع يد من يسرقها، وأن لا تأخذنا به الرحمة ولا الشفقة، قال الله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله}.

إننا نفزع كثيرا عندما نسمع أن بيتا سُرق في الحارة الفلانية أو بنكا أُختلس في الشارع الفلاني، وقد يُتداول هذا الخبر في وسائل الإعلام، فيتداوله الناس فيما بينهم وقد يَدعون على ذلك السارق الذي زعزع الأمن، فيمقتونه ويتمنون دخوله السجن في أسرع وقت ليرتاحوا من شره.

ومع تَنَكُر الناس والمجتمع لذلك السارق وبغضهم له، إلا أنه يوجد في المجتمع سُراق هم أسوأ حالا وأكثر جرما من أولئك، ومع ذلك فنحن لا نمقتهم ولا نتحدث عنهم ولا نأبه لهم وقد نتحدث معهم ونؤاكلهم ونشاربهم، وقد يكونوا أقرباء لنا أو أصدقاء، ومع ذلك لا يسوؤنا حالهم.

فمن هؤلاء السُرَّاقُ يا ترى؟ لا لكي نُبلِّغ عنهم ولكن لنناصحهم قدر المستطاع ونُنقذَهم من هلاكٍ محقق وسُوءِ مُنقلبٍ ينتظرهم والعياذ بالله.

إنهم الذين يسرقون أنفسهم بأنفسهم ، إنهم الذين يسرقون صلاتهم!
نعم الذين يسرقون صلاتهم! ولكن كيف يسرقون صلاتهم؟

فعن عبد الله بن مغفل –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال "أسرق الناس الذي يسرق صلاته ، لا يتم ركوعها ولا سجودها ، وأبخل الناس من بخل بالسلام"[رواه الطبراني].

وعن أبي قتادة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال " أسوأ الناسِ سرقة الذي يسرق من صلاته لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها" [رواه الحاكم].

هل عرفنا الآن من هو أسرق الناس في ميزان الشرع؟

إن الذي لا يتم الركوع ولا السجود ولا يطمئن في الصلاة لرجل مسكين ، لأنه لم يصلِ أصلا ، وإنما أرهق نفسه بوضوء وذهاب الى المسجد وبحركات ، وحصيلة ذلك كله أنه لا شيء له من الثواب بل هو يستحقُ العقاب.

فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: إن النبي –صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي  فرد عليه السلام فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل (فصل الرجل ثلاث مرات وكلما صلى قال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ارجع فصل فإنك لم تصل) فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني.
قال " إذا قمت الى الصلاة فأسبغ الوضوءَ ، ثم استقبل القبلة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى طمئن راكعا ، ثم ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم أسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" [متفق عليه].

وإن الخطورة في ذلك أن الذي يموت على ذلك الحال ولم يصحح من وضع صلاته يموت على غير الفطرة.
فعن عبد الله الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا لا يتمُ ركوعه وينقر في سجوده وهو يصلي فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "لو مات هذا على حاله هذه مات على غير ملة محمد ثم قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده مَثَلُ الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئا" [رواه الطبراني وحسنه الألباني ].

لذلك عندما رأى حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- رجلا لا يتمُ الركوع والسجود قال له: ما صليت ولو متَّ: مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدا –صلى الله عليه وسلم-.


إن الفاجعة على المرء كل الفاجعة أن يجمع طوال حياته حصيلة مرتباته ليبني له بيتا يستقر فيه ثم يفاجئه موظف البنك أن رصيده كله قد سرق أو طمسه الحاسب الآلي ولا توجد أدلة تثبت أن له رصيدا في ذلك البنك.

فأي حسرته وأي فجيعة ستمر عليه؟ هكذا هو حال الذي يصلي طوال حياته أيها الأخوة وهو يستعجل في صلاته ينقرها نقرا فلا يتمُ ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها أنه لا يُقبل له عمل.

فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال “إن الرجل ليصلي ستين سنةً ما تقبل له صلاةٌ ، لعله يتمُ الركوعَ ولا يتمُ السجود ، ويتمُ السجود ولا يتم الركوع" [صحيح الترغيب والترهيب].
وأبعاد القضية لا تقف عند هذا الحد وإنما أبعد من ذلك وهو أن العبد إذا لم تقبل له صلاة فلن يُقبلَ له أي عمل آخر.

فعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلَحت صلَح سائرُ عمله ، وإن فسدت فسد سائر عمله" [رواه الطبراني وصححه الألباني].

أيها الأخوة في الله:

بعد هذه الجولة السريعة مع أسرق الناس ، أعود وأقول لماذا لا يهولنا إذا رأينا رجلا يُسرعُ في صلاته، بينما لو سمعنا عن حادث سرقة بدأ الناس والمجتمع يتحدثون عنه وقد هالهم الخبر؟

لأن قلوبنا متعلقة بأمور الدنيا ولأن مفاهيمنا مقلوبة، فلذلك يجب أن نصحح هذا المفهوم.


المفهوم الثاني: في التملك: فإن الإنسان جُبل على حب التملك والاكتناز، فتراه يكتنز المال ليشتري به ما يريد، ولينفقه على حاجاته في المستقبل.
ولكنَّ هذه الغريزة الفطرية تضخمت في عقول كثير من الناس ، حتى أصبحت أكبر من حجمها ، وطغت على سلوك الإنسان ، وغيَّرت من فكره ومفاهيمه ، وجعلته لا يفكر إلا فيما ينفقه على ملاذِّ نفسه وشهواته ، فنسي الآخرة.

وزعت عائشة –رضي الله عنها- لحم شاة ذات يوم على الفقراء، فأبقت الكتف ، فلما سألها النبي –صلى الله عليه وسلم- كم بقي لنا من الشاة؟
قالت بقي كتفها، أي الذي لم تتصدق به.
ولكن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بنظرته البعيدة التي تحمل همَّ الآخرة صحح مفهومها ووسَّع مداركها، فبماذا أجابها؟

روت عائشة رضي الله عنها- أنهم ذبحوا شاة فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- "ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها ، قال: بقيَ كُلُها غيرَ كتفها" [رواه الترمذي].

أي ما تصدقنا به فهو الباقي وما بقي عندنا فهو في الحقيقة غير باق إشارة الى قوله تعالى {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}.


المفهوم الثالث: في تقدير الثروة.

يهدف الناس ويحلمون للوصول الى الثراء ، وتجد الواحد منهم ينافس قرينه بعدد الملايين التي في رصيده.

فهل ثروتك الحقيقية هي إجمالي أرصدتك التي في البنوك؟ كلا.

فعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- " أيكم مال وارثه أحبُ إليه من ماله؟ قالوا يا رسول الله ما منا إلا ماله أحبُ إليه ! قال: فإن ماله ما قدم ، ومال وارثه ما أخَّر" [رواه البخاري والنسائي].

وكما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- "يقول العبد مالي مالي ، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى (أي ادخر ثوابه في الآخرة) وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس" [رواه مسلم].

لذا فإن كنت حريصا على الثراء وعلى جمع المال وعلى الادخار فأكثر من الصدقة فإنها رصيدك الحقيقي، وما سوى ذلك فهو ليس لك وإنما لورثتك.

فعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: وقف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على مجلس من بني سلمة فقال يا بني سلمة: ما الرقوب فيكم؟ قال: الذي لا ولد له.
قال بل هو الذي لا فرط له. قال ما المُعدمَ فيكم؟ قالوا الذي لا مال له ، قال بل الذي يَقدمُ وليس له عند الله خير" [رواه أبو يعلى والبزار].

فكم من غني في الدنيا سيكون فقيرا معدما في الآخرة ؛ ذلك لأنه لم يقدم لنفسه شيئا من الصدقات ولا حول ولا قوة إلا بالله.


المفهوم الرابع: حذر الناس من الوقوع في الهلاك: يحذر الناس من الوقوع في أنواع المخاطر والتهلكات، ولكنهم غفلوا عما هو أشد تلك المهالك، وهو الركون الى الدنيا وترك الجهاد.

روى الترمذي وأبو داود عن أسلم أبو عمران –رضي الله عنه- قال: كنا بمدينة الروم (القِسْطَنْطِينية) فأخرجوا إلينا صفا من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلُهم أو أكثرُ. وعلى أهل مصرَ عُقبةُ بن عامر وعلى الجماعة (أي الشام) فَضالةُ بن عُبيد ، فحمل رجلٌ من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس وقالوا سبحان الله: يُلقي بيده الى التهلكة. فقام أبو أيوبَ الأنصاري –رضي الله عنه- فقال: يا أيها الناس إنكم لتُؤوِّلون هذه الآية هذا التأويلَ ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار: لما أعزَّ الله الإسلام وكَثُرَ ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً دون رسولِ الله –صلى الله عليه وسلم- : إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكَثٌرَ ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه يردُ علينا ما قلنا {وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم ا إلى التهلكة} وكانت التهلكة: الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا للغزو، فما زال أبو أيوبَ شاخصا في سبيل الله حتى دُفن بأرض الروم. [الترمذي وأبو داود].

أي أن المراد بالإلقاء الى التهلكة هو الإقامة في الأهل والمال والركون الى الدنيا وترك الجهاد والإنفاق في سبيل الله.

أنظروا الى وضع الأمة الإسلامية اليوم كيف تركوا الجهاد فوقعوا في التهلكة الذي ذكرها الله، بل إن فريقا من المسلمين اليوم باتوا يحاربون كل مسلم يرفع سلاحا ليجاهد أعداء الإسلام من يهود أو نصارى وينسبون له التطرف ومعاداته للسلام.

فأي حال وصلنا إليه وكيف نطلب النصرة من الله، وهذه حالنا ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
المفهوم الخامس: التفريق بين رضا الله وغضبه على عبده:
ويدخل تحت هذا المضمون عدة مصطلحات وسنن انقلبت فيها موازين كثير من الناس وفهموها فهما خاطئا وما ذلك إلا للجهل بسنن الله في الكون ، كسنة الاستدراج وإمهال الظالمين وكتنعم الكفار في الدنيا وتسلطهم على المسلمين وكتعجيل العقوبة للعبد في الدنيا أو ابتلاءه وغيرها من سنن كثيرة.

فأما السنة الأولى التي صححها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهي سنة الاستدراج:

فإنه مما ينبغي أن تعلمه أخي المسلم أنه إذا أغدق الله عليك بالنعم أن ذلك ليس دليلا على رضا الله عليك خاصة إذا كنت مقصرا في العمل الصالح كما قال تعالى {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}.

فعن عقبة بن عامر-رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال "إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحبُ وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج" [رواه الطبراني والبيهقي].

فمن صور استدراج الله لبعض الناس أنك تجدُ المرءَ منا يغدق اللهُ عليه من سائر النعم وهو مستمر على فسوقه وتبذيره لذلك المال في وجوه الحرام، وهو يظن أن الله راض عنه؛ لما يرى من استمرار النعيم الذي هو عليه من مال وولد وجاه ، وما علم المسكين بأن ذلك لا يقدم ولا يؤخر وإنما هو استدراج.

قال الله تعالى {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}.
وإنك ترى من يتاجر في الحرام يربح في تجارته أرباحا طائلة ويزين له الشيطان عمله ويقول لو كان هذا حراما لبارت التجارة أو لأتاك واعظ في المنام يذكرك بالله ونحو ذلك، وما يظن المسكين أنه يُستدرج من حيث لا يدري.

وإنك ترى المدير في دائرته يعطيه الله من الجاه والمنصب والمال وثناء المرؤوسين له الشيء الكثير وهو يقع في معاصي الله ويختلسُ الملايين ويتعامل بالرشوة والربا والواسطات المضرة بحقوق الغير وقد تزداد مرتبته في السلم الوظيفي وهو مقيم على سلبه ونهبه لا يخاف الله وإنما اغتر بستر الله عليه ويظن هذا المغفل أن الله لم يسخط عليه، ولو كان ساخطا لصب عليه الأمراض أو أوقعه في حادث مروع ونحو ذلك، وما علم أنه مستدرج حتى إذا أخذه الله لم يفلته.

ولهذا لا نعجب من إمهال الله تعالى للظالمين وللطغاة المتسلطين على الصالحين وعدم تعجيل الله العقوبة لهم. قال الله تعالى {ولا تحسبن اللهُ غافلا عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء} [سورة إبراهيم].

وعلى مستوى الدول والأمم فإنك ترى أن الله يعطي دول الكفر الخيرات والتمكين في الأرض وهم مقيمون على كفرهم وغطرستهم حتى ارتاب بعض ضعاف الإيمان من المسلمين فقالوا هل هذا دليل على رضى الله عليهم؟

وما علموا أن الله وهبهم ذلك التمكين لأنهم أخذوا بالأسباب الكونية وارتقوا بالعلم ونحن اكتفينا باللعب والرقص والنوم فتقدموا وتأخرنا.
ومع ذلك فعلينا أن لا يُريبنا تمكينهم في الأرض قال الله تعال {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} [آل عمران].


وأما السُنَّةُ الثانية: فهي أنه إذا عَجَّل الله لك العقوبة في الدنيا لذنب أصبته فليس ذلك علامة على غضب الله عليك وإنما يريد الله أن يخفف عنك من عذاب الآخرة لأنه أشد.

فعن عبد الله بن مغفل –رضي الله عنه- قال بينما نحن مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو يُبايَعُ تحت الشجرة وإني لرافع أغصانها عن رأسه ، إذ جاء رجلٌ يسيلُ وجهه دما ، فقال يا رسول الله هلكت. قال وما أهلكك؟ قال إني خرجت من منزلي فإذا امرأةً أتبعتها بصري فأصاب وجهي الجدار فأصابني ما ترى.
[أي رجل أراد أن يغازلَ امرأةً فما زال ملتفتا إليها ببصره وهو يمشي حتى صفعه جدار ، فماذا قال له –صلى الله عليه وسلم- ؟ هل وبَّخه أو حَطَّم نفسيته؟ كلا] فقال "أنت عبد أراد الله بك خيرا، إذا أراد الله بعبدٍ خيرا عجَّل له عقوبة ذنبه، وإذا أراد بعبدٍ شراً أمسك عليه ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة كأنه عير" (أي كأنه جبل) [رواه أحمد].


وأما السة الثالثة فهي الابتلاء: فإذا ابتلاك الله بما تكره فليس ذلك علامة على بغض الله لك وإنما هي درجات يريد الله أن يرفعك إليها.

فعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال "إذا أحب الله قوما ابتلاهم" [رواه أحمد والترمذي].
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: إذا رأيت الله عز وجل يحبس عنك الدنيا ويكثر عليك الشدائد والبلوى فاعلم أنك عزيز عنده ، وأنك عنده بمكان وأنه يسلك بك طريق أوليائه وأصفيائه ، فإنه يراك ولا يحتاج الى ذلك أما تسمع الى قوله تعال {واصبر لحكم ربك فأنك بأعيننا} بل اعرف منته عليك فيما يحفظ عليك صلاتك وصلاحك ويكثر أجورك وثوابك ، وينزلك منازل الأبرار والأخيار والأعزة عنده أهـ[فيض القدير1/245].


هذه بعض المفاهيم التي ينبغي أن نعيها ونفهما كما أراد الله منا ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.




الخطبة الثانية


الحمد الله رب العالمين، المستعان على أمور الدنيا والدين ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، نستعيذ به من الجهل وسوء الفهم في الدين ، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا رسول الله الصادق الأمين بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة  وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين ، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، ولتكن الآخرة أكبر همكم ونصب أعيينكم.

أيها الأخوة في الله:
ومن المفاهيم المغلوطة عند بعض الناس: مفهوم الاستراحة من الدنيا.
فقد روت عائشة –رضي الله عنها - قالت: جاء بلال –رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله ماتت فلانة واستراحت ، فغضب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقال: إنما يستريحُ من دخل الجنة" وفي رواية "إنما يستريحُ من غُفر له" [رواه الإمام أحمد].

إنما غضب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من قول بلال: ماتت فلانة واستراحت ، لأن ما كل من مات استراح ، فقد يكون الموت شقاء على صاحبه والعياذ بالله إذا كان مفرطا فيما أوجبه الله عليه [قاله البنا في الفتح].

ولهذا كان السلف الصالح (رحمهم الله تعالى) يخافون هذه اللحظة الحرجة لحظة الموت التي لا يدرون بما يبشرون عندها إما بروْح وريحان أو برب غضبان والعياذ بالله.

لما حظر الإمامَ محمد بنِ الواسع الموتُ قال: يا إخوتاه تدرون أين يُذهبُ بي؟ والله الذي لا إله إلا هو الى النار أو يعفو عني) [رواه أبو نعيم في الحلية].

وإن بعض الناس يحزنون إذا مرض عليهم إنسان مرضا ليس بعده إلا الموت فتراهم يتمنون له الفرج بتعجيل الموت له كي يستريح من آلامه وما علموا بأن من كان ذلك حاله وصبر كان كفارة له.

فعن أبي أمامة –رضي الله عنه- أن رسول الله  قال "إن العبد إذا مرض أوحى الله الى ملائكته: أنا قيدت عبدي بقيد من قيودي فإن أقبضه أَغفرُ له ، وإن أعافه فحينئذ يقعد لا ذنب له" [رواه الحاكم].

ولهذا ليس كل من مات استراح كما قال لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وإنما يستريح من غفر له.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيننا على فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها الا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها الا أنت. اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا وأمتنا على أحسن الأخوال التي ترضيك عنا. اللهم اختم بالصالحات أعمالنا ويسر حسابنا وارفع في الجنان مكاننا. اللهم بصرنا بعيوبنا واكشف كروبنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين. اللهم يا معز من أطاعك ويا مذل من عصاك أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك وُيذل فيه أهل معصيتك وُيأمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر. للهم إنا نسألك نفسا مطمئنة تؤمن بقضائك ، وتؤمن بلقائك ، وترضى بقضائك ، وتقنع بعطائك. اللهم نسألك برحمتك أن تصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، اللهم ارفع الضر عن المتضررين ، والبأس عن البائسين ، والاضطهاد عن المضطهدين. للهم فك أسر من جاهد في سبيلك ، أو شرد من أجل دعوتك ، برحمتك يا أرحم الراحمين. ربنا أغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا) {ن الله وملائكته يصلون على النبي ، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وقوموا الى صلاتكم وفقكم الله.


المشاهدات 1383 | التعليقات 0