تسلية أهل المصائب

تسلية أهل المصائب

الخطبة الأولى

    الحمدُ للهِ المبدئِ المعيدِ ، الفعالِ لما يريدُ ، ذي العرشِ المجيدِ ، والبطشِ الشديدِ ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثِ بالقرآنِ المجيدِ ، صلى اللهُ وسلم عليه ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيِثِ كِتَابُ اللهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم ، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثاتُها ، وَكُلَّ مُحْدثةٍ بِدْعَةٍ ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٍ  وكُلَّ ضَلالةٍ فِي النّارِ نعوذ بالله من النار .     أيُّها الأحبةُ في الله: إن العبدَ في هذهِ الحياةِ الدُّنيا ، مُعَرَّضٌ للخيرِ والشَّرِ لامحالة ، فالحياةُ الدنيا مَليئةٌ بالمِحَنِ والمتاعبِ والبلايا ، والشدائدِ والنكباتِ ، إن صَفتْ يوماً كَدَّرَتْ أياماً، وإن أضحَكَتْ ساعةً ، أبكَتْ ساعاتٍ ، لا تدومُ على حالٍ

    يقولُ تعالى ( وَتِلْكَ ٱلاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ ) فقرٌ وغنى ، وعافيةٌ وبلاءٌ ، وصِحةٌ ومَرضٌ وعِزٌّ وذُلٌ ،وهكذا يكونُ الحال في هذهِ الحياةِ الدُّنيا، بين خَوفٍ ورجاء ، وسُرُورٍ وحُزن ، وضَحِكٍ وبُكاء ، واجتماعٍ وفُرقَة ، ويُسرٍ وعُسر ، وحياةٍ وموت ، لايملك المرءُ التَّحكُمُ في شيءٍ مِنهَا، بل عليه إِن ْكانَ مُؤمناً أن يُفوضَ الأمرُ إلى الْمُتصرفِ فيهِ ، ويُسَلِّمُ لأقدارِ الله الجاريةِ عليه ، وإن اللهَ تعالى ، بين ذلك في كتابهِ وعلى لسانِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم لِيوطّنَ عِبِادَهُ على الصّبرِ والتَّحَمّل ، يقولُ عليهِ الصلاةُ والسلام ، كما في البُخاري من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه { مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } ألا فاعتصم بِمُفَرّج الكُربات ، الذي يُعطيَ الصابرينَ أعلا المثوباتِ ، حيثُ وعَدَهُم سُبحانه ، بالخلودِ في روضاتِ الْجِنَات . قال الله تعالى : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) فأبشر أيها المؤمنُ المُصاب ، فَهذِهِ تَسليةٌ من اللهِ لعبادِهِ بِمُصَابِهِم ، الذي لاحولَ لَهُم ولاقوةَ في رَدَّهِ ، والذي لم يَخُصَّ بِهِ فِئةٌ دونَ أُخرى من عبادِهِ . فعند المصيبةَ يا عبد الله : ماعليكَ إلا الصَّبرَ والإسترجاع ، بِقُولِكَ : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فإذا فعلت ذلك فأبشر بالصلاةِ من اللهِ تعالى والرحمةِ والهدايةِ والعِوَض عن مُّصابِكَ ،وفي الحديثِ عن أُمَّ سَلَمَةَ رضي اللهُ عنها ، قَالَتْ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَقُلْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ عِنْدَكَ احْتَسَبْتُ مُصِيبَتِى وَأْجُرْنِى فِيهَا وأَبْدِلْنِى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا } رواهُ أحمدُ في المسند ، وإن أعظمَ المصائبِ ، المصيبةُ في الدِّين كما جاء في الأثرِ عن عطاءِ بن ابي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِى ، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ } قَالَ أبو نُعيم فِي تَسْلِيَةِ أَهْلِ الْمَصَائِبِ : وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا مَوْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ صلى اللهِ عليه وسلم  انْقَطَعَ الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَانْقَطَعَتْ النُّبُوَّاتُ ، وَكَانَ مَوْتُهُ ، أَوَّلَ ظُهُورِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، بِارْتِدَادِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ مِنْ الْأَعْرَابِ ، فَهُوَ أَوَّلُ انْقِطَاعِ عُرَى الدِّينِ وَنُقْصَانِهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُحْصَى .قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا نَفَّضْنَا أَيْدِيَنَا مِنْ التُّرَابِ مِنْ قَبْرِ الرَّسُولِ صلى اللهّ  عليه وسلم حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا .رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ

    عباد الله إن العاقلَ لايَجمَعُ على نفسهِ مُصيبتَانٍ في آنٍ واحد، فَيَجزَعُ ويرتَكِبُ المنهيات، عند حلولِ الْمُصيبات، فَيُضِيِعُ على نفسهِ ثوابُ الصابرينَ ، وأجرُ الْمُتصَبرين ، فَإنَّها خَسارةً عظيمةً ومصيبةً أُخرى ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

    الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين ، إذا حَزَبَهُ أَمرٌ فزع إلى الصلاة. أما بعد: أيُّها الأحبةُ في الله ، اعلموا أنَّكم خَلقٌ من خلقِ الله ، يَتَصَرَّفُ فِيكُم متى شاء ، كَيفَ شاء ،حَيثُ شاء ، خلقاً وإماتة ، سِعَةً وضَيقاً ،غنىً وفقراً ، حُزناً وسُروراً ، جَمْعاً وفُرقَةً ، هو الفعَّالُ لِمَا يُريد ، لا مَرد لأَمرِهِ ، ولامُعقبَ لِقَولِهِ وفعلِهِ وحُكمِهِ ، ولكنَّهُ بِمَنِّهِ وكَرَمِهِ ، يُبينُ لعبادِهِ سُبلَ النّجَاةِ مِمَّا ابتلاهُم بهِ ، من الخيرِ والشَّر ، في كتابِهِ ، وعلى لسانِ خَاتَمِ أنبيائِهِ ، محمد صلى اللهَّ  عليه وسلم ، فما على المسلمِ ، إِلاَّ أن يَتعَلَّمَ مِن الوحي ، ويَتَّبِعَ الْهَدي الْمُحَمَّدي ، فَيُفوزَ في الدارَين يقولُ تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)ويقولُ جلَّ في عُلاه ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) عروةُ بنُ الزبيرِ رضي اللهُ تعالى عنه وأرضاهُ ، سقطَ من على فرسِهِ ، فجُرحتْ رجلُهُ ، وقررَ الأطباءُ قَصَّها ، وفي نفسِ اللحظةِ ، يأتيهِ نبأُ وفاةِ ابنِهِ الشابِ ، فتُقطعُ رجلُهُ وتنشرُ نشراً ، وهو في الصلاةِ بينَ يدي اللهِ سبحانه وتعالى , فلما أفاقَ قالَ : " اللهم لك الحمدُ، إن كنتَ أخذتَ ، فقدْ أعطيتَ، وإن كنتَ ابتليتَ ، فقدْ عافيتَ، أعطيتَني أربعةً من الأعضاءِ ،فأخذتَ عضواً واحداً فلكَ الحمدُ، وأعطيتَني أربعةً من الأبناءِ ، وأخذتَ واحداً ، فلكَ الحمدُ حتى ترضى ، ولكَ الحمدُ إذا رضيتَ، ولكَ الحمدُ بعدَ الرضى" يقولُ عليهِ الصلاةُ والسلام { ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه ومالِهِ وولدِهِ ، حتى يلقى اللهَ وما عليهِ خطيئةٌ } هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ ، فَقَالَ ( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا ) اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحابة الأكرمين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك        يا أرحم الراحمين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل أعدائك أعداء الدين , اللهم من أرادَنا أو أراد بلادَنا أو أرادَ بلاد الإسلام والمُسلمين بسوءٍ، اللهم فأشغِله في نفسه، ورد كيده في نحره ، اللهم اكشِف سِرَّه ، وأبطِل مكرَه ، واكفِنا شرَّه ، واجعلهُ عِبرَة يا رب العالمين . اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين يا رب العالمين . اللهم احفظ جنودنا المرابطين بحفظك وانصرهم بنصرك وأيدهم بتأييدك . اللهم وأعدهم إلى أهليهم سالمين غانمين منتصرين يارب العالمين . اللهم واشف مرضاهم وتقبل موتاهم في الشهداء . اللهم عاملنا بإحسانك ، وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، اللهم أرحم ذلنا بين يديك ، واجعل رغبتنا فيما لديك ، ولا تحرمنا بذنوبنا ، ولا تطردنا بعيوبنا ، اللهم اعطنا ولا تحرمنا ، وخذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى ، يا أهل المغفرة أغفر ذنوبنا ، ويا أهل التقوى استعملنا في طاعتك ، ويا مقلب القلوب ، ثبت قلوبنا على دينك ، اللهم أغفر لأهل القبور من المسلمين والمسلمات ، وخص في ذلك الأباء والأمهات إنك قريب مجيب الدعوات ، اللهم     ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) .

 

( خطبة الجمعة 29/2/1442هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  )

 

المرفقات

1722196567_تسلية أهل المصائب.docx

المشاهدات 282 | التعليقات 0