تساقط العلماء بين يدي الدكتور حاتم الشريف أزمة وحل

تساقط العلماء بين يدي الدكتور حاتم الشريف أزمة وحل

د. صالح بن علي الشمراني



الحمد لله والصلاة والسلام على حبيبي رسوله ومصطفاه وبعد

لا أدري أين نجد الأمانة حينما نتهم العلماء بالخيانة أو نكاد من طرف خفي ، ولا أدري أيضا لماذا هذه السياط التي نلهبها حينا بعد آخر على أجداث أو ظهور علمائنا – فأكثرنا عليهم ولم نقل وبقينا نلعن ظلامهم ولم نسد المكان الذي سدوا – بل نريد أن ننزعهم من مسدهم ولا بأس أن يرعى الذئب الغنم - حسنا لقد خلق الدكتور حاتم الشريف وأمثاله فضاء واسعا للآراء المختلفة فليأذن لي شرَّف الله نسبه أن أسبح معه في هذا الفضاء المتسامح قارئا وناقدا لما أوحاه إلي مقاله " الثورة المعلوماتية وإظهار المخبّأ " المسطور في 21/7/1431هـ موقع الإسلام اليوم ، وقد أضحى جذلا بما أسقطته التقنية بين يديه من أقوال للعلماء ربما كان يجهلها أو يتباكى على أمة كانت تجهلها ، ومؤدى المقال يذهب إلى ثلاث مقدمات ونتيجة وحل :

المقدمة الأولى : " أن الثورة المعلوماتية أتاحت الاطلاع على مسائل العلم الشرعي بضغطة مفتاح ".

المقدمة الثانية : أن الواجب على المفتي أخذ الحذر بسبب هذه الثورة ، وعليه في كل استفتاء أن يبسط القول أمام المتلقي ذاكرا الخلاف كله ؟

المقدمة الثالثة : أن المفتين في بلادنا لم ينهجوا هذا المنهج بل كانوا يعمدون إلى تعمية المتلقي وأطره على الرأي الواحد أطرا ، هذا ما فهمته ، وإن كان فهمي خاطئا فلعل المقال لم ينشر إذن.

النتيجة : "سقوط هيبة العلماء من قلوب الناس" ، و" تساقط الرؤوس العلمية والشرعية تباعاً" ، " وذهاب مصداقيتهم" ، وتنامي الشك لدى العامة في " مدى استحقاق أولئك المفتين لمنصب الإفتاء " ، وتنامي " الشعورُ بالخديعة عند جماهيرَ جديدةً من عوام المسلمين وصغار طلبة العلم منهم " ، وتصبح " الجماهير جماهيرَ ناقمةً على من أخفى عنها تلك الأقوال المعتبرة، متهمة له بالخيانة العلمية، أو بالجهل ".

وأما الحل في نظر فضيلته فهو : " الاعتراف بالخطأ السابق الذي تجاهل أقوالاً من الخلاف المعتبر أو صادرها. والاعتذار لكل صاحب قول غير معتبر، وحفظ حقه وقدره بلا تقصير ولا مجاملة، بشرط الهدوء والانضباط العلمي في تمييز الاختلاف المعتبر من غير المعتبر، ومن غير تمسُّكٍ بدعاوى القطع في الأدلة الظنية؛ لأنها هي الدعاوى المانعة من الاعتراف باعتبار القول المخالف، ومن غير تشبثٍ بحكاية الإجماعات غير السالمة من النقض" .

إن كان فوق رقبتي رأس يعقل فإنني لا أفهم من مثل هذا الطرح إلا القدح في مسيرة العلم وأهله ، قد أكون عدوا للتصحيح والتجديد أو هكذا قد يظن بي ولكن إن ظُن بي ذلك حينما استصحب أصل الثقة في أمتي بل في رؤوس أمتي وهم العلماء مستلهما تزكية الله ورسوله لهم وأن منهم طائفة لا تزال على الحق منصورة فلن أعير تلك التهم أذنا – يا أسفى على هذا الفتح بعد الإغلاق – يا أسفى على قرون تطاول عهدها والأمة تثق في عماء بفتاوى ابن تيمية أو محمد رشيد رضا أو فتاوى الدرر أو محمد بن إبراهيم أو فتاوى مجمع الفقه الإسلامي أو فتاوى المجمع الفقهي بالرابطة أو فتاوى هيئة كبار العلماء أو فتاوى الأزهر أو فتاوى علماء الهند أو غيرها – يا أسفى على من عَظُمَ عقله في رأسه وكبرت نفسه في جسده حتى يظن بها أنها سعت في تعمية الأمة وتأبطت خيانتها. وقد أكون واهما في هذا الفهم ولكن أبىت حروف المقال ، وزمانه ، ومكانه ، وسياقه وسباقه إلا أن يوحي إلي بذلك. ولنأت إلى المقدمات والنتيجة بالنقض :

أما المقدمة الأولى : فتدلي بالتقنية وما فتحت به ، والأمر حق ، فقد قربت البعيد وسهلت العسير ، غير أن ما لا يمكن أن يقال في نظري : إن كل من تعاطى هذه التقنية وأستطاع ضغط المفتاح صار عالما ، بل هذا الضغط لا يغني من الطلب شيئا يؤثر – وما فائدة هذه الضغطة التي تأتي بكل معلومة أمام الناظرين دون أن يكون لهم عيون يبصرون بها – لو كان الأمر كما يُظن لكان العلماء بعدد أجهزة الحواسيب ولكن الأمر غير ذلك – التقنية ستنزل عليك مائدة من السماء فيها صنوف العلوم ولكن ماذا تفعل بهذه المائدة إن لم يكن لك معدة تهضمها وتخرج العسل من بين فرث ودم – لقد كان منذ القدم ولازال هناك من يعيش عمره داخل مكتبات كبرى يعمل على تنظيفها وفهرستها وترتيبها فهل خرج منها بغير مكنسته ومنشفته.

المقدمة الثانية في مقال فضيلته : ما دام الأمر كذلك فعلى المفتي أن يكون أمينا حين الفتوى بذكر الخلاف في كل مسألة وإلا فضحته ضغطة المفتاح – وهذا الإلزام لا أدري أين مستنده في كتاب ربنا أو سنة نبينا أو فعل سلفنا إلا إن تحاكمنا إلى لوحة المفاتيح فهذا شيء آخر. بل الذي يُعلم من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن على العالم أن يفتي ويحكم بما أراه الله لا بذكر الخلاف فقال تعالى : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " وقال تعالى : " فاسألوا أهل الذكر " والذكر هو الدليل وليس الخلاف ، وقال تعالى : " وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " ولم يقل نرده إلى الخلاف ، وقال تعالى : " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " لا إلى الخلاف ، وقال تعالى لرسوله والقول كذلك لورثته : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " والذي أنزل إليه هو الوحي لا أقاويل الناس ، وهذه فتاوى القرآن لم تذكر خلافا فقد سألوه عن الخمر وعن المحيض وعن الشهر الحرام قتال فيه وعن الأهلة وعن اليتامى وعن النساء وعن الكلالة ، وهذه فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم لم تدع قولا لقائل وقد سئل عن مسائل لا تحصى فكان قوله وحيا وكان ملتزما بالوحي " قل إنما أنذركم بالوحي " وقال في قصة العسيف : (( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله)) ، وأما الصحابة فشأنهم أظهر من أن يقال وهذه فتاواهم مطبوعة ومخطوطة لم يُسأل أحد منهم فقال في المسألة قولان أو أكثر وإنما كانوا يفتون بالدليل ، ثم تتابعت الأئمة في القرون المفضلة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم واقفين مع الحجة والاستدلال , يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه , ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدانا , وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عما قال برهانا. إعلام الموقعين ج: 1 ص: 49
قال الإمام الشافعي قدس الله تعالى روحه : (( أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعه لقول أحد من الناس )). وقال أبو عمر وغيره من العلماء : ( أجمع الناس على أن العلم معرفة الحق بدليله)) ،ويقول ابن العربي : (( ولو راعينا كل خلاف يطرأ لما استقر الدين على قاعدة )).

وهؤلاء التابعون وتابعوهم يُسأل أحدهم فيفتي بما أراه الله وبما يغلب على ظنه أنه الحق الموافق لمراد الله مؤملا أجري الصواب ضامنا أجر الخطأ باجتهاده – وعلى ذلك صار الأئمة ولم يعهد أن أحدا من الأئمة الأربعة كان يقول لكل سائل : قال فلان كذا ودليله كذا وقال فلان كذا ودليله كذا ، بل قال الإمام الشافعي وقد سئل عن أقاويل الصحابة " نصير منها إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو كان أصح في القياس" ، ولو كان الأئمة يكتفون بذكر الخلاف في كل مسألة لما عرف لإمام مذهب ، نعم قد يذكرونه تقريرا وبحثا وردا كما كان يفعل الشافعي في الأم لكن لا يذكرونه أو لا يلزمونه من جهة الفتوى والحكم بل كانوا يذهبون بالمستفتي إلى ما يرونه راجحا باجتهادهم وما دل عليه الدليل في نظرهم ، وهذا الإمام أحمد هو آخر الأئمة الأربعة لم يكن يقول لسائله : قال أبو حنيفة كذا وقال مالك كذا وقال الشافعي كذا بل يذكر الحكم ومستنده فحسب .

ولو قلنا في كل مسألة بوجوب ذكر الخلاف للسائل لكان صنيع فقهاء المذاهب جميعا على مر التأريخ في عماء ، وهل تجد في مختصرات الحنفية أو فتاواهم إلا المذهب الحنفي (انظر مثلا الهداية والفتاوى الهندية) ، وهل تجد في مختصرات المالكية وفتاواهم إلا المذهب المالكي ( مختصر خليل وفتاوى المعيار المعرب مثلا) ، وهل تجد في مختصرات الشافعية وفتاواهم إلا المذهب الشافعي ( انظر : المنهاج وفتاوى السبكي قضاء الأرب مثلا) ، وهل تجد في مختصرات الحنابلة وتقريراتهم إلا المذهب الحنبلي ( انظر الزاد مثلا ؟ فهل خان علماء المذاهب أتباعهم حينما لم يذكروا لهم المذاهب الأخرى ؟ كلا بل كانوا يفتونهم بما أراهم الله ، نعم قد كان من الأئمة من يذكر الخلاف ولكن هذا في الفتاوى الكبرى والمطولات الفقهية والدروس العلمية ومع ذلك كانوا يذكرون الخلاف بالأدلة ويرجحون الراجح ويردون المرجوح ويشنعون على الشاذ.

المقدمة الثالثة : أن علماءنا لم يكونوا على هذا المنهج – يقصد ذكر الخلاف في كل مسألة - وقد يفهم من صنيعهم هذا الخيانة للأمة – وهذه الدعوى باطلة طردا وعكسا / فأما أن عدم ذكرهم يعد خيانة فهذا من الباطل وإلا لزم تخوين الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع فقهاء المذاهب المعتبرة . وأما أن علماءنا لم يذكروا الخلاف في فتاواهم فهذا أيضا على غير الجادة وهذه فتاواهم مبسوطة مقروءة ومسموعة وكثيرا ما نسمع قولهم في أصح قولي العلماء والراجح كذا ، ولو أوردنا الأمثلة لطال بنا المقال – بل هذه فتاوى شيخ السلفية شيخ الإسلام وهل نقمة أعدائهم إلا منه ، وهل مورد علمائنا إلا مورده هذه فتاواه تطفح بذكر الخلاف والردود .

بل حتى الفتاوى الشاذة ذكروها وشنعوا عليها وعلى قائليها ذودا عن حياض الشريعة وعلى سنن أئمة الحديث في رواية الموضوعات حتى لا يتقادم الزمان ويأتي من يتبناها ويرفع بها رأسا.

ثم ما هي الأقوال التي أُخفيت ؟ لا أدري وليت الدكتور حاتما ذكر لنا أمثلة من هذه الأقوال المعتبرة التي لم يكن علماؤنا يذكرونها ، هل هو القول بإباحة القمار مع الكفار لسلب أموالهم! أم القول بتجويز تعاطي الربا مع الكفار ! أم القول بتجويز النظر إلى المرأة الأجنبية في المرآة أو على الشاشة ولو بشهوة ! أم القول بتجويز خروج المرأة متزينة متعطرة مع عدم قصدها استمالة الرجال إليها ! أم القول بإباحة الاختلاط بين الرجال والنساء ! أم القول بجواز التأمين بشتى صوره ! أم القول بإباحة الغناء ، أم القول بإبطال حد السرقة ! أم القول بإباحة ربا الفضل ! أم القول بأن الربا المحرم ما كان أضعافا مضاعفة ! أم القول بإباحة الربا حفاظا على اقتصاد البلد ! أم القول ببقاء المرأة إذا أسلمت تحت زوجها الكافر مطلقا ! أم القول بأنه لا زكاة في العملة الورقية ! أم القول بجواز نكاح المتعة ! أم القول بأن المرتد لا يقتل ! أم القول بأن الزاني المحصن لا يرجم ! أم القول بجواز تولي المرأة الإمامة العظمى ! أم القول بأن الجهاد إنما هو للدفع فقط.

ثم ما هو المراد من ذكر الأقوال المرجوحة فضلا عن الشاذة عند الفتوى وإنما العمل يكون بالراجح منها فحسب وقد ذكره المفتي ، أم أن المراد أن يذكرها وللمستفتي أن ينظر فيها أو أن يختار منها ، فإن كان الأول فلم يعد المستفتي جاهلا بل صاحب ذكر يُسأل ولا يسأل ، وأما إن قيل بالتشهي فهذا حرام باتفاق الأمة. آداب المفتي والمستفتي (1/125) وإعلام الموقعين 4/211).

ونقل الشاطبي في الموافقات 4/140عن الباجي قوله : " لا خلاف بين من يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه ، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه".

هذا وإذا بطلت المقدمات بطلت النتيجة المزعومة وبقيت رؤوس العلماء والحمد لله مرفوعة ، وهيبتهم موفورة ، وكلمتهم مسموعة ، وإن أثر ابن تيمية اليوم في الناس ومن بعده محمد بن إبراهيم أو ابن باز أو الألباني ما إن لو اجتمعت الدنيا وعقدت المؤتمرات على محوه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

نعم أنا مع الدكتور وفقه الله في حفظ حقوق المردود عليه والتأدب بأدب الإسلام ، ولكن لا مانع عند الشذوذ من : قتلوه قتلهم الله. ولولا هذه الردود لقال من شاء ما شاء.

وبعد فإن باعث المقال وأحسبه كذلك والله حسيبه النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، وعلماء أهل السنة لم ولن يخلو منهم زمن ، ولن يسلم منهم أحد ، غير أنهم ولله الحمد لم يزالوا على مر التأريخ محل ثقة الأمة ، وأهل التأثير فيها دون دعوى عصمتهم ، ولكن تصحيح أخطائهم لا يكون بهدم الحيطان عليهم – وصناعة المستقبل لا تستلزم لعن الماضي ، وإنما تكون بالبناء عليه بعد أخذ أدوات البناء ، ولا يكون بنَّاءً أشل اليدين ، والمظالم الموجودة على الأفراد أو الأسر أو المناطق والجهات لا نرتضيها ونبرأ إلى الله منها ولكن لا يكون رفعها أو دفعها على حساب الشريعة ، والله من وراء القصد ، واستغفر الله لي وللدكتور حاتم الشريف شرَّف الله ذكره وأعلى نسبه ، وجعلت فداء لجده وآله.


المصدر: لجينيات
المشاهدات 1844 | التعليقات 0