تزكية النفوس

محمد كياد المجلاد
1432/07/14 - 2011/06/16 17:38PM
حديثنا لهذا اليوم عن عنوان الفلاح وسبيل النجاح عن الطُهر والتطهير نتحاور ونتجاذب أطراف الأحاديث نتعمق بكم في بحور أعماق الأنفس والتي تعصف بها الأهواء والأدواء ونستخرج مكنونها وكنوزها ونبحث عما يزكيها فهو محور حديثنا وقطب خطبتنا فالنفس الزكية هي شرف المؤمنين الشرفاء وعدة الأولياء والأصفياء حاسبوا أنفسهم قبل الحساب ونحن نسينا العمل والحساب أما النفس المتزكية فهي ذخيرة المنافقين التهفاء ودرك الأشقياء فلا محاسبة ولا تزكية ولا حول ولا قوة إلا بالله .


وتزكية النفس في اللغة: طهارة النفس ونماؤها وإظهار محاسنها.


اصطلاحاً: تطهيرها عن الصفات المذمومة وتكميلها وتحليتها بالأعمال الصالحة وتزيينها بجمال التعظم لله - عز وجل.


قال الله تعالى (ومن يأتِه مؤمناً قد عمَل الصالحاتِ فأولئك لهُمُ الدرجاتُ العُلى جنّاتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها وذلك جزاءُ مَنْ تزكىَّ )


قال الإمام ابنُ كثير_ رحمه الله تعالى _ في تفسيره لهذه الآية في المجلد الثالث ( أي طهرَّ نفسه من الدنسِ والخبَثِ والشركِ، وعبدَ اللهَ وحده لا شريك له ) .


فإن المطالع لنصوص القرآن الكريم يجد أن الله عز وجل قد قسم النفس الإنسانية إلى ثلاثة أقسام:


النفس الأمارة وهي النفس التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر بالشهوات واللذات الحسية وإتباع الهوى وهي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة. وهذه النفس هي التي توسوس لصاحبها وتحدثه بارتكاب المعاصي والآثام قال تعالى حكاية عن امرأة العزيز التي راودت يوسف عليه السلام : {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهي من الأمور الثلاثة التي ذكرها شيخ الاسلام ابنُ تيمية _ رحمه الله تعالى _ في مجموع الفتاوى في المجلد السابع عشر فقال النفس الإمارة وشياطين الجن وشياطين الإنس قال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}


قال ابن جريج: هما وسواسان فوسواس من الجنة وهو الخناس ووسواس من نفس الإنسان.


النفس اللوامة هي تلك النفس التي تنورت بنور القلب عن سنة الغفلة وكلما صدرت عنها سيئة بحكم جبلتها أخذت في اللوم والتعنيف وحالت دون التمادي في العصيان والتي تلوم كذلك على عدم الاستكثار في الخير قال تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة} وروى الإمام ابن كثير _ رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية في المجلد الثامن حكاية عن الحسن البصري _ رحمه الله تعالى _ أنه قال : قال الحسن البصري: أن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائما يقول ما أردت بهذا لم فعلت هذا كان غير هذا أولى أو نحو هذا من الكلام .


وقد قسم الإمام ابن القيم _ رحمه الله تعالى _ في كتاب الروح النفس اللوامة إلى نوعين : نوعان:


1- لوامة ملومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته.


2- ولوامة غير ملومة: وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده فهذه غير ملومة وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله واحتملت ملام اللائمين في مرضاته فلا تأخذها فيه لومة لائم فهذه قد تخلصت من لوم الله وأما من رضيت بأعمالها ولم تلم نفسها ولم تحتمل في الله ملام اللوام فهي التي يلومها الله عزوجل .


النفس المطمئنة هي التي تم تنويرها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة، وهي تلك النفس التي تعتبر الحوادث الحياتية – خيرها وشرها – ابتلاء ومحنة ذا سكنت النفس إلى الله عزّ وجلّ واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه ، فهي مطمئنة ، وهى التي يقال لها عند الوفاة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة} .


قال ابن عباس: المطمئنة المصدقة، وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله، وصاحبها يطمئن فى باب معرفة أسمائه وصفاته إلى خبره الذي أخبر عن نفسه وأخبر به عند رسوله صلى الله عليه وسلم ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعده من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عياناً ،ثم يطمئن إلى قدر الله عزّ وجلّ فيسلم له ويرضى فلا يسخط، ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه، فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه، لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه، وقبل أن يخلق، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} .


قال الإمام ابن قدامة في منهاج القاصدين: ( واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرت بتقويمها وتزكيتها وفطامها من مواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها.


وروى الإمام ابن الجوزي في كتابه ذم الهوى عن لقمان الحكيم أن قال لابنه: (يا بنيّ: إن الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفسَ حرون؛ فإن فتر سائقها ضلّت عن الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت. إنّ النفس إذا أُطمعت طمعت، وإذا فوّضْت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت؛ فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بُدّ له منها. وإنّ الحكيم يذلّ نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإنّ الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق: فما أحبّت منها أحبّ وما كرهت منها كره


وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: (ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير، بل التفريط والأمن) هكذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن نفسه وعصره، فماذا نقول نحن عن أنفسنا وعصرنا؟!


وذكر الإمام الماوردي _ رحمه الله تعالى _ في كتابه أدب الدنيا والدين عندما تكلم عن المحاسبة فقال عنها : " أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل" .


وقال مالك بن دينار _ رحمه الله تعالى _ : (رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله ـ عز وجل ـ فكان لها قائداً) .


وقال الإمام ابن القيم _ رحمه الله تعالى _ في إغاثة اللهفان في المجلد الأول روي عن الإمام أحمد أن وهب بن منبِّه قال :" مكتوب في حكمة آل داوُد : حق على العاقل ألا يَغفل عن أربع ساعات :ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه ، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل ، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات ، وإجماماً للقلوب " .


وعند مراد الحق تفنى كميت ... وعند مراد النفس تسدى وتلحم


وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ... ظهيرا على الرحمن للجبر تزهم


تنزه تلك النفس عن سوء فعلها ... وتغتاب أقدار الإله وتظلم


وتزعم مع هذا بأنك عارف ... كذبت يقينا في الذي أنت تزعم


وما أنت إلا جاهل ثم ظالم ... وإنك بين الجاهلين مقدم


إذا كان هذا نصح عبد لنفسه ... فمن ذا الذي منه الهدى يتعلم


وفي مثل هذا كان قد قال من مضى ... وأحسن فيما قاله المتكلم


فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم


بارك الله لي ولكم


قال الإمام شيخ الإسلام ابنُ تيمية _ رحمه الله تعالى _ في مجموع الفتاوى في المجلد العاشر ( النفسُ والأعمالُ لا تزكوا حتى يُزالَ عنها ما يناقضهُا ، ولا يكونُ الرجلُ متزكياً إلاّ مع ترك الشرِّ ، فإنَّه يدنسُ النفس ويدسيها ، قال ابنُ قتيبة : دسَّاها أي أخفاها بالفجور والمعصية ) .


قال ابن القيم _ رحمه الله تعالى _ في إغاثة اللهفان محذّراً من إهمال محاسبة النفس : " أضرّ ما على المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها "


قال الإمام شيخ الإسلام الثاني ابنُ القيمّ _ رحمه الله تعالى _ في كتابه مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين ( وتزكيةُ النفوس أصعبُ من علاج الأبدان وأشدَّ ، فمن زكَّى نفسه بالرياضةِ والمجاهدة والخلوةِ التي لم يجيءَ بها الرسل ، فهو كالمريضِ الذي يعالجُ نفسَه برأيِه ، فالرسلُ أطباءُ القلوب ، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم والتسليم لهم ) .


ولنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة لأبي حامد الغزالي وهو يصف أرباب القلوب المنيبة وذوي البصائر الحيّة فيقول: " فَعَرف أربابُ البصائر من جملة العباد أنّ الله ـ تعالى ـ لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب ويُطالبون بمثاقيل الذرّ من الخطرات واللحظات، وتحقّقوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطاء إلا لزوم المحاسبة وصدقُ المراقبة ومطالبةُ النّفْس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتُها في الخطرات واللحظات. فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في القيامة حسابُه، وحَضَرَ عند السؤال جوابُه، وحسُن منقلبُه ومآبُه. ومن لم يحاسب نفسَه دامت حسراتُه، وطالت في عرصات القيامة وقفاتُه، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاتُه "


قال ابن القيم _ رحمه الله تعالى _ : في مدارج السالكين " فإن تزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل ، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاَّهم إياها ،وجعلها على أيدهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا ...فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم ... وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد ، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة ، التي لم يجئ بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه ، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب ؟ فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم ، وعلى أيديهم ، وبمحض الانقياد والتسليم لهم ، والله المستعان اهـ .


ويقول الإمام الشاطبيُّ _ رحمه الله تعالى _ في كتابه الموفقات في المجلد الأول ( الأعمالُ الظاهرةُ في الشرع دليلٌ على ما في الباطن فإذا كان الظاهرُ منخرماً أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك ) .


فالواجب على كل مسلم أن يُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة: لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي على هذه الشاكلة.


وأمّا المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجع ؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة؛ فكلّ هذه الأسئلة لا بدَّ منها حتى يسير العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور.


وروى ابن الجوزي في كتابه مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب _ رضي الله تعالى عنه وأرضاه _ وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا بن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه) .

المشاهدات 2543 | التعليقات 0