تزكية النفس بالدرس (مع بداية العام الدراسي)

محمد بن عبدالله التميمي
1445/02/01 - 2023/08/17 22:01PM

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، وأقامَ دلائل في الكون تُبصِّر من العمى، بما وهب من العلم ففهِم أولو النُّهى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أبدًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أمره الله أن يستزيد علما فقال: {وَقُل رَّبّ زِدْنِي عِلْما﴾، وزكّاه في علِمه فقال: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم ومن اهتدى، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، بالتقرب إليه بما يُحبُّه، وتَجَنُّبِ ما يُسْخِطُه، والبصيرُ مَن عمل لآخرته وحياتِه بعد الموت، وأيامُ المرءِ ودقائقُه وثوانيه أنفاسٌ يَعمرُ بها المرءُ آخرته، وقد أقسم الله عز وجل بالوقت وعظَّمَه فقال سبحانه وتعالى: (والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، وحَكَم جلَّ وعلا على من زكى نفسه بالفلاح، لـمَّا سلك طريق الصلاح، كما حكم على من دسَّى نفسه وأفسدها بأنْ قد خاب، لـمَّا جانب الصواب، وأقسم جلَّ جلاله على هذا بأَحَدَ عَشَرَ قَسَمًا فقال سبحانه وتعالى: (والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها).

فتزكيةُ النفس، طريقُها العِلْمُ بالله ودينِه وشرعِه، ثم العلمُ بما يُقِيْمُ به الإنسانُ نفسَه وينفعُ أمَّتَه، فيقوم بالواجب العينيّ من العلمِ الدينيّ، وكذلك الكِفائيّ من علومٍ دنيوية، يَقصد بتعلُّمِها ذلك، فيُؤْجَر كثيرا، وإن أولَ درجات هذا السُّلَّمِ -وهو التعلّم-: مَحضِنُ الطفلِ الأُسْرِي، ثم الفصلُ الدراسي، فالأمرُ ليس بالشيءِ الاعتياديّ، أو الإلزامِ القهريّ، بل تزكيةٌ للنفس وتطهير، ورفعٌ وتقدير، فلذلك ربُّ الأسرة يستحضر، ولِوَلدِه يُشعِر، فيُعانُ ويُؤجَر، ولفضائل العلم يَذْكُر ويُذكِّر، فإن العلمَ حَيَاةُ القُلُوب من الْجَهْل، ومصباحَ الْأَبْصَار من الظُّلم، وَهُوَ الأنيسُ فِي الوحشة، والصاحبُ فِي الغُربة، والمحدثُ فِي الخلْوَة، وَالدَّلِيلُ على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء، وَالسِّلَاح على الْأَعْدَاء، والزينُ عِنْد الأخلاء، يرفع الله بِهِ أَقْوَامًا فتُقْتَصُّ آثَارُهم، ويُقتَدَى بفعالهم، وينتهى إِلَى رَأْيهمْ، كما أنَّ العلمَ نفعُه متَعَدٍّ غيرُ قاصر، بما يكون من تعليم الأكابر للأصاغر، وما تُدفع به من شرور ومخاطر، دنيوية وأخروية، فهو في الأوطان أمان، قال ابنُ القيّم رحمه الله: (وَإِذَا ظَهَرَ الْعِلْمُ فِي بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ: قَلَّ الشَّرُّ فِي أَهْلِهَا، وَإِذَا خَفَى الْعِلْمُ هُنَاكَ: ظَهَرَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ)، وأمانٌ في الأخرى ورفعة فالعلم الشرعيُّ هو المرادُ في الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة في فضل العلم، وكذلك العلوم الدنيوية إذا صحَّت النية بإرادة نفع ورفع المسلمين.

عباد الله.. إنَّ أصلَ العلم خشيةُ اللَه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وقد يُوصلُ المرءَ إلى خشية الله ومحبتِه والقربِ منه والأنسِ به: العلمُ المقصود لذاته وهو العلم الشرعي، وقد يوصله العلم الدنيوي بما يزيد في فِكْرِه، ويَفتح نَظَرَه، ويُحرِّكُ عِبَرَه، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.

واصحب -عبدَ الله- أهلَ العلم والراغبين، وإياك وصحبةَ البطَّالين، فإن القرينَ بالمقارَن يقتدي، وقد قيل في أثر الجهل أنه كالنّزِّ في الأرض يُفسِدُ ما حوله، سواءٌ كانت صُحبةً بالأبدان أو بالأذهان، وقد يَجترئ الواحد عبر وسائل التواصل الحديثة على متابعة مَن يخجل من مجالسته، فارْبأ بنفسك، فإن لذلك أثرًا ولو بعد حين، وقد قال الأحنف بنُ قيس: (إني لأجالس الأحمق ساعةً فأتبيّنُ ذلك في عقلي) فكيف بمن يتابع يوميَّاتٍ لا تُكسبُ علما، ولا تُورث عملا، بل تُنقِص وتكاد تَنقُض.

وكم حصَّل موفَّقون، وقد أعانهم على ذلك أولياءُ لمسؤوليَّاتِهم مقدِّرون، -حصَّلوا وهم بعدُ صغار علومًا وشهاداتٍ، اقتناصًا للفُرَص، ونفعا ورفعا للنفْس، فارعوا -عباد الله- نفوسكم وزكُّوها، وَقُوا أنفسَكم وأهليكم نارا وجنِّبوها، قال عليٌّ رضي الله عنه: أدبوهم وعلموهم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على ما هدى وعلَّم، والشكر له على وفَّقَ وأكرم، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً بها متيقِّن ولها أستسلم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلَّم، وعلى آله وأصحابه وتابعيهم أكرِم بهم وأنْعِم، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم ملاقوا الله، فاعملوا بما يُرضي الله.

وها انتم عباد الله مقبلون على أيامٍ منتظمةٍ بالدراسة، فكونوا بذلك مستعينين، فذلك على ترتيب الوقت أعون، ولاستغلاله أيسر، ووداعًا للسَّهر والتشتُّت، وإن مَنْ لا يُرتِّب جدولًا ولا يَرسُمُ منهجا ويَعزم عملا: تذهبُ أيامُه سَبَهْلَلًا، فأعِدُّوا لذلك وهَيِّؤوا، واجعلوا لكم وِرْدًا من القرآن تلزمونه تلاوة، وتَعُونَ منه في صدوركم حفظا، وتفقهون له معنى، فيَزْداد الإيمان، وتنالوا رضا الرحمن، وإن حلقات القرآن خيرُ معينٍ، وتفقهوا في الدين، على أهل العلم المعروفين، وما أيسر تحصيل العلم بما جدَّ من وسائل، فلا تكن غافل.

كما هي الوصية لكم معشر الطلاب بالجِدِّ والاجتهاد، ولكم معشر المعلمين بالإخلاص والاحتساب، والجد وطلب الصواب، ولكم معشر الأولياء باحتساب النفقة في سائر ما تبذلون للعيال، وخاصة في أمر العلم وتحصيله، فأنت مأجور بالإنفاق لأدائك الواجب، وإن احتسبت وللثواب استحضرت فما تذمّرت فلك ثوابٌ آخر، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أنْفَقَ المُسْلِمُ نَفَقَةً على أهْلِهِ، وهو يَحْتَسِبُها، كانَتْ له صَدَقَةً" متفقٌ عليه.

ثم اعلموا عباد الله أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهُدى هُدَى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار. واعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته الـمُسبّحةَ بقدسه، وثَلَّثَ بكم أيها المؤمنون من جِنِّهِ وإِنْسِهِ، فقال عزَّ شأنُه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فأكثروا عليه من الصلاة يعظم الله لكم بها أجرًا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا». اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين المهديين الذين قاموا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، اللهم وارض عن سائر صحابة نبيك أجمعين، وعن آله الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهاتنا أمهات المؤمنين، اللهم وارض عن تابعيهم بإحسان وارض عنا ربنا بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين. اللهم وفق وليَّ أمرنا ووليَّ عهده بتوفيقك، وأيدهما بتأييدك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمنات، الأحياءِ منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، والحمدُ لله رب العالمين.

المرفقات

1692298861_تزكية النفس بعمارة الوقت بطلب العلم مع بدء العام الدراسي 1445.docx

1692298862_تزكية النفس بعمارة الوقت بطلب العلم مع بدء العام الدراسي 1445.pdf

المشاهدات 536 | التعليقات 0