ترويع المسلم

سليمان بن خالد الحربي
1442/01/11 - 2020/08/30 20:54PM

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فاتقوا اللهَ أيها المسلمون والمسلمات، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].

معَاشِرَ الإخْوَةِ: إنَّ مما تواطَأَتْ عليه الشريعةُ وأكَّدت على تحريمِه الشريعةُ حرمةَ ترويع المسْلِم وإلحاقِ الأَذَى فيه، سواءٌ كان المروِّعُ جادًّا أم هازِلًا، ولو كان أخاه أو صديقَه، وبأي طريقةٍ حدث هذا الترويعُ فهو محرَّمٌ، بل عدَّه أهلُ العلْمِ كالذَّهبيِّ وغيرِه مِن الكبائر، الَّتي لا يغفرُها اللهُ إلا بتوبةٍ، ولا تمحوها الطاعاتُ؛ ولهذا جاء في صحيح مسلِمٍ عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الملاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ»([1]).

قال النوويُّ معلِّقًا على هذا الحديثِ: «فيه تأكيدُ حرمةِ المسلم، والنهيُ الشديدُ عن ترويعِه وتخويفِه والتعرضِ له بما قد يؤذيه، وقوله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان أخاه لأبيه وأمه؛ مبالغةً في إيضاحِ عُموم النهيِ في كلِّ أحدٍ، سواءٌ من يُتَّهم فيه ومن لا يُتَّهم، وسواءٌ كان هذا هزلًا ولعِبًا أم لا؛ لأنَّ ترويع المسلِمِ حرامٌ بكلِّ حالٍ»([2]).

بل إن كثيرًا مِن أهل العلم فسَّرُوا حديثَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيحِ مسلمٍ عن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ». فسَّرُوه لأنَّ الكلبَ يُرَوِّع الناسَ في أحيائهم، ويخوِّفُ صبيانَهم ونساءَهم، قال النووي: «وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سَبَب نُقْصَان الْأَجْر بِاقْتِنَاءِ الْكَلْب  فَقِيلَ: لِمَا يَلْحَق المارِّينَ مِن الْأَذَى مِنْ تَرْوِيع الْكَلْب لَهُمْ وَقَصْده إِيَّاهُمْ»([3]).

وروى الطبرانيُّ من حديث ابْنِ عُمَرَ  مرفوعًا: «مَنْ أَخَافَ مُؤْمِنًا كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُؤَمِّنَهُ مِنْ أَفْزَاعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»([4])، بل رَوى البيهقيُّ عن عبد الله بن عَمْرو مرفوعًا: «مَنْ نَظَرَ إلَى مُسْلِمٍ نَظْرَةً يُخِيفُهُ فِيهَا بِغَيْرِ حَقٍّ أَخَافَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([5]).

سبحانَ الله! إذا كانت الإشارةُ بالحديدةِ لأخيك المسلمِ، وإن كان لأبيك وأمك، وإن كان مازحًا؛ فإنك تتعرَّضُ لِلَعَائِنِ الملائكةِ حتَّى تنتَهِيَ، وكذَلِك حرَّم اقتناءَ الكلابِ من أجل أن لا يروَّعَ الناس، بل حرَّمت النظرةَ الَّتي تخيفُ بها مسلمًا بغيرِ حقٍّ، فكيف بِمن يروَّعُ بما هو أشدُّ مِن ذلك، حتى قد يذهب معه عقلُ الإنسانِ مِن الخوْفِ والحسرةِ.

تأملوا هذه الحادثةَ الَّتي رواها أبُو داودَ في سننه، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَسِيرٍ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَبْلٍ مَعَهُ، فَأَخَذَهَا، فَلـمَّا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ فَزِعَ فَضَحِكَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: مَا يُضْحِكُكُمْ؟ فَقَالُوا: لَا إِلَّا أَنَّا أَخَذْنَا نَبْلَ هَذَا فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»([6]).

وإنَّ من أشد الترويع -عبادَ الله- ما يفعلُه بعضُ النَّاس من استخدام التصويرِ في نقل الأحداث والمآسي؛ كالحوادث وأخبار الوفاة، حتَّى إن أهلَ المتَوَفَّى لا يعلمون عن ابنهم شيئًا ألا يتقي الله من يتعمَّدُ الحصولَ على سبق الخبَرِ والسرعةِ في نقل الحدَثِ أن يفجع أبًا أو أمًّا أو أخًا أو قريبًا أو صديقًا، إنَّ الشريعةَ شرعت عند نقلِ الأخبار السيئةِ والمحزنةِ أن تنقِلَ دُونَ إِيذاءٍ لصاحب المصيبَةِ، وإنَّما تكون بالتدرُّجِ حفاظًا على عقلِه وصحتِه، فكيف بمَنْ لا يَنقُل الخبرَ فقط، بل ينقل معها صورةَ الحدثِ من خلال وسائل التواصُل.

أين حديثُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لمسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»، بلْ أينَ هُو مِن قولِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيما روى الطبراني عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ نَعْلَ رَجُلٍ فَغَيَّبَهَا وَهُوَ يَمْزَحُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُرَوِّعُوا المسْلِمَ؛ فَإِنَّ رَوْعَةَ المسْلِمِ ظُلْمٌ عَظِيمٌ»([7]).

ما المصلحةُ من سرعة نقل الخبرِ؟ بل قد ينقُل خبرَ الوفاةِ ولم يَثْبُتْ بعدُ خبرُ وفاتِه طبيًّا، ألا يعلم كم هي الفاجعةُ التي سببها للمسلمين؟! ألا يعلمُ أن خبر الوفاةِ يلزم منه أحكامٌ شرعيةٌ على الغير؟! ألا يعلم أن الفقهاءَ نصُّوا على من أفْزَع إنسانًا فأصابَتْه عاهةٌ، أو ذهب عقلُه، أو توقَّفَتْ بعضُ منافِع أعضائِه أنَّه ضامِنٌ لها، إن عرف في الدُّنيا، وإلا ففي الآخرةِ القصاصُ، فاحذَرْ أن تتلطَّخ بهذه الكبيرةِ، والتي قد تجُرُّ معها كبائِرَ أخرى دون أن تشعُرَ.

أَعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكْرُ على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنَّ لَا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الدَّاعِي إلى جنَّتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانِه.

أمَّا بَعْدُ:

إخْوَتِي في اللهِ: إنَّ استخدامَ التَّصويرِ فِيما حرَّم اللهُ أصبحَ ظاهرةً يجب الوقوفُ أمامَها بحزمٍ، ومَع امتهانِ النَّاسِ لها أصبحَ النَّاسُ لا يفَرِّقُون بينَ ما يُحَرَّم تصويرُه وبينَ ما يحِلُّ، فالتوعيةُ واجبَةٌ من المعلِّمينَ والمربِّينَ وأولياءِ الأمور كلٌّ قدر استطاعتِه.

ومن بين هذه الممارَساتِ المحرَّمَةِ تصويرُ الموتَى على غير هيئاتٍ حسنةٍ، وقد نصَّ أهلُ العلْمِ على أن الغاسِلَ يستُر ما رآه مِن أهل الإسلام، إذَا كان سيئًا احترامًا لحرمة الميت ولأهله، ولهذا رَوَى ابْنُ حِبَّان في صحيحِه، قالَ: (باب ذكر البيان بأن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ»([8])، أراد به عن ذكر مساوئِه دُونَ محاسِنِه): عن ابْنِ عُمَرَ قال: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِئِهِمْ»([9]).

ولهذا رُوي عن رسولِ صلى الله عليه وسلم، وعن صحابَتِه الثناءُ على الأمواتِ بما فيهِم، وذِكْرُ محاسنِهم، وكم مِن صُورَةٍ توجَّهُ على أنها خاتمةٌ سيئةٌ وليست كذلك، فيدخل فيها كبيرةُ سوءِ الظنِّ، والتألي على الله، وإيذاءِ الأحياء بفقيدهم؛ حتى ولو كان المقصدُ فيه الاتعاظ، فإنَّ حُرْمةَ المسلم فوقَ كلِّ اعتبارٍ.

وختامُ القولِ -عبادَ اللهِ- على المرءِ أن يُراعِي حُرمات المسلمين، وأن يتَّقِيَ اللهَ في أعراضِهم وخصوصيَّاتِهم؛ فإنك في ساعةِ حياةِ الضَّميرِ ستتمنَّى أنَّ الأرْضَ قد ابتلعتْكَ ولم تفعل هذه الفعلةَ، فخُذْ حِذْرَك، واستعمل الأناةَ، وما لا ترضَاهُ لنفسِك وأهلِك فلا تزاوِلْه مع غيرِك .

ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى، فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، وارْضَ اللهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وَالأئِمَّةِ المهْدِيِّين أَبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وعنِ الصَّحابةِ أجْمَعين، وعنَّا معهم بعفْوِك وكَرَمِك يا أكرمَ الأكْرَمِين...

([1]) أخرجه مسلم (4/2020، رقم 2616).

([2]) شرح النووي على مسلم (16/ 170).

([3]) شرح النووي على مسلم (10/ 239).

([4]) أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط (3/24، رقم 2350).

([5]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/50، رقم 7468)، والطبراني كما في مجمع الزوائد (6/253) قال الهيثمي: رواه الطبراني عن شيخه أحمد بن عبد الرحمن بن عقال ضعفه أبو عروبة.

([6]) أخرجه أحمد (5/362، رقم 22959)، وأبو داود (4/301، قم 5004)، والبيهقي (10/249، رقم 20966).

([7]) أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (6/253)، والبزار (9/271، رقم 3816). قال الهيثمي (6/253): فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف.

([8]) أخرجه الترمذي (5/709، رقم 3895) وقال: حسن غريب صحيح. وابن حبان (9/484، رقم 4177)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/415، رقم 8718).

([9]) أخرجه أبو داود (4/275، رقم 4900)، والترمذي (3/339، رقم 1019) وقال: غريب. والحاكم (1/542، رقم 1421) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (4/75، رقم 6981)، وابن حبان (7/290، رقم 3020).

المشاهدات 683 | التعليقات 0