ترقيق الدين بالفتوى !
عبدالله اليابس
1436/02/30 - 2014/12/22 17:01PM
ترقيق الدين .. بالفتوى!
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}, {ياَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً},(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد: أرأيتم لو أن رجلاً أصابه مرض في جسده, وأشرف على الهلاك, فذهب إلى الطبيب فصرف له دواء معينًا, وأخبره أن يستعمله بطريقة معينة, فلما خرج من عند الطبيب, قال: هذه وجهة نظر الطبيب وأنا أحترمها, لكن لن أستخدم هذا الدواء, فما تقولون في هذا الرجل؟
أرأيتم لو أن رجلاً آخر أصابه مرض فذهب إلى الطبيب فصرف له دواء معينًا, فلما انصرف وجد رجلاً خارج المشفى قد لبس زي الأطباء, فقال له: دعك من هذا الدواء, واستعمل الدواء الآخر, فماذا تقولون فيه؟
لا شك أنكم ستقولون عن هذين الرجلين أنهما مخطئين, وقد عَرَّضا أنفسهما للخطر والهلاك, إذ لم يسمعا كلام الأطباء, واستجابوا إلى رغبات أنفسهم أو إلى مجاهيل.
إن العناية بالأبدان والحرص عليها أمر محمود, وينبغي أن يَسعى الإنسان لما ينفعُه, ويتجنبَ ما يضرُه ويعرضُه للخطر.
لكن هناك أمرًا آخر ينبغي أن يكون حرص الإنسان فيه أشد من حرصه عن السؤال عن ما ينفع بدنه وصحته.. إنه السؤال عن الدين.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. لا شك أن دين الإنسان رأس ماله, فإذا تهاون في تحصيله ذهب أدراج الرياح.
إن العلمَ الشرعي وأحكامَ الدين كلُّها مما ينبغي للإنسان أن يحرص على استقائها من أهلها: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون), أمر الله تعالى عباده أن يسألوا إذا كانوا لا يعلمون .. ولم يأمرهم أن يسألوا أي أحد, وإنما أمرهم بسؤال أهل الذكر, وهم في مسائل الشرع العلماء والفقهاء.
ليس كلُّ من أطلق لحيته أو قصر ثوبه أصبح مفتيًا, وإنما يشترط في المفتي صفات منها أن يعرف بالعلم والتقوى والخوف من الله تعالى.
لقد كان السلف الصالح يحرصون أشد الحرص على السؤال عن أمور دينهم, قال محمد بن سيرين: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم), وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن كنتُ لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).
أيها الإخوة.. لقد فطن أقوام ممن لا يريد بهذه الأمة خيرًا إلى خطورة شأن الفتوى ومدى حساسيته وتأثيره في المجتمعات الإسلامية.
فحرصوا على إشاعة الأقوال الشاذة, والمسائل الخلافية التي تساهم في إضعاف تمسك المجتمع الإسلامي بدينه.
إن من وسائل التغريب للمجتمعات المسلمة ــ والتي لا يمكن إنكارها ــ إثارة مسائل الخلاف وتكبيرها وتضخيمها, وإقصاء الآراء الأخرى, وحشد وسائل الإعلام لنصرة الرأي الذي يذهب إليه هؤلاء.
ولعلم المفسدين أن للدين أثرًا على الناس فقد حرصوا أن يركبوا موجته, فيقولوا قولاً شرعيًا ليصلوا به إلى الباطل, تأملوا.. لماذا تهب بعض القنوات التي لم يعرف عنها إلا نشر الرقص والغناء والأفلام السيئة وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا, لماذا تهب لتقرير مسألة شرعية تخدم توجهها, وتستضيف من يخدم هذا التوجه, وتحشد الأدلة على ذلك, وتعقد البرامج الحواري والاستضافات لنصرة قول ما, أهي غيرة على الدين؟ أم رغبة في نشر الفضيلة؟ أم هو سلم يتخذ للوصول إلى الشهوات والملذات؟
لماذا لا نشاهد تلك القنوات تنشر الأقوال المجمَّع عليها بين أهل العلم في تحريم التفسخ والتعري, وتحريم إفساد المجتمعات بإثارة الغرائز, ونشر المنكرات وتطبيعها, لماذا لا ينشرون ذلك؟ أم هي شنشنة نعرفها من أخزم؟
إن إثارة المسائل الفقهية والدندنة حولها والتحجج بها حيال نصح الناصحين وسيلة من وسائل ترقيق الدين, فتجد من كان يعصي الله تعالى وهو مقر بذنبه, لكن غلبته نفسُه وشيطانُه, فيتوب ثم يعود, أصبح هذا الشخص يتكئ على قول فقهي وافق هواه لبعض العلماء ــ وقد يكون لا يعرف من هو هذا العالم ولا دليله ــ فيعصي ربه وهو مطمئن آمن بعد أن كان يرجو الله ويخافُ من ذنبه.
قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: ( من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام), وقال إسماعيل القاضي: (دخلت مرة على المعتضد فدفع إليَّ كتابًا فنظرت فيه, فإذا قد جُمع له فيه الرخص من زلل العلماء, فقلتُ: مصنِف هذا زنديق, فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: بلى؛ ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة, ومن أباح المتعة لم يبح الغناء, وما من عالم إلا وله زلة, ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دِينُه! فأمر بالكتاب فأُحرق), وقال سليمان التيمي: (لو أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله).
لقد أصبح بعض الناس إذا أنكرت عليه في مسألة معينة وأوردت له الأدلة الشرعية على حرمتها قال لك: "المسألة فيها خلاف"، وهكذا ضاعت فائدة النصوص لأنها صار يحكم عليها بالخلاف.
لقد أنزل الله النصوص لتحكم على الخلاف، وهؤلاء يصنعون العكس، فيحكمون بالخلاف على النصوص، والله تعالى يقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ), ويقول تعالى: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ), يقول الشاطبي رحمه الله: (وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار "الخلاف في المسائل" معدوداً فى حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم..، فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع؛ فيقال "لِمَ تمنع والمسألة مختلف فيها؟" فيُجعل الخلافُ حجة فى الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة) ا.هـ.
أيها الإخوة.. إن كثيرًا من وسائل الإعلام تطالعنا بين الفينة والأخرى بفتاوى وأقوال لا يراد منها إلا ترقيق دين الناس وإبعادهم عن التمسك به, فتارة يحدثوننا عن عدم وجوب صلاة الجماعة, وأخرى عن جواز الاختلاط, وثالثة عن عدم وجوب الحجاب, ورابعة عن جواز خروج المرأة من بيتها متجملة متمكيجة, وخامسة عن جواز حلق اللحية, وسادسة عن عدم أهمية حفظ القرآن وأنه لم يرد دليل في الحث عليه, وسابعة في جواز تمثيل المرأة في المسلسلات وتقديمها البرامج في الفضائيات , والقائمة تطول في ذلك ..
لكني هنا أتساءل هل يريد من يشيع هذه الأقوال في المجتمع بالناس خيرًا؟ وهل إذا اجتمعت هذه الأمور في المجتمع واستمرأها وتفشت به فأصبحت النساء تخالط الرجال متكشفات متبرجات بزينة والرجال حليقوا اللحى ولا يصلون مع الجماعة في المسجد .. هل هذا هو المجتمع الذي يريده الله ورسوله؟ هل كان هكذا مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه؟
إنهم والله لا يريدون إلا إفساد المجتمع, وترقيق دينه, فاتخذوا الفتوى مطية لذلك.
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ : إن من يريد سلعة الله تعالى, ويريد ما عنده, ويريد أن يحقق المقصد الذي لأجله خلق الله تعالى الخلق بقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) .. إن من يريد ذلك فيجب عليه أن يأخذ دين الله بقوة: (خذوا ما آتيناكم بقوة), (يا يحيى خذ الكتاب بقوة).. فأمر الدين لا رخاوة فيه ولا تميع، ولا يقبل أنصاف الحلول, ولا الهزل ولا التراخي.. إنه عهد الله مع المؤمنين.. وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق.. وله تكاليف شاقة، نعم! ولكن هذه هي طبيعته. إنه أمر عظيم. أعظم من كل ما في هذا الوجود. فلا بد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، ولذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما نودي للتكليف: «مضى عهد النوم يا خديجة» .. وكما قال له ربه: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» ..
إننا نتعامل مع رب عليم .. سميع .. بصير.. .. يعلم خائنة الأعين .. ويعلم ما تخفي الصدور.. يعلم أنك أخذت بهذا القول لموافقته هوىً في نفسك أم لا.
روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كانَ أَكْثرُ دعائِهِ صلى الله عليه وسلم: يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي علَى دينِكَ, قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما أَكْثرَ دعاءِكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قَلبي علَى دينِكَ قال يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ فمَن شاءَ أقامَ ومن شاءَ أزاغَ), فَتلا معاذٌ: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)
إننا نشاهد كثيرًا من الناس يتسابقون في المجالس للإفتاء بغير علم , وإبداء آرائهم في المسائل الشرعية مصدرين كلامهم بقول: (أتوقع) أو (أظن), وما علم هؤلاء خطورة الفتوى بغير علم, وأن الفتوى ليست رأيًا صحفيًا, أو تحليلاً سياسيًا, وإنما هي توقيع عن رب العالمين, وإخبار بأن الله تعالى أحل ذلك أو حرمه, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار).
إن الدين لا يستنبط من العقل المجرد وإنما يستنبط من الأدلة الشرعية, وهو يوافق العقل ولا يخالفه.
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا).
لقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في الانقياد لدين الله والتمسك به .. كان الخمر قبل الإسلام منتشرًا بين أهل مكة والمدينة.. فلما نزل تحريم الخمر وقال الله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ), ونادى منادي رسول الله ألا إن الخمر قد حرمت, قال الصحابة رضوان الله تعالى عليه: انتهينا انتهينا .. فجَرَت سِكَكَ المدينة بالخمور من كثرة ما أريقت في الشوارع, وكان بعضهم قد رفعها إلى فيه ليشربها فما ذاقها وكسر الكأس التي كانت فيها.
إننا في هذا الزمن الذي تمور فيه الفتن حولنا نحتاج إلى القرب من الله, نحتاج إلى تمسك بدين الله تعالى, نحتاج إلى الإسلام الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه, ولا نحتاج إلى فتاوى ترقق الدين, وتبعد الناس عن رب العالمين, قال ابن المنكدر: (كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت).
إن من يريد الثبات على هذا الدين فيجب أن يُسلِّم لأوامر الله, وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم, ولا يقدم عليهما رأي أحد من الخلق.
اللهم ثبتنا على دينك حتى نلقاك, وخذ بنواصينا للبر والتقوى, ووفقنا للحق ودلنا عليه يا رب العالمين.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}, {ياَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً},(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد: أرأيتم لو أن رجلاً أصابه مرض في جسده, وأشرف على الهلاك, فذهب إلى الطبيب فصرف له دواء معينًا, وأخبره أن يستعمله بطريقة معينة, فلما خرج من عند الطبيب, قال: هذه وجهة نظر الطبيب وأنا أحترمها, لكن لن أستخدم هذا الدواء, فما تقولون في هذا الرجل؟
أرأيتم لو أن رجلاً آخر أصابه مرض فذهب إلى الطبيب فصرف له دواء معينًا, فلما انصرف وجد رجلاً خارج المشفى قد لبس زي الأطباء, فقال له: دعك من هذا الدواء, واستعمل الدواء الآخر, فماذا تقولون فيه؟
لا شك أنكم ستقولون عن هذين الرجلين أنهما مخطئين, وقد عَرَّضا أنفسهما للخطر والهلاك, إذ لم يسمعا كلام الأطباء, واستجابوا إلى رغبات أنفسهم أو إلى مجاهيل.
إن العناية بالأبدان والحرص عليها أمر محمود, وينبغي أن يَسعى الإنسان لما ينفعُه, ويتجنبَ ما يضرُه ويعرضُه للخطر.
لكن هناك أمرًا آخر ينبغي أن يكون حرص الإنسان فيه أشد من حرصه عن السؤال عن ما ينفع بدنه وصحته.. إنه السؤال عن الدين.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. لا شك أن دين الإنسان رأس ماله, فإذا تهاون في تحصيله ذهب أدراج الرياح.
إن العلمَ الشرعي وأحكامَ الدين كلُّها مما ينبغي للإنسان أن يحرص على استقائها من أهلها: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون), أمر الله تعالى عباده أن يسألوا إذا كانوا لا يعلمون .. ولم يأمرهم أن يسألوا أي أحد, وإنما أمرهم بسؤال أهل الذكر, وهم في مسائل الشرع العلماء والفقهاء.
ليس كلُّ من أطلق لحيته أو قصر ثوبه أصبح مفتيًا, وإنما يشترط في المفتي صفات منها أن يعرف بالعلم والتقوى والخوف من الله تعالى.
لقد كان السلف الصالح يحرصون أشد الحرص على السؤال عن أمور دينهم, قال محمد بن سيرين: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم), وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن كنتُ لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).
أيها الإخوة.. لقد فطن أقوام ممن لا يريد بهذه الأمة خيرًا إلى خطورة شأن الفتوى ومدى حساسيته وتأثيره في المجتمعات الإسلامية.
فحرصوا على إشاعة الأقوال الشاذة, والمسائل الخلافية التي تساهم في إضعاف تمسك المجتمع الإسلامي بدينه.
إن من وسائل التغريب للمجتمعات المسلمة ــ والتي لا يمكن إنكارها ــ إثارة مسائل الخلاف وتكبيرها وتضخيمها, وإقصاء الآراء الأخرى, وحشد وسائل الإعلام لنصرة الرأي الذي يذهب إليه هؤلاء.
ولعلم المفسدين أن للدين أثرًا على الناس فقد حرصوا أن يركبوا موجته, فيقولوا قولاً شرعيًا ليصلوا به إلى الباطل, تأملوا.. لماذا تهب بعض القنوات التي لم يعرف عنها إلا نشر الرقص والغناء والأفلام السيئة وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا, لماذا تهب لتقرير مسألة شرعية تخدم توجهها, وتستضيف من يخدم هذا التوجه, وتحشد الأدلة على ذلك, وتعقد البرامج الحواري والاستضافات لنصرة قول ما, أهي غيرة على الدين؟ أم رغبة في نشر الفضيلة؟ أم هو سلم يتخذ للوصول إلى الشهوات والملذات؟
لماذا لا نشاهد تلك القنوات تنشر الأقوال المجمَّع عليها بين أهل العلم في تحريم التفسخ والتعري, وتحريم إفساد المجتمعات بإثارة الغرائز, ونشر المنكرات وتطبيعها, لماذا لا ينشرون ذلك؟ أم هي شنشنة نعرفها من أخزم؟
إن إثارة المسائل الفقهية والدندنة حولها والتحجج بها حيال نصح الناصحين وسيلة من وسائل ترقيق الدين, فتجد من كان يعصي الله تعالى وهو مقر بذنبه, لكن غلبته نفسُه وشيطانُه, فيتوب ثم يعود, أصبح هذا الشخص يتكئ على قول فقهي وافق هواه لبعض العلماء ــ وقد يكون لا يعرف من هو هذا العالم ولا دليله ــ فيعصي ربه وهو مطمئن آمن بعد أن كان يرجو الله ويخافُ من ذنبه.
قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: ( من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام), وقال إسماعيل القاضي: (دخلت مرة على المعتضد فدفع إليَّ كتابًا فنظرت فيه, فإذا قد جُمع له فيه الرخص من زلل العلماء, فقلتُ: مصنِف هذا زنديق, فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: بلى؛ ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة, ومن أباح المتعة لم يبح الغناء, وما من عالم إلا وله زلة, ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دِينُه! فأمر بالكتاب فأُحرق), وقال سليمان التيمي: (لو أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله).
لقد أصبح بعض الناس إذا أنكرت عليه في مسألة معينة وأوردت له الأدلة الشرعية على حرمتها قال لك: "المسألة فيها خلاف"، وهكذا ضاعت فائدة النصوص لأنها صار يحكم عليها بالخلاف.
لقد أنزل الله النصوص لتحكم على الخلاف، وهؤلاء يصنعون العكس، فيحكمون بالخلاف على النصوص، والله تعالى يقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ), ويقول تعالى: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ), يقول الشاطبي رحمه الله: (وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار "الخلاف في المسائل" معدوداً فى حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم..، فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع؛ فيقال "لِمَ تمنع والمسألة مختلف فيها؟" فيُجعل الخلافُ حجة فى الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة) ا.هـ.
أيها الإخوة.. إن كثيرًا من وسائل الإعلام تطالعنا بين الفينة والأخرى بفتاوى وأقوال لا يراد منها إلا ترقيق دين الناس وإبعادهم عن التمسك به, فتارة يحدثوننا عن عدم وجوب صلاة الجماعة, وأخرى عن جواز الاختلاط, وثالثة عن عدم وجوب الحجاب, ورابعة عن جواز خروج المرأة من بيتها متجملة متمكيجة, وخامسة عن جواز حلق اللحية, وسادسة عن عدم أهمية حفظ القرآن وأنه لم يرد دليل في الحث عليه, وسابعة في جواز تمثيل المرأة في المسلسلات وتقديمها البرامج في الفضائيات , والقائمة تطول في ذلك ..
لكني هنا أتساءل هل يريد من يشيع هذه الأقوال في المجتمع بالناس خيرًا؟ وهل إذا اجتمعت هذه الأمور في المجتمع واستمرأها وتفشت به فأصبحت النساء تخالط الرجال متكشفات متبرجات بزينة والرجال حليقوا اللحى ولا يصلون مع الجماعة في المسجد .. هل هذا هو المجتمع الذي يريده الله ورسوله؟ هل كان هكذا مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه؟
إنهم والله لا يريدون إلا إفساد المجتمع, وترقيق دينه, فاتخذوا الفتوى مطية لذلك.
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ : إن من يريد سلعة الله تعالى, ويريد ما عنده, ويريد أن يحقق المقصد الذي لأجله خلق الله تعالى الخلق بقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) .. إن من يريد ذلك فيجب عليه أن يأخذ دين الله بقوة: (خذوا ما آتيناكم بقوة), (يا يحيى خذ الكتاب بقوة).. فأمر الدين لا رخاوة فيه ولا تميع، ولا يقبل أنصاف الحلول, ولا الهزل ولا التراخي.. إنه عهد الله مع المؤمنين.. وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق.. وله تكاليف شاقة، نعم! ولكن هذه هي طبيعته. إنه أمر عظيم. أعظم من كل ما في هذا الوجود. فلا بد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، ولذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما نودي للتكليف: «مضى عهد النوم يا خديجة» .. وكما قال له ربه: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» ..
إننا نتعامل مع رب عليم .. سميع .. بصير.. .. يعلم خائنة الأعين .. ويعلم ما تخفي الصدور.. يعلم أنك أخذت بهذا القول لموافقته هوىً في نفسك أم لا.
روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كانَ أَكْثرُ دعائِهِ صلى الله عليه وسلم: يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي علَى دينِكَ, قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما أَكْثرَ دعاءِكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قَلبي علَى دينِكَ قال يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ فمَن شاءَ أقامَ ومن شاءَ أزاغَ), فَتلا معاذٌ: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)
إننا نشاهد كثيرًا من الناس يتسابقون في المجالس للإفتاء بغير علم , وإبداء آرائهم في المسائل الشرعية مصدرين كلامهم بقول: (أتوقع) أو (أظن), وما علم هؤلاء خطورة الفتوى بغير علم, وأن الفتوى ليست رأيًا صحفيًا, أو تحليلاً سياسيًا, وإنما هي توقيع عن رب العالمين, وإخبار بأن الله تعالى أحل ذلك أو حرمه, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار).
إن الدين لا يستنبط من العقل المجرد وإنما يستنبط من الأدلة الشرعية, وهو يوافق العقل ولا يخالفه.
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا).
لقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في الانقياد لدين الله والتمسك به .. كان الخمر قبل الإسلام منتشرًا بين أهل مكة والمدينة.. فلما نزل تحريم الخمر وقال الله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ), ونادى منادي رسول الله ألا إن الخمر قد حرمت, قال الصحابة رضوان الله تعالى عليه: انتهينا انتهينا .. فجَرَت سِكَكَ المدينة بالخمور من كثرة ما أريقت في الشوارع, وكان بعضهم قد رفعها إلى فيه ليشربها فما ذاقها وكسر الكأس التي كانت فيها.
إننا في هذا الزمن الذي تمور فيه الفتن حولنا نحتاج إلى القرب من الله, نحتاج إلى تمسك بدين الله تعالى, نحتاج إلى الإسلام الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه, ولا نحتاج إلى فتاوى ترقق الدين, وتبعد الناس عن رب العالمين, قال ابن المنكدر: (كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت).
إن من يريد الثبات على هذا الدين فيجب أن يُسلِّم لأوامر الله, وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم, ولا يقدم عليهما رأي أحد من الخلق.
اللهم ثبتنا على دينك حتى نلقاك, وخذ بنواصينا للبر والتقوى, ووفقنا للحق ودلنا عليه يا رب العالمين.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
ترقيق الدين بالفتوى 27-2-1436.doc
ترقيق الدين بالفتوى 27-2-1436.doc
المشاهدات 2386 | التعليقات 2
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
بورك فيك ونفع الله بك وزادك من فضله وخيره وإحسانه يا شيخ عبدالله لا حرمنا ربي حضورك.
تعديل التعليق