تذكيرُ الإنسانْ -بِقِيامِ الأبدانْ
خالد علي أبا الخيل
تذكيرُ الإنسانْ -بِقِيامِ الأبدانْ
التاريخ: الجمعة:27-شوال-1438 هـ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه أجمعين.
أما بعد،،
عباد الله فاتقوا الله واتقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله، عباد الله تصور الآخرة، وتذكر الموقف في الآخرة، وشيءٍ من أهوال القيامة ليردع المؤمن عن الأعمال السيئة، ويزيده من الأعمال الصالحة، ويوقظه من سِنة الغفلة، ويستفيد لما أمامه من الموت فما بعده! فإليك شيءٌ من تصورها، وطرفٌ من أخبارها، علها تكون للأعمال الصالحة حافزة، وعن الأعمال السيئة حاجزة، والمقام أعظم من أن يُوصف ويُطلب فيه ويُعرف.
فيا أيها الغافل المهمل المفرط وكلنا كذلك انتبه! وتصور صرعة الموت لنفسك، وتصور نزعه لروحك، وتصور كُربه وسكراته، وتصور بدو الملك لجذب روحك من قدميك، ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنك، حتى إذا بلغ منك الكرب والوجع والألم منتهاه، وعمت الآلام جميع بدنك، وقلبك وجلٌ محزونٌ منتظرٌ إما البشرى من الله بالرضا، وإما بالغضب.
فبينما أنت في كربك وهمومك، وشدة حزنك لارتقاء بك إحدى البُشريين، إن سمعت صوته إما بما يسرك، وإما بما يغمك، وقلبك حين انقضت من الدنيا مدته، وأنقطع منها أثرك، وحُملت إلى دار من سلف من الأمم قبلك، وتصور نفسك حين استطار قلبك فرحًا وسرورًا، أو مُلئ رعبًا وحزنًا، وبزيارة القبر وهول مطلعه، وروعة الملكين منكرٌ نكير، وسؤالهما لك في القبر عن ثلاثة أسئلة ما فيها تخيير، الأول: من ربك؟ والثاني: ما دينك؟ والثالث: من نبيك؟ فتصور أصواتهما عند ندائهما لك.
وللمرء يوم ينقضي فيه عمره |
وموتٌ وقبرٌ ضيقٌ فيه يُولجُ |
ويلقى نكيرًا في السؤال ومنكرًا |
يسومان بالتنكيل من يتلجلجُ |
تفكر في مشيبك والمآب |
ودفنك بعد عزك في التراب |
إذا وافيت قبرًا أنت فيه |
تقيم به إلى يوم الحساب |
وفي أوصال جسمك حين تبقى |
مقطعةً ممزقة الإهابِ |
فلولا القبر صار عليك سترًا |
لأنتنت الأباطح والروابي |
خلقت من التراب فصرت حيًا |
وعُلمت الفصيح من الخطاب |
فطلق هذه الدنيا ثلاثًا |
وبادر قبل موتك بالمتاب |
نصحتك فاستمع قولي ونصحي |
فمثلك قد يُدل على الصواب |
خُلقنا للممات ولو تُركنا |
لضاق بنا الفسيح من الرحاب |
ينادي في صبيحة كل يومٍ |
لدو الموت وابنوا للخراب |
ثم تصور كيف شعورك إن ثبتك الله، ونظرت إلى ما أعد الله لك، وقولهما لك هذا منزلك ومصيرك، فتصور فرحك وسرورك بما تعاينه من النعيم، وإن كان الأخرى فتصور ضد ذلك من انتهازك ومعاينتك جهنم، وقولهما لك: هذا منزلك ومصيرك، ثم بعد ذلك الفناء والبلاء حتى تنقطع الأوصال، وتتفتت العظام، ويبلى جسدك ويستمر حزنك، فيا حسرة روحك وغمومها وهمومها، حتى إذا تكاملت عدة الأموات، وقد بقي الجبار الأعلى منفردًا بعظمته وجلاله وكبريائه، ثم لم يفاجئك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله.
(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ(41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ(42))(ق: 41-42)، يأمر الله ملكًا ينادي أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء، فتصوروا وقوع الصوت في سمعك، ودعائك إلى العرض على مالك الملك، فيطير فؤادك، ويشيب رأسك.
(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ(13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ(14))(النازعات: 13-14)، فبينما أنت في فزعٍ من الصوت إذ سمعت بانشقاق الأرض، فخرجت مغبرًا من غبار قبرك، (يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا)(ق:44)، (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ)(القمر:7) فتصور تعريك ومذلتك، وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك وغمومك في زحمة الخلائق، (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)(القلم:43)، (وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)(طه:108)، (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ(7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ(8))(القمر: 7-8).
ثم تصور إقبال الوحوش من البراري منكسة رؤوسها لهول يوم القيامة، فبعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذلت ليوم النشور (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (التكوير:5)، وتصور تكوير الشمس، وتناثر النجوم، وانشقاق السماء من فوق الخلائق مع كثافة سمكها، فيا هول صوت ذلك الانشقاق! والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء (وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ(16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا(17))(الحاقة: 16-17)، (فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)(الرحمن:37)، (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)(المعارج:8) قيل كالفضة المذابة أو الرصاص المذاب، (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)(المزمل:17) فتصور وقوفك مفردًا عريانًا حافيًا، وقد أُدنيت الشمس من رؤوس الخلائق، ولا ظل لأحدٍ إلا ظل الله.
فبينما أنت على تلك الحال المزعجة اشتد الكرب والوهج من حر الشمس، ثم ازدحمت الأمم وتدافعت، وتضايقت، واختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف العظيم، وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس، وازدحام الأجسام، والعطش تضاعف، ولا نوم ولا راحة، وفاض عرقهم على الأرض حتى استنقع ثم ارتفع على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم.
ثم تصور مجيء جهنم تُقاد ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمامٍ سبعون ألف ملكٍ يجرونها، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)(الفجر:23)، فلا يبقى ملكٌ مقرب، ولا نبيٌ مرسل إلا جثا لركبته، يقول: يا ربي نفسي نفسي، فتصور ذلك الموقف المهيل المفزع، الذي قد ملئ القلوب رعبًا وخوفًا وقلقًا وذعرًا، يا له من موقفٍ ومنظرٍ مزعج! وأنت لا محالة فتوهم نفسك لكربك وقد علاك العرق والفزع، (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(الشورى:7).
فتصور أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم منفردٌ كل واحد بنفسه، ينادي نفسي نفسي، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا)(النحل:111)، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35)(عبس: 34-35).
فتصور نفسك وحالتك عندما يتبرأ منك الولد والوالد والأخ والصاحب؛ لما في ذلك اليوم من المزعجات والقلائق والأهوال، ولولا عظم هول ذلك اليوم ما كان من الكرم والمروءة والحفاظ أن تفر من أمك أو أبيك أو أخيك وبنيك، ولكن عظم الخطر وشدة الكرب والهول اضطرك إلى ذلك، فلا تُلام على فرارك منهم، ولا لوم عليهم إذا فروا منك (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)(عبس:37)، (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2))(الحج: 1-2)، فبينما أنت في تلك الحالة مملوء الرعب، وقد بلغت القلوب الحناجر من شدة الأهوال والمزعجات، إذ ارتفع عنقٌ من النار يلتقط من أُمر بأخذه.
ثم تصور الميزان وعظمته وقد نُصب لوزن الأعمال، وتصور الكتب المتطايرة في الأيمان والشمائل، وقلبك واجفٌ مملوء خوفًا، متوقعٌ أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(8))(الانشقاق:7-8)، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11))(الانشقاق: 10-11).
فيا لها من مواقف! ويا لها من أهوال! ويا لها من خطواتٍ مجرد تصورها يُبكي المؤمن، وتصور بينما أنت واقفٌ مع الخلائق الذي لا يعلم عددهم إلا الله، إذ نُودي باسمك على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين، أين فلان بن فلان؟ قد هلم إلى العرض على الله، فقمت أنت لا يقوم غيرك لما لزم قلبك من العلم بأنك المطلوب، فقمت ترتعد فرائسك، وتضطرب رجلاك وجميع جوارحك وقلبك من شدة الخوف (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ)(غافر:18).
فتصور خوفك وذُلك وضعفك، وانهيار أعصابك، وقواك متغير اللون كمرعوب، قد حل بك الغم والهم والاضطراب والقلق والذهول لما أصابك (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى)(الحج:2)، (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)(المزمل:17).
وتصور وقوفك بين يدي بديع السماوات والأرض، الذي الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطوياتٌ بيمينه، القوي العزيز، فبأي لسانٍ تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك! وبأي قدمٍ تقف غدًا بين يديه! وبأي طرفٍ تنظر إليه! وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم!
وتصور نفسك بهذه الهيئة والأهوال محدقةٌ بك من جوانبك ومن خلفك، فكم من كبيرةٍ قد نسيتها أثبتها عليك الملك! وكم من بليةٍ أحدثتها فذكرتها! وكم من سريرةٍ قد كنت كتمتها قد ظهرت وبدت! وكم عملٍ قد كنت تظن أنه قد خلص لك! فإذا هو بالرياء قد حبط بعدما كان أملك فيه عظيمًا.
فيا حسرة قلبك وتأسفك على ما فرطت من طاعة ربك (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)(الزمر:56)، (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(مريم:39) حتى إذا كُرر عليك السؤال بذكر البلايا، ونشرت مخبئاتك التي طالما أخفيتها وسترتها عند مخلوق مثلك، لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعًا، ولقد ظهرت قلة هيبتك لله، وقلة حيائك منه، وظهرت مبارزتك له بفعل ما نهاك عنه، فما ظنك من قدمت لها سمعك من عظمته وجلاله وكبريائه!
إذ ذكرك مخالفتك له، وركوبك معاصيه، وقلة اهتمامك بنهيه، ونظره إليه، وماذا تقول إذ قال لك يا عبدي ما أجللتني! أما استحييت مني! أما راقبتني! استخففت بنظري إليك، ألم أحسن إليك! ألم أنعم عليك! ما غرك مني! شبابك فيما أبليته! وعمرك فينا أفنيته! ومالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته! وعلمك ماذا عملت به!
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليقفنَّ أحدكم يوم القيامة بين يدي الله ليس بينه وبينه حاجبٌ يحجبه، فيقول: ألم أنعم عليك! ألم آتك مالًا! فيقول: بلى)، فأعظم به موقفًا، وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية على ما فرطت في طاعته، وعلى ركوبك معصيته، وعلى أوقاتٍ ضاعت عند الملاهي والمنكرات، قال الله عن حال المجرمين المفرطين: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)(السجدة:12)، (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ(51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(52))(سبأ:51-52).
وكيف تثبت رجلاك عند الوقوف بين يديه! وكيف يقدر على الكلام لسانك عندما يسألك الحي القيوم! إلا أن يثبتك الله، فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن بدا لك منه أحد أمرين؛ إما الغضب أو الرضا، فإما أن يقول: يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فقد غفرت لك كبير جرمك وكبير سيئاتك، وتقبلت منك يسير إحسانك، فيستطير قلبك بالبهجة والفرح والسرور، فيشرق ويستنير، فتصور نفسك حينما يُقال لك وتهدأ نفسك، ويطمئن قلبك وينور وجهك بعد كآبته، وتصور رضاه عنك حينما تسمعه منه، فصار في قلبك فامتلئ سرورًا، أو كدت أن تموت من الفرح، وإن تكن الأخرى فعفوك يا مولى.
فاللهم أسعدنا في الوقوف بين يديك، اللهم أسعدنا في الوقوف بين يديك، وأرحم ضعفنا بين يديك، وظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولك، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وتصور الصراط؛ وهو الجسر المنصوب على متن جهنم قدامك، وتصور ما يحل بك من الوجل والخوف الشديد، حين رفعت طرفك فنظرت إليه بدقته، وجهنم تضطرب وتتغيظ وتخفق بأمواجها من تحته، فيا له من منظر ما أفظعه وأهوله! وسماعك شهيقها وتغيظها وقصف أمواجها، وقد أُمرت بالمرور عليه، فتصور مرورك عليه بضعفك، وثقلك وأوزارك، وقلة حيلتك، وأنت مندهشٌ مما تحتك، وأمامك ممن يئنون ويزنون، وقد تنكست هاماتهم وارتفعت أرجلهم، وآخرون يُختطفون بالكلاليب، وتسمع العويل والبكاء والأصوات المزعجات، فيا له من منظرٍ فظيع ومرتقى ما أصعبه! ومجازٍ ما أضيقه! ومكانٍ ما أهوله! وموقفٍ ما أشقه!
وكأني بك مملوءً من الذعر والرعب والقلق، ملتفتًا يمينًا وشمالًا إلى من حولك من الخلق، وهم يتهافتون قدامك في جهنم، وأنت تخشى أن تتبعهم، فتصور هذا بعقلك مادمت في قيد الحياة، قبل أن يُحال بينك وبينه، فلا يفيدك التفكير، لعلك أن تتلافى تفريطك، وتحاسب نفسك قبل أن يفوت الأوان، وتصور سماعك لنداء النار بقوله عز وجل: هل امتلئتي؟ وسمع إجابتها له هل من مزيد، وتذكر طعام أهل النار (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)(محمد:15)، (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ(17))(إبراهيم:16-17)، والحميم شرابٌ كالنحاس المذاب يُقطع الأحشاء والأمعاء.
وتذكر (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)(الرحمن:44)، وتذكر (إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ(71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72))(غافر:71-72)، فقدر نفسك مع الضائعين والخاسرين، لعلك أن تلحق بالأبرار والمقربين.
وتصور حالتك لما اشتد بك الكرب والعطش، وبلغ منك كل مبلغ، وذكرت الجنان وما فيها من النعيم المقيم، والعيش السليم، وهاجت الأحزان، وهاجت غصةٌ في فؤادك إلى حلقك أسفًا على ما فات من رضا الله، وحزنًا على نعيم الجنان، ثم ذكرت شرابًا وبرد ماءها، وذكرت أن فيها بعض القرابة من أبٍ أو أمٍ أو ابنٍ أو أخٍ أو غيرهم، أو الأصدقاء في الدنيا، فناديتهم بقلبٍ محزونٍ محترقٍ تطلب منهم ماءً أو نحوه، فأجابوك بالرد والغيبة، فتقطع قلبك حسرةً وأسفًا (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)(الأعراف:50)، فيا خيبة من هذا حاله وهذا مآله!
وتذكر حينما يُقال لأهل النار (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ)(المؤمنون:108)، فعلموا عند ذلك أن لا فرج أبدًا ولا مخرج، ولا محيص لهم من عذاب الله، خلودٌ فلا موت، وعذابٌ لا زوال له عن أبدانهم، ودوام حرق قلوبهم، أحزانٌ لا تنقضي، وهمومٌ وغمومٌ لا تنفذ، وسقمٌ لا يبرأ، وقيودٌ لا تُحل، وأغلالٌ لا تفك (إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ(71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72))(غافر:71-72)، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ(19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ(20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ(21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(22))(الحج: 19-22) لا يُرحم بكاؤهم، ولا يُجاب دعاؤهم، ولا يُغاثون عند تضرعهم، ولا تُقبل توبتهم، لا تُقال عسرتهم، غضب الله عليهم فلا يرضى عنهم أبدًا.
فلو رأيت المعذبين وقد أكلت النار لحومهم، ومحت محاسن وجوههم، واندثر تخطيطهم، فبقيت العظام محترقةٌ مسودة، وقد قلقوا من شدة العذاب الأليم، وهم ينادون بالويل والثبور، ويصرخون بالبكاء والعويل (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)(فاطر:37).
فتصور تلك الأهوال والعظائم بعقلٍ فارغٍ وعزيمةٍ صادقة، وراجع نفسك مادمت في قيد الحياة، وتب إلى الله توبةً نصوحًا عما يكرهه مولاك، وتضرع إليه، وأبكي من خشيته لعله يرحمك، ويُقيل عسرتك، فإن الخطر عظيم، والبدن ضعيف، والموت منك قريب.
مثَّل وقوفك يوم الحشر عريانًا |
مستعطفًا قلقًا الأحشاء حيرانًا |
النار تزفر من غيظ ومن حنقٍ |
على العصاة وتلقى الرب غضبانًا |
أقرأ كتابك يا عبدي على مهلٍ |
وأنظر إليه ترى هل كان ما كان |
لما قرأت كتابًا لا يغادر لي حرفًا |
وما كان في سرٍ وإعلانًا |
قال الجليل خذوه يا ملائكتي |
مُروا بعبدي إلى النيران عطشانًا |
يا ربي لا تخذنا يوم الحساب |
ولا تجعل لنارك فينا اليوم سلطانًا |
(رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) (الفرقان:65).
والله أعلم
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
سلم الله شيخنا خالد على خطبه القيمة والمفيدة والنافعة .. قد أحسنت وأخذت بلباب عقولنا في هذه الرحلة المفزعة
نسأل الله أن يعافينا وإيامكم وألا يخيب رجاءنا في رحمته وعفوه
تعديل التعليق