تذكر الموت وأثره بالاستقامة.

عبد الله بن علي الطريف
1445/05/02 - 2023/11/16 20:33PM

تذكر الموت وأثره بالاستقامة..    3/5/1445هـ

أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). [آل عمران:102]

أيها الأحبة: لقد خلقنا الله وأخرجنا إلى هذه الحياة دون رأي منا ولا مشورة، وهو تعالى يُنْهى هذه الحياة دون علم منا بوقت ذلك ولا مشورة، قال الله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ* ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ). [عبس:17 – 22].. ويقول جل ذكره: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88] ويقول: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:27].

وإن انتهاء الحياة أمرٌ محتوم لا جدال فيه، ونهايتُها تكون إما بهلاك جميع الأحياء إلا من شاء سبحانه، وهلاكهم يكون بالنفخ في الصور قال الله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ...) [الزمر:68] تلكم النفخة الهائلة المدمرة التي إذا سمعها المرء لا يستطيعُ أن يوصي بشيء، ولا يقدر على العودة إلى أهله قال الله تعالى: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ* فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ). [يس: 50،49] وعن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا من حديث طويل يرفعه للنبي ﷺ وفيه: «ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. (أي أمال صفحة عنقه ليسمع) قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ قَالَ: فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ». رواه مسلم. وقد ذكر النَّبِيُّ ﷺ عن سرعة هلاك العباد يوم تقوم الساعة عجباً.. قَالَ: «وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا». رواه البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ومن لم يدرك ذلك من الأحياء تكون نهايته بالموت.. بالوقت الذي كتبه الله عليه، ومن مات قامت قيامته، يقول سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). [آل عمران:185] والموت حق على الإنس والجن فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ». رواه مسلم وروى البخاري بعضه.

أيها الإخوة: وللموت وقته المحدد، فقد قَدَرَ اللهُ تعالى آجالَ العبادِ ولن يتجاوز قَدَرَهُ أحد.. ولا يستطيع أحدٌ أن يرده، وأجرى بها القلم فهي مكتوبة عنده في اللوح المحفوظ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ رَبِّ: وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ». رواه أبو داود والترمذي عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني. ويكتبُ الملكُ الكريم عليه السلام على جبين كل جنين وهو في بطن أمه أجلَه وينفخُ فيه الروح. قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ». رواه البخاري وغيره عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. إذًا من مَاتَ مات بأجله الذي قدره الله تعالى وأمضاه فقد قال: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا).. [آل عمران:145] ويقول: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). [الجمعة:8] ويقول: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ). [الأعراف:34]

وكما أخفى عنا سبحانه وقت الموت أخفى عنا مكانه، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). [لقمان:34] قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَرَادَ قَبْضَ رُوحِ عَبْدٍ بِأَرْضٍ، جَعَلَ لَهُ فِيهَا أَوْ بِهَا حَاجَةً». رواه أحمد وغيره عَنْ أَبِي عَزَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو صحيح قال السندي: قوله: جعل له فيها حاجة أي: ليذهب إليها فيموت بها.

أيها الأحبة: لقد تقرر عندنا أن الإنسان سيعيش في الدنيا زمنا مقدرًا، ثم يتركها للقاء ربه، فمن الحزم أن نداوم على تذكر هذه النهاية الحتمية وهي الموت.. ولقد أرشدنا رسول الله ﷺ إلى عملٍ فريد يعيننا على ذلك متى داومنا عليه، وهذا العمل دوام تذكر هادم اللذات أو هاذم اللذات: أي الموت. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ». رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقال الألباني حسن صحيح. وفي رواية قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْه أحدٌ في ضِيقٍ من العَيْشِ إلا وَسَّعَهُ عليه، ولا ذَكَرَهُ في سَعَةٍ إلا ضَيَّقَها عَلَيه». ذكره الجامع الصغير وحسنه الألباني. قوله هاذم اللذات: بالذال بمعنى قاطعها، وبالدال من الهَدَم. والمراد أن الموتَ، هو هاذمُ اللذات لأن من يَذْكُرُه يَزْهَدُ فيها.. وهادم اللذات لأنه إذا جاء ما يُبْقِي مِن لذائذ الدنيا شيئاً.

أحبتي: تذكرنا للموت يجعلنا نتذكر الآخرة وما ينتظرنا فيها من حساب دقيق، وهذا يدفعنا لإعادةِ النظرِ فيما قدّمنا من أعمال، وتدارك الأخطاء، والتوبة النصوح قبل أن يباغتنا الموت فلا تنفعنا التوبة. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ». رواه الترمذي وغيره عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وهو حديث حسن. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْكِبِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ». وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ". رواه البخاري

أيها الإخوة: تذكُّر الموت مع فهم معناه هو الذي يقضي على البغي في المجتمع.. تذكر الموت مع معرفة حقيقته هو الذي يُنهى الظلم والطغيان في المجتمع.. تذكر الموت مع فهم حقيقته هو الذي يجتث الفساد من جذوره من جوانب المجتمع.. تذكر الموت مع فهم حقيقته هو الذي يقي المجتمع من الانزلاق في مهاوي الفساد ومواقع الضلال.. تذكر الموت مع فهم حقيقته هو الذي هو يدفع المسلم للعمل الصالح ويبعده عن اقتراف الآثام.. تذكر الموت مع فهم حقيقته يورث القناعة، ويُصغر المصائب وعَوَارِضَ الزمن.. نتذكر الموت لنُحْسن الاستعداد لما بعده بالعمل والطاعة والاجتهاد في العبادة.. وبالجملة فتذكر الموت أعظم مغير للإنسان إلى الأفضل.. أسأل الله تعالى أن يوفقنا لتذكر الموت في معظم أحوالنا والاعتبار بذلك والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد...

الخطبة الثانية:

أما بعد يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون. أيها الأحبة: إن علينا أن نحمل أنفسنا ونربيها على تذكر الموت بين الفينة والأخرى، ولا ندع تذكره للصدف.. وإذا أحسسنا بقسوة في القلب ولهفة على الدنيا علينا أن نسارع لعلاج أنفسنا بتذكر الموت بأي طريق يذكرنا..

وما نراه في المقابرِ أعظمُ وأكبرُ مُعْتَبَر، فحامل الجنازة اليوم محمولٌ غدًا.. ومن يرجع من المقبرة إلى بيته سيُرجعُ عنه غدًا.. ويُترك في قبره وحيدًا فريدًا مرتهنًا بعمله، فإن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر..

أين الذين بلغوا المنى فما لهم في المنى منازع؟! جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا، بنوا مساكنهم فما سكنوا.. ولكننا ننسى الموت، ونسبح في بحر الحياة وكأننا مخلدون في هذه الدار، قال أويس القرني رحمه الله: توسّدوا الموت إذا نمتم، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم.

والاستعداد للموت يكون بتحقيق التوحيد وهجر المنكرات وترك المعاصي ورد المظالم والحقوق إلى أهلها.. والاستعداد للموت يتم بإزالة الشحناء والبغضاء والعداوة من القلوب.. والاستعداد للموت يكون ببر الوالدين وصلة الرحم. وقد قيل: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوجل بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة.

أحبتي: متى يستعد للموت من تظلله سحائب الهوى ويسير في أودية الغفلة.؟! متى يستعد للموت من لا يبالي بأمر الله في حلال أو حرام.؟! متى يستعد للموت من تهاون بالصلاة ولم يؤدها في وقتها.. متى يستعد للموت مَن أكل أموال الناس بالباطل وأكل الربا.؟! كيف يكون مستعدًا للموت من لوث لسانه بالغيبة ولم يستغفر منها ومن سعى بالنميمة، وامتلأ قلبه بالحقد والحسد، وضيع أوقات عُمره في تتبع عورات المسلمين والوقوع في أعراضهم.؟!

وبعد أحبتي: لنعلنها الآن بيننا وبين أنفسنا توبة إلى الله قبل أن نموت.. ولنحذر جميعًا من أن نكون ممن يرجو الآخرة بغير عمل.. ويؤخر التوبة لطول الأمل، وقد علمنا أن الموت يأتي بغتة.. وعلينا أن نكثر من زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة، وأن نعتبر بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، جاءه الموت في وقت لم يحتسبه وهولٍ لم يرتقبه.

تؤمل في الدنيا طويلا ولا تــدري        إذا جــــن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيح مات من غير علة    وكم من مريض عاش حينا من دهر

عباد الله صلوا على نبيكم....

 

المشاهدات 4284 | التعليقات 0